توفي 3 من أولاده بالتيفوئيد فقرر دراسة الأوبئة! تعرّف على لويس باستور “أبو المناعة”

قصّتنا اليوم عن الطبيب الفرنسي لويس باستور صاحب لقب "أبو علم المناعة". وهو أحد أهم مؤسسي علم الأحياء الدقيقة في الطب والتطعيم العلاجي والوقائي.

عربي بوست
تم النشر: 2020/04/10 الساعة 08:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/10 الساعة 08:02 بتوقيت غرينتش
لويس باستور/istock

عانت البشرية الويلات في فتراتٍ مختلفة مع الأوبئة والأمراض التي تفتك بالإنسان، التي لم يُعرف لها لقاح أو علاج، لحين أن يظهر بطل حقيقي ينقذ العالم، هذا البطل ليس قائداً عسكرياً أو سياسياً، وإنّما طبيب. وقصّتنا اليوم عن الطبيب الفرنسي لويس باستور صاحب لقب "أبو علم المناعة". وهو أحد أهم مؤسسي علم الأحياء الدقيقة في الطب والتطعيم العلاجي والوقائي.

في نفس السلسلة يمكنك أن تقرأ هنا عن الطبيب البريطاني إدوارد جينر، الذي اكتشف لقاحاً لوباء الجدري.

يكمن دور باستور التاريخي الفريد، في بحثه لأسباب الأمراض وسبل الوقاية منها، في الوقت الذي لم يكن أحد يعرف كيفية عمل جهاز المناعة عند الإنسان، ولا عن التمييز بين الفطريّات والبكتيريا والفيروسات. فقد أسهمت اكتشافاته الطبيّة في تخفيض معدَّل وفيّات حُمّى النفاس، وإعداد لقاحات مضادة لداء الكلب و"الجمرة الخبيثة"، كما دعمت تجاربه نظرية جرثومية المرض.

العالم لويس باستور.. حياة بسيطة وأب فقير

وُلد لويس جان باستور، في 27 ديسمبر (كانون الأول) عام 1822، في فرنسا، وكان والده يعمل دباغاً كما أنه كان ملازماً أول، وقد قُلّد وسام فيلق الشرف خلال حروب نابليون بونابرت.

العالِم لويس باستور
العالم لويس باستور في مختبره

برع الطفل لويس في الرسم والتلوين، ورسم في الخامسة عشرة من عمره العديد من اللوحات الفنية، وجمع مجموعةً من الصور لعائلته وأصدقائه، والتي ما زالت موجودةً حتى الآن في متحفه في باريس.

حصل باستور على درجة البكالوريوس في الآداب والفنون عام 1840، وبعدها بسنتين فقط حصل على درجة البكالوريوس في العلوم من الجامعة الملكية، ثم حصل على الدكتوراه عام 1847 من مدرسة الأساتذة العليا في باريس.

عمل باستور عدة سنوات في البحث والتدريس في ثانوية ديجون، حتى عام 1848، عندما أصبح أستاذاً للكيمياء في جامعة ستراسبورغ، حيث التقى بماري لوران، ابنة رئيس الجامعة، وتزوج منها وأنجبا خمسة أطفال، توفّي ثلاثة منهم بسبب مرض التيفوئيد، الأمر الذي جعله يتخصص في دراسة الأوبئة.

أول إنجازاته.. دكتوراه مشتركة في الفيزياء والكيمياء

كثف باستور جهوده عام 1849 بدراسة الهندسة الفيزيائية للبلُّورات، ومضى يعمل على حل مشكلة متعلقة بطبيعة حمض الطرطريك، وهو حمض كيميائي يتواجد في رواسب النبيذ، وبعض النباتات كالعنب والموز والتمر الهندي، واستخدم لحل هذه المشكلة عملية فيزيائية اسمها "دوران الضوء المستقطب"، كان يستخدمها باستور ومعاصروه طريقة لدراسة البلورات.

