أثّرت في موزارت وبيتهوفن! تعرّف على الفرقة العثمانية التي غيّرت في الموسيقى الأوروبية: المهتر

من المشهور أنّ الموسيقى التركيّة متأثره بالغرب كما هي متأثرة بالشرق، وذلك لموقع تركيا بين الشرق والغرب. لكنّ ما قد لا تعرفه، أن موسيقى تركيّة كان لها تأثير ضخم وكبير في الموسيقى الغربيّة نفسها، تلك هي: موسيقى المهتر العسكريّة التركيّة.

عربي بوست
تم النشر: 2020/04/14 الساعة 15:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/07/28 الساعة 10:54 بتوقيت غرينتش
فرقة موسيقى المهتر

من المشهور أنّ الموسيقى التركيّة متأثره بالغرب كما هي متأثرة بالشرق، وذلك لموقع تركيا المركزيّ بين الشرق والغرب. لكنّ ما قد لا تعرفه، أن موسيقى تركيّة كان لها تأثير ضخم وكبير في الموسيقى الغربيّة نفسها، تلك هي: موسيقى المهتر العسكريّة التركيّة.

في هذه المادة سنتعرّف سوياً على فرقةٍ موسيقيّة عثمانيّة عريقة، إذ ترجع أصولها إلى أكثر من 700 سنة، وما زالت حتى الآن تعزف في تركيا وفي العديد من دول العالم أيضاً، كما أنها أثرت بشكلٍ كبير في الموسيقى الغربيّة، وفي هذا التقرير سنتعرّف أكثر عليها.

لهذه الفرقة الموسيقيّة أصول، إذ يقف أعضاء فرقة المهتر مكوِّنين شكل هلال – رمز العلم العثماني والتركي وهو يرمز للإسلام، ويظهر الطبال في الأمام قليلاً، ليُشبه نجماً يتوسَّط ذلك الهلال؛ وقبل بدء الفرقة في العزف، يخطو أحد ضباط الصفّ خطوةً للأمام، ويصيح معلناً: "انتباه حضرة رئيس الفرقة، حان وقت السعادة والمرح!". ثم يبدأ الحفل بهتاف رئيس الفرقة قائلاً :"هيا، لنبدأ!".

استمع هنا لموسيقى الحرب العثمانية المسمّاة "مارش الهجوم":

المهتر خانة.. موسيقى الجيش العثماني

كانت المهتر خانة، أو الجوقة التركية العسكرية، سمةً مميزة للجيش العثماني، ويشير مصطلح المهتر خانة (أي بيت المهتر) إلى فرقٍ موسيقية شُكِّلت لأغراضٍ ومراسم عسكرية عثمانيّة. كان يُطلق على المهتر خانة أحياناً اسم Davulhane، وهي كلمة تركية تعني "بيت الطبول"، أما في الغرب، فتُسمَّى موسيقى المهتر وما شابهها أحياناً موسيقى الإنكشارية. وفق بحثٍ مطوّل نشره موقع جامعة ريزا التركية.

مثَّل الإنكشاريون (Yeniçeri) النخبة العسكرية لجيش الإمبراطورية العثمانية، الذين بدا أنَّهم شكّلوا أول فرقة مهتر رسمية قرابة عام 1330، وكانت المهتر خانة وثيقة الارتباط بالإنكشاريين طوال العهد العثماني.

لكنّ إنشاء موسيقى المهتر لم يكن الشاهد الأوّل على استخدام الجيش العثماني للموسيقى، فهناك سجلاتٌ سابقة تُظهر أنَّ إهداء حاكم تركي الفرق العسكرية إلى حاكمٍ آخر عادة قديمة لدى الأتراك، أي قبل الدولة العثمانية نفسها.

