الجارية التي أوقعت “الناسك” في حبها قبل أن يراها.. قصة عشق ابن أبي عمار والمغنية سلامة

عربي بوست
تم النشر: 2020/06/15 الساعة 13:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/16 الساعة 12:01 بتوقيت غرينتش

كان عبد الرحمن بن أبي عمار أشهر نساك مكة وزاهديها، وكان يلقب بـ "القس" لانصرافه عن ملذات الدنيا وتفرغه للعبادة، وبقي على هذه الحال إلى أن سمع مصادفة صوتاً ملائكياً أشعل نيران الهوى في قلبه، فوقع في غرام صاحبة هذا الصوت التي سميت لاحقاً "سلامة القس" نسبة إليه.

ومنذ ذلك الحين تأجج صراعٌ بين الهوى والتقوى في نفسه، وبات يغالب نفسه فيغلبها تارة وتغلبه تارة، إلى أن فرّق القدر بينهما.

قصة سلامة القس ومحبوبها ابن أبي عمار

وقعت أحداث هذه القصة في بداية القرن الثاني الهجري، وتحديداً في العام 720 للميلاد، مع بداية حكم الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك الذي كان خلفاً لعمر بن عبد العزيز. 

وقد وردت قصة عشق الناسك لسلامة في عدد من المصادر التاريخية، منها كتاب "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" للمؤرخ شهاب الدين بن فضل الله العمري، كما وردت في الكتب التي تناولت سيرة الخليفة يزيد بن عبد الملك.

في ذلك الوقت كانت مكة تعج بالعبّاد الزاهدين الذين كان أشهرهم عبد الرحمن بن أبي عمار، والذي ينحدر من قبيلة جشم.

عُرِف ابن أبي عمار بزهده وتعبده، حتى أنه لقب بـ"القس" وشبه بالناسك والفقيه عطاء بن أبي رباح.

أما محبوبته سلامة فقد نشأت كجارية بالمدينة وتعلمت الغناء على يد أشهر أعلام الغناء آنذاك مثل مالك بن أبي السمح.

وقد تميزت سلامة بوجهها الجميل وطلعتها الحسنة وصوتها العذب، ولم يكن ينافسها أحد في المدينة في الغناء سوى جارية تدعى حبابة، إلا أن سلامة تميّزت عن منافستها بأنها كانت تبدع في قول الشعر، لذا كثر محبوها ومريدوها وغلى ثمنها أكثر.

وقد زادت شهرة سلامة حتى سمع بها أحد مترفي مكة وهو سهيل بن عبد الرحمن، فاشتراها من صاحبها في المدينة، ونقلها إلى داره لتحيي حفلات السمر بغنائها العذب بحسب الباحث في التاريخ الإسلامي محمد شعبان أيوب.

الأذن تعشق قبل العين أحيانا

وهذا ما حدث مع الناسك ابن أبي عمار، فقد وقع في غرام سلامة قبل أن يراها حتى، فبينما كان ماراً بجوار دار سهيل سمع صوتاً عذباً أبقاه جامداً مذهولاً في مكانه لا يقوى على متابعة طريقه.

وعندما علم سهيلاً أن القس واقف أمام باب داره، سارع لدعوته للدخول، إلا أن ابن أبي عمار خجل خجلاً شديداً وأبى ثم انصرف.

لكن مع ذلك، لم يستطع الناسك ابن أبي عمار من منع نفسه من الذهاب ثانية للوقوف أمام دار سهيل وسماع سلامة وهي تغني في الليلة التالية، ودون أن يشعر أصبحت عادة يومية لديه الأمر الذي جعل الناس يتهامسون عن القس الذي هام بغرام المغنية سلامة، والذي يقف يومياً ليسترق السمع إليها ويرفض الدخول لرؤيتها.

وبعد تمنع دام طويلاً، لم يستطع ابن أبي عمار أن يداري شوقه لرؤية صاحبة الصوت أكثر من ذلك، فاستجاب أخيراً لدعوة سهيل بالدخول إلى داره ورؤية سلامة.

لم يهدأ قلب الناسك بعد رؤية المحبوبة، بل زاد خفقانه، فبعد أن كان ابن أبي عمار يعشق صوت سلامة فحسب، بات يهوى كل ما فيها وانطلق لسانه بأشعار الغزل والغرام التي انتشرت في أرجاء مكة كلها.

