عند البحث عن دوافع النظام الإيراني لبسط نفوذه بمنطقة الشرق الأوسط ورغبته في استعادة أمجاد الماضي، يغمز المحللون عادةً لاستدعاء النظام الإيراني إرث الدولة الصفوية التي مثَّلت قوةً لا يُستهان بها بين عامي 1501 و1736.
إلا أن ما يجهله البعض، هو أن لإيران تاريخاً إمبراطورياً كبيراً يعود لآلاف السنين قبل الميلاد، نجح ببعض مراحله في مناكفة أعتى القوى العالمية؛ مثل الإغريق والدولة الرومانية، حتى إنهم هزموا أهمَّ 3 قادة رومانيين، وأسروا إمبراطوراً رومانياً ظل أسيراً لديهم حتى وفاته.
في هذه السلسلة نقدِّم لكم صورةً عامة عن تاريخ إيران، بدايةً من الدولة الأخمينية والسلوقيِّين والبارثيِّين وصولاً إلى الدولة الساسانيَّة الكبيرة وسقوطها على يد المسلمين، وحتى الدولة الصفوية الشيعية والقاجاريِّين، وصولاً إلى الخميني والنظام الإيراني الحالي. كما سنعرِّج على أهم الشخصيات في هذا التاريخ الإيراني، مثل قورش الثاني، وابنه قمبيز الثاني، والشاه إسماعيل الصفوي. وفي هذا التقرير سنروي لكم قصة أبو مسلم الخراساني.
أبو مسلم الخراساني.. سليلُ ملوك الفرس؟
اختلفت الروايات التاريخية حول أصل أبو مسلم الخراساني، هل كان سليلاً لأكاسرة الفرس أم كان عبداً عند أحد هؤلاء الأكاسرة؟ لكن ما لم يختلفوا عليه أنه كان فارسي الأصل، وأنه كان كلمة السر في نجاح الدعوة العباسية التي تمخضت عنها الخلافة العباسية لاحقاً، وأيضاً لا يختلفون عليه باعتباره المهدِّد الأول للخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور!
ولمعرفة الأمر بشكلٍ أوسع، علينا أن نوضح أن الدولة الأموية في نهايتها كانت قد انقسمت داخلياً وتنازع الفرقاء على الخليفة، حتى آلت الدولة إلى مروان بن محمد، ولكن قبل هذه الخلافات الكبيرة كانت هناك دعوةٌ سريةٌ ضخمة، بدأت منذ 20 عاماً أو أكثر، حتى إذا ما قامت أكلت بني أمية وأجهزت على دولتهم، مُؤذنةً بقيام دولة العباسيين.
قاد الدعوة العباسية أول الأمر حفيد عبدالله بن عباس، ثم أخوه إبراهيم بعدما سجنه آخر خلفاء الأمويين (مروان بن محمد) ومات في سجنه، وبعد إبراهيم قام بها أبو العباس الملقب بـ "السَّفاح".
كانت الدعوة بالأساس قائمة على العُنصر الفارسي، باعتباره العنصر الذي تم تهميشه خلال الخلافة الأموية، وكذلك الشيعة والعلويين، بل إن الدعوة العباسية في مرحلةٍ من مراحل دعايتها، ادعت أنها تريد أن تجعل الخلافة في آل البيت النبوي أحفاد علي بن أبي طالب.
كان مركز الدعوة بعيداً عن مقر الخلافة الأموية في دمشق، وعلى هذا كانت ولاية خراسان إحدى أهم المناطق التي تنتشر بها دعوة بني عباس. وهنا جاء دورُ أبو مسلم الخراساني.
الطموح الذي قتل صاحبه!
كان أبو مسلم الخراساني يتقنُ اللغتين العربية والفارسية بالدرجة نفسها، وبدا أنه أيضاً كان عالماً بأصول الشريعة والفقه، حتى إذا ما قابله قائد العباسيين إبراهيم بن محمد، عيَّنه داعيةً لهُ في خراسان، ومن هنا بدأ سهمُ أبي مسلم في الصعود.
ومن خراسان انطلقت الدعوة العباسية، فاستطاع أبو مسلم الإطاحة بواليها الأموي، وبدأت عمليات الكر والفر بين الدولة الأموية الشائخة، والدعوة العباسية الوليدة، وكان لأبي مسلم دورٌ ضخم في عملية الكر والفر تلك، والتي أدت في النهاية إلى القضاء على الدولة الأموية ومقتل آخر خلفائها مروان بن محمد، في معركةٍ فاصلة بالتاريخ الإسلامي: معركة الزاب الكبير.