بينما تحكي تأريخاتٌ صينية عن زيارة جنرال صيني لملكٍ تركيّ عام 200 قبل الميلاد. وتحوي وصفاً لفرقةٍ يحمل أغلب أعضائها آلاتٍ إيقاعيّة، بما في ذلك أداةً تشبه الزورنا (مزمار تركي) ونوع من الأبواق، إضافة إلى وصفٍ لفرقةٍ مماثلة أنشأها الجنرال لجيشه. لذلك يمكن افتراض أنَّه حتى في عام 1330، كانت المهتر قد توارثت تقليداً راسخاً بالفعل في الموسيقى العسكرية التركية، السابقة للدولة العثمانية في سهوب آسيا.

أما عن الكلمة، فهناك سرديّتان محتملتان لأصل كلمة مهتر؛ يقول بعض الناس إنَّها كلمةٌ فارسية الأصل تعني "الهلال"، بينما يرى آخرون أنَّ أصلها كلمة فارسية أخرى تعني "الخادم"، وتُستخدم كلمة مهتر الآن للإشارة إلى الفرقة نفسها وإلى نوع الموسيقى التي تقدمها، فاسمها: موسيقى المهتر أو فرقة المهتر.

للسلطان فرقة والوزراء والولاة.. أنواع فرق المهتر والاختلافات بينها

قبل الحديث عن تأثير الموسيقى العسكرية العثمانية في الموسيقى الأوروبية، دعنا نفصّل أكثر في تركيبة الفرقة. فقد يبدو لك أنّ فرقة المهتر هي نوعٌ واحد، لكنّ هذا ليس صحيحاً، فهناك أنواعٌ عديدة.

هناك مثلاً فرقة المهتر الأهم وهي الخاصة بالسلطان، كان لكلٍّ من الصدر الأعظم، والولاة، وحكام المقاطعات، وقائد الإنكشارية، فرقة خاصة بهم. وتذكر دراسةٌ نشرتها جامعة ريزا التركية أنَّه في عهد السلطان سليم الثالث (1789 – 1808)، ازداد عدد فرق المهتر الرسمية من 177 فرقة إلى 200!

وتنقسم كل فرقة من فرق المهتر بدورها إلى عدّة أقسام، ويشير عدد الأقسام في الفرقة إلى أهميّة الشخص الذي تعزف له المهتر. أي أنَّ فرقة المهتر التي تعزف للصدر الأعظم قد تتكوّن من 9 أقسام، بينما تتكون فرقة المهتر التي تعزف لأحد الحكام من 7 أقسام، أما الفرق غير الرسمية التي تستخدمها المنظمات التجارية للعزف في أحد العروض على سبيل المثال، فلا تتكون سوى من 3 أو 5 أقسام.

إحدى مقطوعات الحرب من موسيقى المهتر:

يختلف أحياناً اختيار الآلات الموسيقية عند الاستعداد للمعارك أو الاحتفالات، لكنَّ جميع أقسام المهتر تضمُّ في الأغلب آلات الزورنا (وهي عبارة عن قصبة مزدوجة لها صوت عالٍ جداً)، والبوق، والنقارة وهي طبول صغيرة الحجم، الدافول وهي طبلة كبيرة أسطوانية الشكل وعميقة الصوت، وآلة الزيل وهي زوجان من الصنج.

وتُضاف أيضاً مجموعة من الكوس وهي طبلة كبيرة عادة ما يُستخدم منها زوجين، إلى المهتر الخاص بالسلطان في المناسبات الاحتفالية، وإلى مهتر القائد الأعلى للإنكشارية ونائبه عند المعارك.

أمّا في المناسبات الاحتفالية أو الحفلات الموسيقية، فيقف عازفو فرقة المهتر – باستثناء عازفي النقارة، فيظلُّون جالسين – في شكل نصف دائرة يتوسّطها عازفو الكوس.

في المعارك، يمتطي عازفو الآلات الضخمة هم وآلاتهم الخيول أو الجمال. وقد ذكر أحد المصادر أنَّه ذات مرة، حُملت آلات الكوس على ظهور أفيال.