ومما قال فيها:

أهابكِ أن أقولُ بذلتُ نَفسِـــي * ولو أنِّي أطيعُ القَلــبَ قالا

حَياءٌ مِنكِ حتَّي سُلَّ جِسمي* وشَقَّ عليَّ كِتماني وطالا

"إني أخاف الله"

وقد قيل أن حب عبد الرحمن بن أبي عمار الشديد لسلامة لم ينسه تقاه وورعه، إذ رُوي أنهما التقيا مرة في خلوة، فقالت له سلامة: والله إني أحبك، فرد عليها: والله إني أحبك أيضاً، فقالت: وأشتهي أن أقبلك فقال : وأنا والله أحب ذلك ، فقالت: وما يمنعك ؟ فقال : إني أخاف الله، ثم تركها وانصرف عنها وعيناه تدمعان.

وبقي ابن أبي عمار متخبطاً ما بين حبه لسلامة ونسكه وتقواه، إلى أن اختار الابتعاد عنها والتفرغ للعبادة مرة أخرى.

إلا أن الشوق كان يغلبه في الكثير من الأحيان، فيذهب ليقف ببابها كقديم عهده، ويحدث أن يرسل لها السلام أحياناً، وعندما يدعى للدخول يأبى ويعود دامع العينين.

من مكة إلى دمشق

زادت أشعار ابن أبي عمار من شهرة سلامة فبينما أكسبها صوتها الحسن ووجهها الجميل شهرة في مكة والمدينة، أكسبتها الأشعار التي نسجها ابن أبي عمار عنها شهرة تجاوزت شبه الجزيرة العربية لتصل إلى دمشق، وتتسرب إلى مسامع الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك.

وعندما سمع الخليفة بجمال سلامة وصوتها العذب بعث من يشتريها مع منافستها "حبابة" ويأتي بهما إلى دمشق.

وقيل أن الخليفة الشاب قد دفع عشرين ألف دينار ثمناً لسلامة.

وقد حظيت الجاريتان بمكانة مقربة لدى الخليفة، حتى قيل أنه كان يجلس حبابة عن يمينه وسلامة عن يساره ليسقيانه الخمر ويقول أريد أن أطير، ثم يرمي نفسه في بركة الماء.

حب جديد بعد سلامة

وبالعودة إلى العابد الناسك عبد الرحمن القس فقد فطر قلبه بعد رحيل سلامة إلى دمشق، ولم يتحمل ألم الفراق، وبما أنه يستحيل عليه لقاء سلامة مرة أخرى بعد أن أصبحت من خاصة الخليفة قرر أن يبحث عن شبيهتها ليشفي جراح قلبه.

فقيل أن الناسك بات يتردد على سوق الجواري كل حين ويبحث في وجوههن عن سلامة جديدة، وبقي على هذا الحال حتى قابل الجارية "ريا".

كانت ريا حسناء أيضاً وقد فتنت قلب الناسك، وقيل أنها كانت تشبه سلامة إلى حد كبير، وباتت ريا حب ابن أبي عمار الجديد ومصدر الإلهام لأشعاره.

وقد وصف الشاعر ابن قيس الرقيات غرامه بالجاريتين بقوله :

لقد فتنت ريا وسلامة القسـَّا   فلم يتركا للقس عقلا ولا نفسا

فتاتان أما منهما فشبيهة الـ   هلال وأخرى منهما تشبه الشمسا

تكنان أبشارا رقاقا وأوجهاً    عتاقاً وأطرافاً مخضبة مـُلسا

وكحاله مع سلامة، راح الناسك ينشد الأشعار بمحبوبته الجديدة ويطوف ببابها، حتى لامه أصدقاؤه النساك المتعبدون، فما كان منه إلا أن رد على ملامتهم بدمع غزير وأشعار حزينة يشكو فيها عشقه وقلة حيلته.

وعلم بخبره عبد الله بن جعفر بن أبى طالب الهاشمي فخشي أن تتكرر مأساة القس مع سلامة ويبعث الخليفة الأموي ويشتري "ريا" ويحرم القس منها، لذلك جاء من المدينة إلى مكة واشترى ريا، وجمع الناس حوله في محفل عام، وبعث للقس فأتى، فزوجه محبوبته وأهداه مئة ألف درهم نفقة لهما.

لتنتهي بذلك معاناة الناسك مع ألم الهوى والفراق.

في السينما

تم تجسيد قصة سلامة والناسك عبد الرحمن ابن أبي عمار مع تعديلات في مجريات الأحداث لتناسب الحبكة الدرامية، إذ قامت أم كلثوم بدور سلامة، بينما أدى الممثل يحيى شاهين دور ابن أبي عمار.

علامات:
تحميل المزيد