ساعد سكانها محمد الفاتح في حصار القسطنطينية.. تعرّف على تاريخ منطقة برج غلطة

من بين المناطق التي ظهرت في المسلسل والتي يشاهدها أيّ زائر لإسطنبول حالياً منطقة برج غلطة، الذي كان لها دورٌ في التسهيل على السلطان الفاتح للقضاء على الإمبراطور البيزنطي قسطنطين، والفوز بالقسطنطينية.

عربي بوست
تم النشر: 2020/01/31 الساعة 14:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/31 الساعة 14:33 بتوقيت غرينتش
من مسلسل نتفليكس الجديد rise of empires: ottoman

أنتجت شبكة Netflix مؤخراً مسلسلاً درامياً وثائقياً، عن صعود الدولة العثمانية، وتحديداً معركة فتح القسطنطينية التي قادها السلطان الشاب محمد الفاتح عام 1453م. ومن بين المناطق الأثرية والسياحية التي ظهرت في المسلسل والتي يشاهدها أيّ زائر لإسطنبول حالياً منطقة برج غلطة، الذي كان لها دورٌ في التسهيل على السلطان الفاتح للقضاء على الإمبراطور البيزنطي قسطنطين، والفوز بـ "التفاحة الحمراء" التي تعني القسطنطينية.

برج غلطة
منطقة برج غلطة

منطقة برج غلطة ليست من القسطنطينية في الأساس!

بعدما استطاع العثمانيون السيطرة على القسطنطينية، أصبحت عاصمتهم بدلاً من عاصمتهم السابقة أدرنة، وسمّيت إسلامبول، التي تطوّرت لاحقاً وأصبحت "إسطنبول". لكن هنا إشارة مهمّة، فقد يعتقد البعض أنّ مدينة إسطنبول الحالية هي مدينة القسطنطينية القديمة بالضبط، وهذا ليس صحيحاً، فالمدينة القديمة لم تكن تحتوي على الكثير من المناطق الحالية التي انضمت لإسطنبول لاحقاً، ومن هذه المناطق منطقة برج غلطة أو جالاتا، الواقعة في الشقّ الأوروبيّ لإسطنبول، فللمدينة شقان جزء في قارة أوروبا وجزء في قارة آسيا.

ولنرجع معاً بالأحداث لنعرف بعضاً من تاريخ هذه المنطقة الجميلة، وهذه المدينة الضخمة.

منطقة برج غلطة.. إيطالية أم يونانية أم بيزنطية؟

كان هناك العديد من مدن المستعمرات اليونانية التي شُيّدت في أوقاتٍ مختلفة في المناطق التي تقع حالياً في مدينة إسطنبول، يجب التنويه أنّ المدن في العصور الوسطى لم تكن بنفس حجم وكثافة المدن في وقتنا الحالي.

وفقاً لما يذكره لنا موقع برج غلطة نفسه، فإنّ أقدم هذه المستعمرات تدعى "كلدو" التي تأسست مكان منطقة كاديكوي الحالية بإسطنبول الآسيوية، وقد تأسست في القرن السابق لميلاد المسيح.

هناك أيضاً مدينة "كريسوبوليس"، التي لا يُعرف موقعها الفعليّ، ولكن يعتقد الكثيرون أنها في موقع مدينة أوسكودار الحالية في الشق الآسيوي لإسطنبول، والثالثة مدينة "سيكاي"، التي كانت النواة الأولى لمدينة "غلطة" التي نعرفها حالياً. ولكن مع اتساع وتطوير العاصمة، التي أصبح اسمها لاحقاً القسطنطينية، أصبحت كل تلك المدن من ضواحي العاصمة بشكلٍ أو بآخر.

برج غلطة
لوحة قديمة لبرج غلطة

ومن المعروف أنه كان هناك ميناءٌ في مستوطنة برج غلطة، وقد اكتسب هذا الميناء أهميةً كبيرة خلال عهد الإمبراطور قسطنطين العظيم (324-337م) مؤسس مدينة القسطنطينية.

عند إعادة تخطيط المدينة خلال عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني (408-450م)، دخلت منطقة برج غلطة ضمن حدود القسطنطينية، وكان بالمستوطنة كنيسةٌ وميدان، وحمّاماتٌ ومسرح.