وقد عزفت فرق المهتر في مناسباتٍ كثيرة غير المعارك، إذ أدّت موسيقاها في عروضٍ نُظِّمَت أثناء الاستعداد للذهاب إلى الحرب مثلاً، وفي المهرجانات، وحفلات الزفاف، وأعياد ميلاد أطفال السلطان، وفي المناسبات الدبلوماسية، وحفلات الاستقبال الحكومية، بل وعزفت فرقة المهتر الملكية أحياناً أثناء حلاقة السلطان!

موسيقى فرقة الجمهورية التركية الحالية

أمّا بالنسبة للملبس، فكان رئيس المهتر، أو المايسترو، وقادة كلّ مجموعةٍ من الآلات يرتدون أثواباً حمراء بأكمامٍ واسعة بحسب المناسبة. ويضعون فوق رؤوسهم عماماتٍ حمراء ملفوفة بنسيجٍ شفاف أبيض، وفي أرجلهم سروايل ضيقة حمراء أيضاً، بينما تكتنف أقدامهم أحذية قصيرة مصنوعة من جلدٍ مغربيٍّ أصفر (sahtiyan).

أمّا الأعضاء الآخرون في الفرقة فيرتدون عمائم خضراء ملفوفة بنسيجٍ شفافٍ أبيض، وكانت أثوابهم أرجوانية اللون، أو داكنة الزرقة، أو سوداء، وكانوا يرتدون أيضاً سراويل ضيقة حمراء، وأحذية مصنوعة من جلد مغربي أحمر اللون.

ونظراً لأنَّ فرق المهتر كانت وثيقة الارتباط بالقوات العسكرية الانكشارية، فقد قرر السلطان محمود الثاني حلها عندما ألغى تلك القوات عام 1826. وفي عام 1827، أنشئت فرقةٌ جديدة للجيش العثماني الحديث، التي كان من المفترض أن تكون على طرازٍ غربي، إذ تعاقد الجيش مع عدد من الإيطاليين لإدارتها، وكُلفوا بكتابة مارشات موسيقية عسكرية من أجلها.

انقسمت هذه الفرقة في النهاية إلى الفرقة الجمهورية (أصبحت الآن الفرقة الرئاسية للجمهورية التركية) وأوركسترا الدولة. وفي عام 1914، أثناء تنامي الاتجاه القومي في تركيا وصعود مصطفى كمال أتاتورك أعيد تأسيس المهتر الملكية، لتكون مرتبطة بالمتحف العسكري العثماني، لكنها حُلَّت في عام 1935 أثناء إصلاحات العصر الجمهوري.

ثم في عام 1952، أسس المتحف العسكري نسخةً طبق الأصل من فرقة المهتر العثمانية المكونة من 9 أقسام، وارتدى أفرادها أثواباً مماثلة للأزياء العثمانية، لكن بموسيقى هيمنت عليها مؤلفات أوائل القرن العشرين. لا تزال هذه الفرقة تؤدي عروضها في المتحف وأماكن أخرى حول العالم.

إحدى عروض فرقة المهتر في مهرجان الموسيقى العسكرية الدولي موسكو:

وهناك عدّة أنواع لمعزوفات المهتر، فبعيداً عمّا كانت تعزفه في المناسبات والاحتفالات المختلفة، هناك الموسيقى العسكرية التي تنقسم إلى عدّ' معزوفات، نذكر منها هنا:

التأثُّر الأوروبي بموسيقى المهتر

تندرج معزوفات المهتر ضمن الموسيقى التركية العثمانية التقليدية. ويرى بعض الخبراء أنَّ موسيقى المهتر لم تتغيّر كثيراً عبر القرون. وللتدليل على ذلك ندخل في بعض التفاصيل الموسيقية الدقيقة، التي يشرحها إريك رايس أستاذ تاريخ الموسيقى بجامعة كونيكتيكت الأمريكية. وهذه قائمة تشتمل على الخصائص المميزة لتأثيرات موسيقى المهتر في نمط موسيقى ألا توركا في أوروبا الغربية، وهو أسلوب متأثر بالموسيقى العسكرية التركية:

