(أنا والله أصلحُ للمعالي وأمشي مِشيتي وأتيه تيها.. وأُمكّن عاشقي من صحن خدّي، وأُعطي قبلتي من يشتهيها)، بهذين البيتين الجريئين زيّنت ولادة بنت المستكفي ثوبها عندما كانت تحاول إضرام نار الغيرة في قلب ابن زيدون، الذي منّى نفسه بقوله "أعذب الشعر أكذبه".
بجمالٍ أندلسي وعزة أموية وبلاغة وجرأة ميزت ولّادة عن سائر نساء عصرها، استطاعت تلك الأميرة الشاعرة امتلاك قلوب أدباء وشعراء عصرها، وأشعلت حرباً ضارية بين الوزيرين ابن زيدون وابن عبدوس، تعالوا نروي لكم قصتها.
ولادة بنت المستكفي .. لم تشرق الشمس على أجمل منها
"ذات وجه لم تشرق الشمس على أجمل منه".. هكذا وصف المؤرخ الأندلسي ابن بسام جمال ولّادة في كتابه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، وقال إنها ورثت جمالها من والدتها، التي كانت جارية أندلسية، اسمها سكرى، أخذت منها ولّادة بشرة بيضاء وشعراً أصهب وعينين زرقاوين.
أما والدها كما هو معروف فهو الخليفة محمد بن عبدالرحمن بن عبيدالله بن الناصر لدين الله، الشهير بالمستكفي بالله، وهو الخليفة الخامس عشر من الأمويين في الأندلس، وبحسب ما روى المؤرخون فقد كان حاكماً ضعيفاً وإنساناً جاهلاً تسيّره شهواته.
رزق المستكفي وزوجته بالأميرة ولّادة في العام 994م، وكان مسقط رأسها قرطبة، عاصمة الأدب والشعر والعشاق، وعلى نقيض والدها كانت ولّادة ذات شخصية قوية وعلم واسع وجرأة ونباهة استثنائية، خلدت صاحبتها في كتب التاريخ.
مجلس ولّادة الأدبي
بالرغم من أن ولّادة هي ابنة خليفة أموي فإن نسبَها لم يكن سبب شهرتها، بل ذاع صيتها بسبب بلاغتها في الشعر، وشخصيتها القوية الجذابة، وجمالها الذي أسر قلوب الشعراء وأصحاب السلطان في زمانها.
كانت ولّادة أول امرأة تجعل من بيتها مركزاً أدبياً يلتقي فيه الشعراء والبلغاء وأصحاب السلطة، فتبارزهم ولّادة بالشعر، وتناقشهم بالأدب والسياسة، وتغلبهم في كثير من الأحيان.
كما كان منزلها مفتوحاً دائماً للنساء من مختلف الطبقات، اللواتي يردن تعلم القراءة والكتابة والموسيقى.
وإلى جانب الشاعر الأندلسي الملقب بذي الوزارتين "ابن زيدون"، كان ابن حزم صاحب كتاب "طوق الحمامة" أيضاً من رواد مجلسها الأدبي، إذ تتلمذ على يديها وجمعته معها صداقة قوية.
كبرياء وغيرة.. بداية الجفاء
قصة عشق ابن زيدون وولّادة أشهر من أن تُروى، فجميعنا قد سمع بأشعار العاشقين التي تصف حبهما ولوعتهما من الهجر والفراق، لكن ربما لا يعلم كثير منا أن الغيرة والكبرياء قد وقفا حائلاً دون نهاية سعيدة لهذه القصة.
فعلى الرغم من عشق ولّادة لابن زيدون فإنها كانت تقربه أحياناً وتصده أحياناً أخرى، وكانت تتعمد إثارة غيرته، خصوصاً عندما يشاهد الوزير ابن عبدوس يتقرب منها.
فقرر ابن زيدون أن يردها إليها، فتعمّد أن يبالغ في إحدى الليالي بالتعبير عن إعجابه بصوت جارية ولّادة وهي تغني، وطلب منها أن تزيده وتكرر على مسامعه ما كانت تغنيه متغنياً بعذوبة صوتها، مما أشعل الغيرة في صدر ولّادة التي قالت:
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا.. لم تهو جاريتي ولم تتخيّر
وتركت غصناً مثمراً بجماله.. وجنحتَ للغصن الذي لم يثمر
لم تنس ولّادة ذلك الموقف الذي جرح كبرياءها فراحت هي الأخرى تفسح المجال للوزير ابن عبدوس بالتقرب إليها بالمال والهدايا لإثارة غيرة ابن زيدون، ما أشعل حرباً بين الوزيرين.