ومُنذ طوّر الإمبراطور جوستينيان الأول المستوطنة وشيّد فيها مباني جديدة، أصبحت المدينة تُسمى على اسمه "جوستينيانوبوليس". واليوم، يعتبر "برج غلطة" من أكثر المعالم المميزة لمدينة إسطنبول. أمّا من شيّد البرج نفسه فهم الجنويُّون (نسبةً إلى جمهورية جَنَوَا في إيطاليا).

كان سكان جنوا قد خسروا المنطقة المميزة التي حظوا بها على سواحل منطقة القرن الذهبي في القسطنطينية في القرن الثاني عشر لصالح البنادقة (نسبة لمدينة البندقية الإيطالية) عام 1204م خلال الحملة الصليبية الرابعة على بلاد المشرق.

بدأ الجنويُّون الاستقرار في منطقة برج غلطة من جديد من منتصف القرن الثالث عشر. ومنح الإمبراطور ميخائيل الثامن الكثير من الحقوق لسكان المنطقة الجنويين، من ضمنها: تشييد النقابات التجارية والقصور والحمامات العامة والمخابز والمنازل والمتاجر ومنحهم حرية التجارة.

مع ذلك، ترددت الأنباء حول نيّة سكان جنوا في التمرُّد على الإمبراطورية البيزنطية، فطُردوا من بيزنطة ودمّر إمبراطور بيزنطة آنذاك جدران المستعمرة ولم يترك إلا حاميةً بيزنطة. وبسبب عدم وجود جدران حول المدينة، لم يكن من الممكن الدفاع عن مستعمرة غلطة، وأحرق أسطول البنادقة مستعمرة سكان جنوا في غلطة عام 1296.

بعد ذلك، قرَّر سكان جنوا إحاطة مستعمراتهم بجدرانٍ حماية لأنفسهم من غضب الإمبراطور، لكنّ إدارة بيزنطة لم تسمح لهم بتطويق مستعمرتهم، ومنعت تشييد الجدران أو القلاع، وصدر فرمان بيزنطي عام 1303 يوضِّح حدود الإقليم الممنوح لسكان جنوا في منطقة برج غلطة.

مُنع سكان جنوا من بناء المنازل خارج حدود ذلك الإقليم وأُمروا بترك خطٍّ حدوديٍّ فارغ وسط الحقول حول الإقليم. ولكن مع الوقت، كسروا تلك القواعد وحفروا خندقاً على طول حدود الإقليم. ثم شيّدوا مباني حجرية عالية على طول الحدود على فتراتٍ منتظمة.

القسطنطينية
القسطنطينية

استغلالاً للأزمة التي تعرّضت لها الإمبراطورية البيزنطية، شيّد سكان جنوا منازل متصلة على شكل معاقل، وهو ما يعني إحاطة الإقليم بجدرانٍ من خلال المنازل. وحكم سكان جنوا تلك المستعمرة ونصّبوا محافظاً أُطلق عليه اسم "بودستا". وكان هذا المحافظ أيضاً هو الممثِّل الدائم لسكان جنوا لدى الإمبراطورية البيزنطية. ولكن مع ضعف الإمبراطورية البيزنطية، أصبحت مستعمرة سكان جنوا أقوى وأغنى ووسعت حدودها.

أثناء حصار محمد الفاتح للقسطنطينية، حاولت مستوطنة غلطة أن تكون غير منحازة باتباع سياسة الدولة المستقلة عن البيزنطيين وعن العثمانيين أيضاً، وفقاً لما يخبرنا به أساتذة التاريخ في مسلسل شبكة نتفليكس فإنّ محمّد الفاتح استطاع استمالة الجنويين إلى جانبه، وكان تحالفه معهم أحد الخطوات المهمة لسقوط القسطنطينية في يده.

بعد دحر الإمبراطورية البيزنطية، وقّعت إدارة "غلطة" اتفاقاً مع السلطان محمد الفاتح اعترافاً بامتيازات المستوطنة. وأُدرجت غلطة ضمن أراضي الدولة العثمانية، وتحوّلت كنيستا سان باولو وسان دومينكو إلى مساجد. وخلال تلك الفترة، كان محافظ غلطة يُطلق عليه "فويدوفا" واستقر بعض اليونانيين من إزمير في المنطقة. ولكن منذ القرن الخامس عشر الميلادي، استقر العديد من التجار الأوروبيين هناك وتضاءلت أنشطة سكان جنوا.