  • تُعزف الألحان وتُغنَّى في نغمةٍ أحادية.
  • آلاتها النغميّة تلعب على طبقات أكثر حدة من نظيراتها في الغرب.
  • تُستخدم آلة الصنج دائماً.
  • تعزف أنواع متعددة من الطبول التقاسيم الفرعية للنبضة الأساسية على أوزان موسيقية مختلفة.
  • مقاماتها معقّدة ومتنوعة، إذ تستقبل الآذان الغربية الألحان كما لو كانت هناك تغيرات مفاجئة "غير مهيأ لها"، من السلم الكبير إلى الصغير والعكس.
  • يمكن للوزن الموسيقي أن يكون مزدوجاً أو غير منتظم.
  • غالباً ما يشمل الإيقاع المبدئي للألحان ثلاث نوتات تُعزف على المستوى الأساسي للنبضة.
  • تتسم الألحان بأنماط سريعة مقتر بحلياتٍ موسيقية.
  • تبدو المقطوعات الموسيقية وكأنَّما تنتمي لقالب الروندو، إذ تضم العديد من المقاطع المتكررة.

الانبهار بكلّ ما هو عثماني! الرواج الغربي لموسيقى المهتر

بالنظر إلى الاختلاف التام بين التقاليد الموسيقية الغربية والعثمانية، فمن المنطقي أن نتساءل كيف ولماذا أثرت الموسيقى العثمانيّة في الموسيقى الغربية بهذا الشكل؟ إلا أنَّ هنالك عاملاً وحيداً واضحاً: التاريخ.

فتح العثمانيون القسطنطينية عام 1453، واستمرت الإمبراطورية العثمانية بعد ذلك في النمو، بعدما أصبح اسم العاصمة إسطنبول. وتحت حكم السلطان سليمان القانوني في القرن السادس عشر، شمل نطاق سيطرة الدولة المباشرة: اليونان وبلغاريا وصربيا والبوسنة وشرق المجر ومولدافيا والأفلاق وترانسيلفانيا (رومانيا حالياً) والعراق والقوقاز والجزائر وليبيا وتونس وصولاً إلى مصر.

موسيقى المهتر
لوحة تجسد حصار فيينا

وعلى مدار العصور الوسطى المتأخرة وعصر النهضة، كانت أوروبا الغربية تخشى  إلى  درجةٍ كبيرة هذه الإمبراطورية القوية لأسبابٍ عسكرية ودينية. حاولت الإمبراطورية العثمانية لأول مرة  الاستيلاء على العاصمة النمساوية فيينا عام 1529 وفشلت؛ وكان فشلها الأخير في الاستيلاء على تلك المدينة في عام 1683 يشير إلى بداية انهيار العثمانيين، وصعود عائلة هابسبورغ في النمسا. وما تبع ذلك من ازدهار في الثقافة والفنون فيها.

لكنَّ هذا بالطبع لم يكن واضحاً حينئذ، فبحلول الوقت الذي وصل فيه الموسيقي الشهير موزارت إلى فيينا في عام 1781، كانت الإمبراطورية العثمانية لا تزال قادرة على إثارة الرعب في قلوب الأوروبيين كما لو كانت مخلوقاً أسطورياً، مع أنَّها لم تعد تشكل خطراً عسكرياً حقيقياً، في القرن الثامن عشر.

بعد هذا الفشل العثماني في السيطرة على فيينا، سادت فترةٌ وجيزة هادئة يعمُّها السلام بين العثمانيين وأوروبا. اتسم فيها الاتصال الرئيسي بين الحضارتين (الإسلامية والأوروبية) بالدبلوماسية، لتنتهي مع مهاجمة العثمانيين لروسيا عام 1784.