دوران الضوء المستقطب، هي ظاهرة تلاحظ عند حدوث تغير في اتجاه الضوء المستقطب "الموجات الضوئية التي تخضع لترتيب بسيط ومنظّم"، نتيجة لمروره في مادة تحتوى على جزيئات كيميائية معينة، كبعض أنواع البلورات، فعند مرور الضوء المستقطب خلال محلولٍ مكونٍ من حمض الطرطريك الذائب، تدور زاوية مستوى الضوء المستقطب.

ومع التجربة، لاحظ باستور أنَ هناك مركباً آخر يدعى حمض "الباراطرطيرك"، مشابهاً لذلك الموجود في حمض الطرطريك -ولم يكن أول عالم يلاحظ ذلك- ولكنّ العلماء الآخرين، كالعالم الألماني إيلهاردت ميتشيرليتش، ظنّوا أنه مطابقٌ لحمض الطرطريك، ولكن ما لفت انتباه باستور هو عدم دوران مستوى الضوء المستقطب عند عبوره عبر محلول من حمض الباراطرطيرك، ليستنتج أنه وبالرغم من تشابه التركيب الكيميائي لكلا المركبين، فمن الضروري أن يكون هناك اختلاف في هيكلهما.

استطاع إثبات اختلافهما من خلال تجربته، واستخلص نظرية جديدة تقول إن التركيب الكيميائي للمركبات غير كافٍ لفهم سلوكها الكيميائي، حيث يجب أن يكون لكل واحدة منها بنية مختلفة بطريقة أو بأخرى، وهذا الاستخلاص أدى إلى ما يُعرف اليوم بـ"الكيمياء الفراغية"، وحصل في إثرها على درجة الدكتوراه المزدوجة في الفيزياء والكيمياء.

جرثوميّة المرض.. الاكتشاف الذي غيّر وجهة نظر الأطباء 

في عام 1854، عُيِّن باستور أستاذاً للكيمياء وعميداً لكلية العلوم في جامعة ليل، وهناك طُلب منه المساعدة في حل المشكلات المتعلقة بإنتاج الكحول في مصنع تقطير محلي، فبدأ سلسلةً من الدراسات حول التخمير الكحولي، التي نتج عنها معالجة مجموعة متنوعة من المشاكل العملية والاقتصادية الأخرى التي تنطوي على التخمير. 

الجمرة الخبيثة
اكتشف لويس باستور لقاح الجمرة الخبيثة

اعتمد باستور في تجاربه على نظرية الجرثومة "جرثومية المرض"، التي يطلق عليها أيضاً نظرية "مرضيّة الدواء"، وهي نظرية تفترض أنّ الميكروبات هي سبب العديد من الأمراض، والتي نتج عنها إنتاج المضادات الحيوية، وأثبت لويس أنّ نمو الكائنات الحية الدقيقة مثل البكتيريا في السوائل، هي السبب في عملية التخمُّر وحموضة النبيذ أو الحليب، وأنها لا تحمض أو تتخمر من تلقاء نفسها.

في عام 1862، اخترع باستور لأول مرة طريقة تمكِّن من القضاء على البكتيريا عن طريق غلي السائل ومن ثمّ تبريده، وسمِّيت هذه العملية بـ"البسترة"، وهي مشتقة من اسم العالم لويس باستور نفسه، الذي أثبت صحة النظرية الجرثومية التي تحدّث عنها من سبقه من علماء، ولكن لم يكن موثوقاً بها.

تطوير النظرية الجرثومية.. وفوائد اقتصادية

كان علماء القرن التاسع عشر يعتقدون أن الحياة الميكروبية تولد من الهواء وحده، على عكس باستور الذي لم يعتقد أن الهواء هو المسؤول؛ بل كان يعتقد أن الميكروبات المرتبطة بجزيئات الغبار تتكاثر عندما تسقط من الهواء إلى مكان مناسب لتكاثرها، وفي عام 1859، وهو نفس العام الذي نشر فيه داروين نظريته الشهيرة "أصل الأنواع"، استطاع باستور إثبات أن الميكروبات يمكن أن تنشأ فقط من الميكروبات الأصلية.