مدينة غلطة الأوروبيّة.. ميناء تجاري مهم 

في القرن السابع عشر الميلادي، أصبحت مدينة غلطة ميناء تجارياً. ولكن بعد الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر الميلادي، فقدت المدينة دورها في التجارة والنقل البحريّ وأصبحت مدينة تجارية تمتاز بالعديد من الحوانيت والمباني التجارية ومكاتب سماسرة البورصة والمخازن والمحلات التجارية.

مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان بالمدينة العديد من الجماعات التجارية مثل الشاميين واليونانيين والأرمن واليهود إلى جانب التجار الأوروبيين أيضاً. وخلال هذه الفترة، جلب الأوروبيّون العاملون في السفارات والشاميون والمسيحيون المحليون نمط الحياة الأوروبي الغربي والسمات الحضرية للمدينة. لذا، كانت "غَلَطَة" في أوج رونقها البيئيّ والاجتماعي خلال القرن التاسع عشر الميلادي. 

في مدينة غلطة، الواقعة على سواحل القرن الذهبي المتفرّع من مضيق البوسفور، كان هناك مجتمعٌ نموذجيّ مختلف عن سكان القسطنطينية المحليين خلال العهد البيزنطي، واستمر هذا الاختلاف بعد حيازة محمد الفاتح للمدينة.

تشير مصادر ترجع إلى عام 1476م أنّ مدينة غلطة كان بها 535 منزلاً مسلماً، في مقابل 592 منزلاً يونانياً، و33 منزلاً أوروبياً، و62 منزلاً أرمنياً، إلى جانب 260 متجراً. 

منطقة برج غلطة
منطقة برج غلطة في ثلاثينيات القرن الماضي

فقد اعتاد الأشخاص الذين يأتون من مناطق مختلفة في الشرق وغرب أوروبا على العيش معاً بالرغم من اختلافاتهم الدينية. وبالإضافة لذلك، ومن خلال أنشطة التجارة البحرية الدولية في المنطقة، استمرت السمة "العالمية" التي تميّز المدينة.

من بين هؤلاء الأجانب، اعتاد مسلمو الدولة العثمانية العيش في الجانب الغربيّ من المنطقة، ويوضح لنا المستكشف العثماني أوليا جلبي أن هناك حوالي 18 ربعاً مسلماً، و70 ربعاً يونانياً، و3 أرباع أوروبيين، وربعين أرمن وربع يهودي في غلطة.

ويذكر أيضاً أن هناك 3080 متجراً يعود معظمها إلى اليونانيين واليهود. ووفقاً للتوزيع التقريبي للسكان في عام 1700، اعتاد المسلمون على العيش في الأجزاء الغربية والوسطى من مدينة غلطة، بينما اعتاد أن يعيش اليونانيون واللاتينيون والأرمن واليهود في الجزء الشرقي.

وقد كان معظم السكان يتحدثون اللغة التركية بسبب كثرة التُّجار من موانئ البحر المتوسط. ولكن كل السكان كان بمقدورهم تحدّث القليل من الفرنسية والإيطالية واليونانية أيضاً. كان هناك العديد من أهل الشام يعملون مترجمين في الخدمات المدنية والسفارات العثمانية في المدن الأوروبية. وقد ظهرت أيضاً مكاتب الترجمة في غلطة عام 1852.

كان للمترجمين مكانة خاصة في مجتمع غلطة بسبب لجوء الناس إليهم عادة للوساطة في الاتفاقيات التجارية. ولأنّ منطقة "غلطة" كانت المركز التجاري الحقيقي في المنطقة، تجمّعت كل الأنشطة التجارية هناك. كان التجار، خاصة الصيارفة، أثرياء جداً لدرجة إقراضهم الدولة في بعض الأوقات. وأصبحوا أكثر ثراء خلال الثورة الصناعية في وسط القرن التاسع عشر. وخلال هذه الفترة، اكتسب سماسرة البورصة أيضاً مكانة مهمة في الأنشطة الاقتصادية، وحظيوا بسمعة طيبة في الأوساط الأوروبية، وكان يُطلق عليهم "سماسرة بورصة غلطة". 