في تلك الفترة التي لم يشكِّل فيها العثمانيون خطراً مباشراً على أوروبا، إلا أنَّ وجودهم ظل بارزاً في العقل الأوروبي دون أن يحجب نوره ظهور تهديداتٍ جديدة مثل نابليون بونابرت، في تلك الفترة أسر كل ما هو عثماني قلب أوروبا.

في هذا الوقت، استقبلت المحاكم الأوروبية الآلات الموسيقية الانكشارية باعتبارها هدايا دبلوماسية من إسطنبول. وعند زيارة السفراء العثمانيين لدول أوروبية، وتدعيماً لروح الدبلوماسية، قدَّم موسيقيون من البلاط الأوروبي عروضاً حاكت الموسيقى العثمانية، التي بدت على الأرجح مقلَّدةً وغير أصيلة.

لكنَّ بعض السفراء العثمانيين سافروا برفقة عازفيهم، وهناك بعض الأدلة على أنَّ الموسيقى القدير موزارت استمع إلى ما كانت عليه الموسيقى العثمانية فعلاً وقتها.

في هذه الأثناء، كان لدى شعوب أوروبا الغربية فضولٌ وافتتان بالغان بكل ما هو عثماني، بما في ذلك اللِّباس، والعادات، والأطعمة، والموسيقى، وكانت الدراما والباليه والأوبرا العثمانية، التي شملت أحياناً لمحاتٍ من اللباس والعادات وكذلك الموسيقى التركية، تحظى بشعبية خاصة.

وقد شارك العديد من الملحنين الأوروبيين في كتابة مقطوعاتٍ ذات طابع عثماني، بما في ذلك الفرنسي جان باتيست لولي في عمله البارز البرجوازي النبيل، ومواطنه فيليب رامو في عمله غراميات جزر الهند. والألماني كريستوف فيليبالد غلوك في عمله اللقاء المفاجئ، والنمساويين مايكل هايدن في عمله الجناح التركي، وجوزيف هيدن في السيمفونية العسكرية، وغيرهم من المتأثرين بالموسيقى التركية، إلا أن أشهرهم بيتهوفن في أعماله الشهيرة: السيمفونية التاسعة، وأطلال أثينا، وانتصار ولينغتون.

وكما ذُكر أعلاه، كان هناك طريقتان يقدم بهما الملحنون الغربيون في هذه الفترة "الموسيقى العثمانيّة" لهؤلاء الجماهير المتعطشين لـ"كل ما هو عثماني": أولهما استخدام الأساليب اللحنية والهرمونية التي شرحها لنا إريك رايس سابقاً عن تأثر موسيقى أوروبا الغربية بالموسيقى العثمانية. أو إضافة بعض الآلات (في الغالب الإيقاعية) لإضفاء تلك النغمات "العثمانية".

السيمفونية التاسعة لبيتهوفن:

كانت إحدى الآلات الإيقاعية التي أضيفت إلى هذا اللون من الموسيقى التركية هو المثلث (التريانتو)، وكان هذا مفاجئاً لأنَّ فرق المهتر لم تستخدم هذه الآلة، فيما استُخدم المثلث على الأرجح محاولةً من الأوروبيين لإنتاج صوت مشابه لصوت آلة "الهلال العثماني".

وهناك أداة عبارة عن نايٍ صغير كانت تستخدم أحياناً بصفتها "أداة ذات طابع عثماني"، لكن كانت أهم الآلات التي أنتجت تلك النغمة العثمانية هي الآلات الإيقاعية التركية الأصيلة، وعندما أضيفت لأول مرة إلى الموسيقى الغربية. كانت هذه الآلات؛ مثل الطبل الإيقاعي الكبير، والطبل الجانبي، والصنج، والمثلث، والدف، وثيقة الارتباط بالموسيقى العثمانية لدرجة أنَّ استخدامها في مقطوعة موسيقية غربية يشي تلقائياً بأجواء تركية.