ومن أجل إظهار أنّ الغبار في الهواء يمكن أن يحمل التلوث الميكروبي، أخذ باستور أواني تحتوي على محاليل معقّمة من مرق المغذيات إلى عدة مواقع مختلفة، ثم قام بفتح الحاويات لفترةٍ وجيزة، وعرضها للهواء، وبيّن أن الأوعية المكشوفة على ارتفاعات منخفضة بتركيزات عالية من جزيئات الغبار أصبحت ملوّثة بعدد من الميكروبات أكثر من تلك المعرضة على ارتفاعات أعلى حيث كان الهواء أنقى.

في عام 1865، أنقذ باستور صناعة الحرير في العالم، بعدما أثبت أن الميكروبات تهاجم بيض دودة القز، مما يتسبب في إحداث مرض غير معروف لها، وأنه سيتم القضاء على المرض إذا تم القضاء على الميكروبات، وعمل في النهاية على تطوير طريقة لمنع إصابة هذا البيض، وسرعان ما استخدمها منتجو الحرير في جميع أنحاء العالم.

المناعة والتلقيح 

اكتسب باستور شهرةً كبيرة في سبعينيات القرن التاسع عشر، بسبب نظرياته، ولكن مع ذلك كانت المؤسسة الطبية الرسمية في فرنسا مترددة في قبول نظريته الجرثومية عن المرض، وأنه ليس له تطعيم كما يدَّعي باستور. لكنّه أصر على تطوير المبدأ العام للتطعيم، وساهم في تأسيس علم المناعة ضد أوبئة مختلفة.

بدأت رحلة باستور في علم التطعيم عام 1879، بعدما قام بأول تطعيم لمرض بكتيريا "كوليرا الدجاج"، ثم ذهب في عطلةٍ قصيرة، وعند عودته لاحظ بالصدفة أنّ الدجاج المطعَّم أصيب بحالة إعياء، ثم عاد إلى حالته الطبيعية مكتسباً مناعةً من المرض، ومنذ ذلك الحين، وجّه باستور جميع أعماله التجريبية نحو التطعيمات، وطبق هذا المبدأ على العديد من الأمراض الأخرى.

ومبدأ التطعيم هو دواء مستحضر يتم إعطاؤه للشخص لتكوين مناعة في جسمه ضد مرض معين، ويتكوّن من جراثيم المرض التي تم قتلها أو إضعافها، وعند دخولها الجسم فإنها تحفز جهاز المناعة على تكوين أجسام مضادة لمرض معين وذاكرة مناعية، بحيث يتذكر جهاز المناعة الميكروب والجراثيم والفيروسات والأجسام الغريبة، المسببة للأمراض، فيقوم بمهاجمته والقضاء عليه مباشرة عندما يدخل الجسم مرة أخرى.

وأخيراً.. وجد أحدهم تطعيماً لمواجهة الجمرة الخبيثة

في العام ذاته، بدأ باستور أبحاثه عن وباء الجمرة الخبيثة، التي كانت منتشرة في ذلك الوقت في فرنسا وفي أجزاء أخرى من أوروبا، وتسببت في مقتل عدد كبير من المواشي، وكذلك كانت تصيب البشر أيضاً، وهي واحدة من أقدم الأمراض الوبائية المسجلة في التاريخ.

مرض الجمرة الخبيثة
لوحة لويس باستور مع مرضى داء الكلب

خلصت أبحاث باستور التي خاضها على عينات من الجمرة الخبيثة التي عزلها على الرغم من خطورتها، إلى أنّ المرض وبائي ناتج عن بكتيريا تنتقل عن طريق العدوى، ولا بد من تقوية جهاز المناعة لمواجهتها، وأدى ذلك إلى ترسيخ نظرية جرثومية المرض، والتي أبرزت بعد ذلك مفهوماً أساسياً لعلم الأحياء الدقيقة الطبية.

أراد باستور تطبيق مبدأ التطعيم على الجمرة الخبيثة، وأعد تطعيمات مخففة نجحت في مقاومة المرض،  وبسبب هذا النجاح الذي كان من شأنه إنقاذ البشرية من هذا الوباء التاريخي؛ حصل على دعم مالي، معظمه من المزارعين، لاستكمال تجاربه ولإجراء تجربة عامة واسعة النطاق للتطعيم من الجمرة الخبيثة.