يبدو أن أبا مسلم الخراساني اعتبر أنه بصفته فارسيّاً طَموحاً يمكنه أن يحقِّق ما حققه العرب بالإسلام، فإذا كان الصراع سابقاً بين المسلمين والمجوس، فالصراع الآن بين المسلمين والمسلمين أنفسهم، ومن هنا بدأ.. إذ تذكُر كتب التاريخ أنه كان متيَّماً بقصص الأكاسرة الفرس القدامى.
بدأت الخلافة العباسية بأبي العباس الملقب بـ "السفاح"، لكن خلافته لم تدُم أكثر من 4 سنوات، كان أبو مسلم فيها هو قائده المغوار الذي قضى على أغلب خصومه وخصوم دولته الوليدة، وقبيل وفاته أعطى خلافته لأخيه أبي جعفر المنصور، وهنا حكاية يجب أن نذكرها.
الخليفة الأول السفاح هو الأخ الأصغر لأبي جعفر المنصور، فلماذا وصلت له الخلافة قبل أخيه الأكبر؟ لأن أبا جعفر المنصور ابنُ جارية، وليس ابن امرأةٍ حرة، ولهذا ذهبت الخلافة للسفاح لأنه ابن حرة، لكنه قبيل وفاته أوصى بالخلافة لأخيه أبي جعفر.
المؤسس الحقيقي للدولة العباسية
عندما نحكي قصة أبي مسلم الخراساني، فإننا بالضرورة نذكر أبا جعفر المنصور، ليس لأنه الخليفة في ذلك الوقت، وإنما لأنه الخليفة الذي هددهُ أبو مسلم الخراساني، ولم تستتب له الخلافة قط إلا باغتياله لأبي مسلم غدراً.
ما إن تولى أبو جعفر الخلافة حتى خرج عليه عمُّه عبدالله بن علي، وأبَى أن يبايعه، واعتبر نفسه أَولى منه بالخلافة، وكذلك بدت من أبي مسلم الخراساني قلة رغبته في مبايعة أبي جعفر المنصور، وهنا جاء دور دهاء أبي جعفر، الذي غلب دهاءَ عمه وعدوِّه الخراساني.
عمد أبو جعفر إلى الاستعانة بالخراساني في مواجهة عمه عبدالله. وبالفعل، ذهب أبو مسلم ليثبت جدارته من جديد، وليثبت قوته أيضاً للخليفة الجديد، الذي يجلسُ على عرشٍ متذبذب، واستطاع بقوته وحنكته القضاء على عمِّه، وعاد أدراجه إلى معقل قوته: خراسان.
كان أبو جعفر المنصور يعلم ما ينويه أبو مسلم الخراساني، وهو الرجل القوي في الدولة، ويمكن اعتباره -بحكم القوة- وزيراً للدفاع مثلاً، وهنا جاء خداع أبي جعفر المنصور ليقضي على التهديد الأول والمباشر له.
بدأ أبو جعفر يراسل أبا مسلم، أحياناً يراسله بلهجةٍ لاذعة، وأحياناً بلهجةٍ طيبةٍ مداهنة، وفي هذه الأثناء بدأ أبو جعفر يراسل القادة من حول أبي مسلم، يرغِّبهم أحياناً ويرهِّبهم أحياناً، ثم دعا أبا مسلم الخراساني إلى زيارته، وأعطاه أمان الله ألا يقتله، وحينها لم يجد أبو مسلم سبباً يدعوه للخروج على الخليفة، الذي كان يوماً ما سبباً في الحفاظ على دعوته هو وأهله العباسيين.
وصل أبو مسلم، واستطاع أبو جعفر المنصور أن يُظهر له أنه عاتبٌ عليه فقط لا أكثر. وفي مرةٍ من المرات، استقبله في مجلس حُكمه على انفراد، وأوعز إلى بعض قادته بأن يختبئوا خلف المجلس، وأعطاهم إشارةً من يده إذا هو فعلها فعليهم أن ينقضُّوا على أبي مسلم ويقتلوه.
وبالفعل، ما إن أشار إليهم حتى انقضُّوا عليه، وعندما أدرك أبو مسلم الخديعة، صاح في أبي جعفر مستعطفاً: استبقني لأعدائك يا أمير المؤمنين! فقال له أبو جعفر: وأيُّ عدوٍّ أعدى لي منك!
قُتل أبو مسلم، ويقال إنهم ألقوه في نهر دجلة، وما إن علِم صديقه سُنباذ الفارسي بمقتله، حتى بدأ ثورةً على الدولة العباسية، أنهاها أبو جعفر بالقوة أيضاً، وانتهى أبو مسلم الخراساني في سن 33 عاماً، وهو الذي كان الرجل الأهم بلا منازع في الدولة العباسية الوليدة.