تطور هذا المزيج تدريجياً ربما بسبب التطورات في الموسيقى العسكرية، لتضيف هذه الآلات ببساطة صوتاً "عسكرياً" إلى أيِّ فرقةٍ موسيقية تعزف بها. لكن بحلول نهاية القرن الثامن عشر، بدأ التعامل معها باعتبارها ألواناً يمكن لأيّ مؤلف موسيقي الاستلهام منها، إلا أنَّ بيتهوفن استخدمها تحديداً لوصف المشاهد الشرقيّة والعسكرية، كما هو الحال في مقطوعات أطلال أثينا، وسيمفونية المعركة، والحركة النهائية للسيمفونية التاسعة.

يبدو أنَّ مدى استخدام المؤلف لأسلوب ألا تورك" أو الموسيقى المتأثرة بالطابع العثماني في مقطوعةٍ معينة يعتمد على ما إذا كان هذا المؤلف قد استمع إلى موسيقى المهتر الأصلية، ومدى احتمالية أن يتعرف الجمهور على العناصر العثمانية في المقطوعة.

وكما ذكر أعلاه، فمن المحتمل أن يكون موزارت قد استمع إلى إحدى مقطوعات المهتر الحقيقية، وهو ما لم يُؤَّكد حتى يومنا هذا، الأمر الذي يسري أيضاً على معظم المؤلفين الآخرين المشاركين في "الموجة العثمانية".

وأياً ما يكن، ونظراً للظروف التاريخية والجغرافية، فلعلّ الجمهور في فيينا كان أدق معرفة من الجمهور الفرنسي بالطابع العثماني في الموسيقى، ما نتج منه تقدير أعمق لأسلوب "ألا توركا" الموسيقي الغربي. واكتفى العديد من المؤلفين بإضافة إيقاع متأثر بالموسيقى العثمانية، وفي أحيانٍ أخرى، لم تكن للتقنيات الموسيقية التي توصف بأنَّها "ذات طابع أجنبي جذاب" لم يكن لها أدنى صلة بالموسيقى التركية الأصلية.

ومن بين مؤلفات هذه الفترة، يبدو أنَّ موسيقى موزارت فقط هي التي شملت أكثر من مجرّد الخصائص السطحية لموسيقى المهتر، لكن حتى هو لم يكن يدرجها في موسيقاه باستمرار.

ويوضح لنا ماثيو هيد في كتابه الصادر عن نشرة أوكسفورد بعنوان "Orientalism, Masquerade and Mozart's Turkish Music by Matthew Head"، ذلك قائلاً:

"غالبية أعمال موزارت التركية كُتبت لفيينا، وترتبط بثلاثة أحداث رئيسية في حياته: الانتقال من سالزبورغ إلى فيينا، والاحتفال في عام 1783 بالذكرى المئوية للحصار الثاني لفيينا، والحرب النمساوية الروسية ضد العثمانيين في عام 1788 إلى عام 1789. وكانت الأعمال المتأثرة بالطابع العثماني الأشهر لموزارت هي: كونشرتو الكمان الخامس 1755، والاختطاف من السراي 1781، والمارش التركي-سوناتا البيانو، 1781-83).

وتُعد الحلقة المركزية من خاتمة كونشرتو الكمان الخامس مزيجاً بين الأنماط الغجرية التركية والمجرية معاً. وتحيط بتلك الحلقة، من قبل ومن بعد، موسيقى المنويت بالغة الدقة، التي تنطق بالطابع الأوروبي الغربي.

كونشرتو الكمان الخامس لموزارت، التي تأثر فيها بالموسيقى العثمانية:

استقبل الناقدون حينها هذا المزيج كل بطريقته الخاصة، ربما بسبب اختلافات الرأي حول الاستشراق في موسيقى موزارت، أو ربما بسبب الاختلافات في التفضيلات الموسيقية.