حرب الوزراء لكسب قلب ولّادة
اشتدت غيرة ابن زيدون من الوزير ابن عبدوس مع أن الفرق بينهما كالثرى والثريا، فابن زيدون يملك الشجاعة والوسامة والبلاغة والبديهة الحاضرة التي لا يملك منها ابن عبدوس شيئاً.
مع ذلك تعاظم في نفس ابن زيدون أن يرى ابن عبدوس يجاهر بعشقه وهواه للولّادة، وأن يقول الناس أنه منافس ابن زيدون وغريمه، فقد كان له هو الآخر اعتداد بالنفس يصل إلى مستوى الغرور أحياناً.
كل ذلك دفعه إلى كتابة رسالة مهينة بعثها لابن عبدوس على لسان ولّادة يقول في مطلعها:
"أما بعد، أيها المصاب بعقله، المورّط بجهله، البيّن سقطه، الفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب على الشراب، المتهافت تهافت الفراش في الشهاب، فان العُجب أكبر، ومعرفة المرء نفسه أصوب، وأنك راسلتني مستهدياً من صلتي ما صِفرت منه أيدي أمثالك، متصدياً من خلّتي ما قُرعت دونه أنوف أشكالك".
واجتماع غيرة ابن زيدون مع غروره وتيهه جعله يذهب إلى أبعد من ذلك، فنظم أبياتاً يصف فيها ابن عبدوس بالفأر الذي يأكل فضلات طعامه عندما قال:
أَكرِم بِوَلّادَةٍ ذُخراً لِمُدَّخِرٍ لَو فَرَّقَت بَينَ بَيطارٍ وَعَطّارِ
قالوا أَبوعامِرٍ أَضحى يُلِمُّ بِها قُلتُ الفَراشَةُ قَد تَدنو مِنَ النارِ
عَيَّرتُمونا بِأَن قَد صارَ يَخلُفُنا فيمَن نُحِبُّ وَما في ذاكَ مِن عارِ
أَكلٌّ شَهِيٌّ أَصَبنا مِن أَطايِبِهِ بَعضاً وَبَعضاً صَفَحنا عَنهُ لِلفارِ
إلا أن ابن زيدون جعل ولّادة بتلك الأبيات بغياً أخذ حاجته منها ثم تركها، لمن هم دونه في المقام، فدفعت تلك الأبيات ولّادة إلى قرار هجره للأبد.
ابن عبدوس يكيد لابن زيدون
خيلاء ولّادة وكبرياؤها منعاها من الصفح عن ابن زيدون، رغم أنها كانت تهواه مثلما كان يهواها، وبالرغم من مئات قصائد الحب والشوق والندم التي كتبها لها، منعها كبرياؤها من التراجع عن قرارها رغم أن شوقها كان يعادل شوقه.
لكن ابن عبدوس كان يعشق ولّادة لدرجة خشي معها أن ترجع لابن زيدون بعد كل تلك القصائد، وليضمن أن يبعده عنها إلى الأبد كاد له عند أبي الحزم، فلاقى أذناً مصغية وسُجن ابن زيدون فترة من الزمن.
بعض المؤرخين ذكروا أن ابن خلدون هرب من السجن وبقي متخفياً في أحواز قرطبة، حتى أصدر أمراً بالعفو عنه، والبعض الآخر يقولون إنه بقي بالحبس حتى تولى أبو الوليد ابن أبو الحزم مكان والده، فعفى عن ابن زيدون وقربه منه.
لكن المؤرخين يُجمعون على أن ابن زيدون ما لبث أن غادر قرطبة ولجأ إلى المعتضد بن عباد، صاحب إشبيلية، بسبب استمرار ابن عبدوس بالكيد له، ويجمعون أيضاً أنه لم ينس حبه لولّادة طوال تلك الفترة، وبقي يكتب لها الأشعار والقصائد علها تصفح عنه.
وفاة ولادة بنت المستكفي
بالرغم من أن نيران الأشواق كانت تضطرم في صدر ولّادة وابن زيدون، فإن اللقاء لم يكتب لهما، بينما لم ييأس ابن عبدوس من معشوقته، وظل يزورها ويبذل لها المال والهدايا إلى أن توفيت عن عمر يناهز الثمانين عاماً في بعض الروايات، ويصل إلى قرابة المئة في روايات أخرى ذكرت أن موتها كان في العام 1091، وهو العام الذي غزا فيه الموحدون قرطبة.
لم تتزوج ولادة طيلة حياتها وفاء لابن زيدون، وقيل إن ابن زيدون قد عاد إلى قرطبة كهلاً بعد فترة طويلة قضاها في إشبيلية، وذهب يطلب لقاء ولّادة التي كانت هي أيضاً متلهفة للقائه، لكنها أبت لأنها أرادت أن يحتفظ بذاكرته بصورتها، وهي ولّادة الشابة الجميلة، وألا يراها وهي كهلة وقد مرت عليها كل تلك السنين.