كان معظم هؤلاء السماسرة من بلاد الشام، والمجموعة الأغنى في غلطة. وعندما نفدت مخزونات الذهب والفضة لدى العثمانيين، كان الاستيراد يستمر بوساطة من بنك إسطنبول الذي أنشأه سماسرة بورصة غلطة.

بدأت أنشطة بورصة غلطة أولاً في سوق الأوراق المالية الذي تأسس عام 1865، وكان البنك العثماني الذي أنشأه وسطاء البورصة في غلطة وباريس في عام 1868 المصدر المالي الأساسي لسوق الأوراق المالية.

حقق اليونانيون أيضاً نجاحاً كبيراً في البورصة، وأداروا معظم المتاجر في شارع ڤويڤودا (شارع البنوك حالياً). وعمل الأرمن سماسرةً للأوراق المالية أيضاً، لكنهم غالباً ما كانت لديهم مناصب معيّنة في الإدارة. كما كان لوسطاء الأوراق المالية اليهود سمعة في هذا القطاع أيضاً، وأشهرهم كان أفرام كاموندو الذي موّل الإمبراطورية العثمانية خلال حرب القرم وبعدها بصفته وسيط أوراق مالية [يبيع ويشتري السندات المالية].

المعالم التاريخية المميّزة في مستوطنة غلطة

منذ البداية، بدت غلطة وكأنها قطعة من مدينة أوروبية تختلف عن الأجزاء الأخرى من إسطنبول بفعل بيئتها الطبيعية. كلُّ شيءٍ ذو أصل أوروبي في القسطنطينية كان يطبق أولاً في غلطة. واستمرت تلك السمة حاضرة بعدما تحوّلت إلى إسطنبول أيضاً، فقد كانت مستعمرة غلطة جزءاً من مدينة أوروبية أكثر منها جزءاً من مدينةٍ عثمانية.

يمكننا ملاحظة السمة الأوروبية لمدينة غلطة في أنماط المباني فيها، فإلى جانب المباني الدينية التي شيِّدت فيها من كنائس ومعابد يهودية، كان الحيّ موقع بلدية المدينة الأولى، والمسرح والسفارات والفنادق والمطاعم والمقاهي والحانات والأسواق (البازارات).

برج غلطة
برج غلطة

كانت المساكن الأولى مشابهة لتلك الخشبية الموجودة في باريس ولندن وفيينا. بعد الحرائق المدمرة الأولى التي حدثت في إسطنبول، بدأ حيّ غلطة يبني مبانيه الحجرية الأولى. بنيت المساكن قريبة من بعضها، وبالتالي لم يكن هناك كثيرٌ من الأشجار. وغدت المنازل السكنية ذات الطوابق المتعددة، وبيوت العائلات، والدور الضخمة ذات الساحات الفسيحة هي المباني التقليدية في غلطة.

عندما يتعلّق الأمر بالمباني التاريخية في غلطة، فإنّ برج غلطة يظل هو المبنى الأبرز. وقد بنى البرج الجنويين (أهل جنوة) الذين سكنوا تلك المنطقة حوالي عام 1348 وكان يعرف باسم "برج المسيح"، وعززوا مكانتهم في القرنين الرابع عشر والخامس عشر.

بعدما فُتحت إسطنبول، استخدم هذا البرج لأوَّل مرة كسجن ثم كمستودع للسفن. وتعرّض برج غلطة الذي كان يستخدم أيضاً لارتفاعه في الإنذار من الحرائق لدمارٍ كبير بفعل سلسلةٍ من الحرائق شهدتها المدينة في عهدي سليم الثالث ومحمود الثاني.

كما دُمر رأسه المخروطي الذي بُني من الحجر على رأسه الخشبي القديم في 1858، ليسقط في عام 1875. لكنّ البرج تمّ ترميمه عام 1964 على يد بلدية إسطنبول التي استنسخت الحالة الأصلية التي كان عليها في عام 1875 قبل الحريق، لتعيد افتتاحه على هيئته الحالية في عام 1967.

تحميل المزيد