 أجرى باستور تجربته الفريدة من نوعها في جنوب باريس، حيث طعّم 70 من حيوانات إحدى المزارع، وكانت التجربة ناجحة تماماً، تضمّنت إجراءات التلقيح تطعيمين على فترات 12 يوماً بلقاحات ذات فاعلية مختلفة، وفي إثره تمكن العالم من الحفاظ على حياة البشر والحيوانات.

على خطى إدوارد جينر

بعد نجاح تجربة التطعيم ضد الجمرة الخبيثة، ركز باستور على الأصول الميكروبية للأمراض المختلفة،  وأصبح رائداً في مجال علم الأمراض المعدية وطرق الوقاية منها، وقارنه العلماء بالطبيب الإنجليزي إدوارد جينر الذي اكتشف لقاح الجدري.

فبعد 90 عاماً تقريباً من بدء جينر التطعيم ضد مرض الجدري الأسطوري، طور باستور لقاحاً آخر -أول لقاح ضد داء الكلب عام 1882- حيث كان داء الكلب مرضاً مروّعاً وخطيراً، تناولته القصص والأساطير الشعبية حول العالم لقرون، بسبب أصله الغامض والخوف الذي ولّده، ولكن اكتشاف باستور وضع حداً لذلك.

ويموت أكثر من 59 ألف شخص بسبب داء الكلب كلّ عام لأنهم لا يستطيعون الحصول على الرعاية والتطعيمات التي يحتاجونها في الدول الفقيرة، ويموت شخص كل 9 دقائق بسبب داء الكلب، حسب إحصائيات 2015، وفق مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها الأمريكي.

وداء الكَلَب هو مرض فيروسي يسبب التهاباً حاداً في الدماغ، ويصيب الحيوانات ذات الدم الحار، وهو مرض حيواني المنشأ أي، إنه ينتقل من فصيلة إلى أخرى، ومن الكلاب إلى الإنسان أيضاً، وينتقل غالباً عن طريق عضة من الحيوان المصاب.

اشتبه باستور في أن العامل الذي تسبب في داء الكلب هو ميكروب (تم اكتشاف العامل لاحقاً على أنه فيروس)، حيث كان صغيراً جداً، بحيث لا يمكن رؤيته تحت المجهر، لذا حاول باستور تطوير منهجيات بحث جديدة تماماً، وعمل على إجراء تجاربه على الأرانب، التي اكتشف فيها كيف ينمو "الفيروس" ويطور نفسه مع اللقاحات الخاطئة، حتى توصل للّقاح الأفضل.

وفي عام 1885، عمل باستور على تجربة لقاحه على فتىً يبلغ تسع سنوات يُدعى جوزيف ميستَر، بعد أن عضه كلبٌ مسعور، وكانت النتيجة مبهرة وتاريخية، حيث تعافى هذا الفتى، ونال باستور شهرة لا تضاهى، وتم إطلاق حملة دولية لجمع الأموال لبناء معهد باستور في باريس، الذي افتتح عام 1888، وتسبب في إنقاذ حياة المئات من ضحايا مرض الكلب في جميع أنحاء العالم، ودخلت البشرية في مرحلة جديدة من الطب، اسمها الطب الوقائي.

الطب الوقائي هو فرع من الطب يعنى بدراسة وإيجاد وتطبيق سُبُل الوقاية من الأمراض التي يتوقعها، ومنعها قبل حدوثها. ولم يكن باستور هو من أطلق المصطلح، إنما مهدت دراساته وأبحاثه لوجود هذا النوع من الطب من بعده.

استمر باستور في توسيع نظريته الجرثومية لتطوير أسباب الأمراض وتطعيماتها، لتطبيقها لاحقاً على أمراض مثل الجمرة الخبيثة والكوليرا والسل والجدري، حتى توفي عام 1895، وكانت آخر كلماته: "يجب على المرء أن يعمل، يجب على المرء أن يعمل، لقد فعلت ما بوسعي".

علامات:
تحميل المزيد