يمكن بسهولة ملاحظة خصائص موسيقى المهتر في أوبرا الاختطاف من السراي لموزارت في الافتتاحية، والجوقة في الفصل الأول، والجوقة الختامية. غير أنَّه في الجوقة النهائية، فإنَّ مستوى المساحة الصوتية (التيسيتورا) العالي، والطبقة الرفيعة الحادة للآلات اللحنية، وكذلك الاستخدام المكثف للطبول، والصنج، والمثلث، وغناء الجوقة في انسجامٍ تام، كلها تشير بقوة إلى تأثير الموسيقى العثمانية.

تبدأ المقاطع بنوتات طويلة؛ ويمكننا ملاحظة تسلسلٍ ما، وإيقاعاتٍ متقطّعة، وتكرار مقاطع موسيقية كبيرة في ما يشبه "اللزمات الموسيقية"، التي تندرج جميعها ضمن الخصائص التي ذكرها بالأعلى إريك رايس.

وكان موزارت قد كتب بنفسه: "يمكن وصف جوقة الإنكشارية بأنَّها حيّة وقصيرة ومكتوبة لإرضاء أهل فيينا". وتظهر عناصر الموسيقى العثمانية أيضاً في أعمال أخرى لموزارت، مثل "حمل الرب"، وفي مقطوعات البيانو في أوبرا "حجاج مكة". فيما ظهرت في أعمال قليلة أخرى، لكنَّها لم تكن طويلة أو كاملة.

بحلول نهاية القرن الثامن عشر، أصبح سفر الفرق التركية إلى جميع أنحاء أوروبا مع الحاشيات الدبلوماسية أقلّ تواتراً، ما نتج منه اندثار الفرصة الأوروبية لإنتاج موسيقى غربية "تركية" على درجةٍ من الأصالة وليس التقليد.

وبحسب إريك رايس، فإنَّه بحلول عام 1824، لم يعد هناك أيٍّ من فرق المهتر في فيينا، وفي عام 1826، حلّ السلطان محمود الثاني فِرق المهتر بالكامل لأنّها كانت مرتبطة بالجيش الانكشاري وقد حلّ هو هذا الجيش.

ومن المحتمل أنَّه مع تراجع التهديد العثماني، فقد الاستشراق الموسيقي الأوروبي بعضاً من جاذبيته لدى الجماهير. ومع ذلك، ورغم التغيُّر الكبير في الموسيقى الغربية، لا يمكننا إنكار أنَّ الموسيقى التركية صنعت تأثيراً لا يمحى في موسيقى الغرب.

فرقة المهتر اليوم

تؤدِّي الفرقة العسكرية العثمانية عروضها مع الفرق الضخمة، التابعة لخدمة الفرق العسكرية للقوات المسلحة الأذربيجانية، أثناء موكب أقيم للاحتفاء بمرور مئة عام على معركة باكو.

ولا تزال الجوقة العسكرية العثمانية، "المهتر"، تعزف في المناسبات الخاصة بتركيا بصفتها قوّات المهتر، التي تعد جزءاً من القوات المسلحة التركية، وتعزف أيضاً يومياً طوال أشهر الصيف في حي هربيه بإسطنبول؛ أما خلال أشهر الشتاء، فإنَّها تقدم حفلاتها الموسيقية في أماكن مغلقة. ويُقام أكبر حدث لها في مايو/أيّار، الذي يحتفل بغزو القسطنطينية في 29 مايو/أيار عام 1453.

وتعزف فرق المهتر المحلية في حفلات الأعياد وحتى في الاحتفالات المجتمعية في جميع أنحاء تركيا.

وتقدم قوات المهتر أيضاً عروضاً كضيوفٍ مدعوين لحضور الفعاليات في جميع أنحاء العالم، بصفتهم سفراء للتقاليد الموسيقية التركية. وعلى سبيل المثال، فقد عزفت القوات نشيد "تحيا باكستان" في موكب يوم باكستان الوطني عام 2017. 

تحميل المزيد