في زيّ رجلٍ ولحيةٍ مُزيفة حكمت الملكة حتشبسوت مصر، أطلق عليها لاحقاً "إليزابيث التاريخ المصري". كانت حتشبسوت واحدة من بين نساءٍ قليلاتٍ يُمكن عدّهنّ على أصابع اليد الواحدة، اللاتي وصلن للعرش في مصر.
كان لها العديد من الإنجازات، وخاضت رحلةً استكشافية إلى بلاد بونت التي لم يكن المصريون يصلون إليها أو يعرفونها، ولكن بعد موتها تشوهت وطُمست كل آثارها. في السطور التالية نتعرّف على حياة الملكة حتشبسوت.
هكذا استولت حتشبسوت على الحكم من ابن أخيها
كانت حتشبسوت ابنة الفرعون تحتمس الأول، كان تحتمس ملكاً محارباً أطلق حملاتٍ ناجحة في النوبة وسوريا، مما وسَّع المنطقة الخاضعة للحكم المصري.
بعد وفاة أبيها الفرعون تحتمس الأول انتقل العرش المصري إلى تحتمس الثاني، أخيها غير الشقيق وهو أيضاً زوجها، ففي مصر القديمة، كان من المُعتاد أن تتزوَّج العائلة الحاكمة من داخل أسرهم فكان يتزوج الأخ أخته.
مع وفاة تحتمس الثاني، كانت حتشبسوت قد أنجبت ابنة واحدة منه، تُدعى نفرور أو نفرتي، لكنها لم ترزق منه بولد، وعندما توفي تحتمس الثاني حوالي عام 1479 قبل الميلاد، انتقل العرش إلى ابنه تحتمس الثالث، الذي أنجبه من زوجةٍ أخرى.
كان تحتمس الثالث طفلاً غير قادر على حكم مصر، ما سمح لحتشبسوت أن تكون بمثابة الوصيّ عليه. لقد فعلت ذلك لمدة نحو ثلاث سنوات في بعض المصادر ووفقاً للبعض الأخر لمدة سبع سنوات، ثم أصبحت "فرعون" بمُفردها، على الرغم من أنّ المُفترض أن تكون حاكماً مشاركاً مع تحتمس الثالث لا أكثر.
فبعد أن أصبحت حتشبسوت شريكاً في حكم مصر، ادّعت أنها من المواليد الإلهية، نتيجة اتحاد بين أمها والإله آمون، فالإله آمون هو والدها وأصرّت على أنه كان يريد لها أن تتولى مصر، ويؤكد على ذلك أحد النقوش المزخرفة بالمجمَّع الجنائزيّ الهائل الذي أسسته حتشبسوت في الدير البحري بالأقصر والذي يُصوّر الأب وهو يتوج ابنته فرعوناً بحضور الآلهة المصرية.
سعت حتشبسوت لتأكيد أولويتها بالحكم على تحتمس الثالث، ولم يكن الأمر سهلاً في المجتمع المصري، فلم يكن بإمكان حتشبسوت تحقيق ذلك دون دعمٍ من كبار المسؤولين، الذين خاطروا بفقدان قوتهم، إن لم يكن فقدان حياتهم، إذا وصل الحكم لتحتمس الثالث بعد هذه المغامرة.
بعد أن استولت حتشبسوت على العرش، بدأ نحت التماثيل التي تصوِّرها فرعوناً ذكراً، وصولاً إلى تصويرها باللحية، ومع ذلك، سمحت لبعض الصفات الأنثوية بالظهور في تماثيلها، فعلى الرغم من أنه غالباً ما كان يتم تصوير حتشبسوت في معظم عهدها بالصورة التقليدية كفرعونٍ ذكر، لكنها كانت تترك اعترافاً ضمنياً بوضعها الأنثوي.
تشير أستاذة جامعة تورنتو ماري آن بولس فيجنر، التي عثر فريقها على تمثالٍ خشبي في أبيدوس يُمثل حتشبسوت، إلى أنّ خصرها تم تصويره على أنه أنحف نوعاً ما من نظرائها الذكور، فعلى الرغم من أنها صُوِّرت كرجل في تماثيلها، إلا أنّها في كثيرٍ من الأحيان أعطت إشارة إلى جسدها الأنثوي بجعل خصرها أضيق.
حكم الملكة حتشبسوت هادئ وحافل بالإنجازات
حكمت الملكة حتشبسوت فرعوناً لمصر بين عامي 1473 و1458 قبل الميلاد.
لم يكن من العادي أن تُصبح امرأة فرعوناً لمصر كما أخبرناكم، ويقول عالم المصريات إيان شو، في كتابه "استكشاف مصر القديمة": "في تاريخ مصر خلال فترة الأسرات (3000 إلى 332 قبل الميلاد)، كانت هناك امرأتان أو ثلاث نساءٍ فقط تمكنَّ من الحكم كفراعنة، بدلاً من ممارسة السلطة كزوجةٍ عظيمة لفرعونٍ ذكر".
لم تحذف حتشبسوت تحتمس الثالث، لكنها طغت عليه بوضوح، وكانت فترة حكمها التي استمرت نحو 21 عاماً وقتاً من السلام والازدهار لمصر.
تمكّنت حتشبسوت من إطلاق برنامج بناء ضخم فبنت معبداً كبيراً في الدير البحري في الأقصر. كما أطلقت رحلةً بحريةً ناجحة إلى أرض بونت، ولكن وعلى الرغم من النجاح الواضح الذي حققته خلال فترة حكمها، ودفنها كفرعون في مقابر وادي الملوك، فإن آثارها ستُشوه لاحقاً بعد وفاتها، على ما يبدو من قِبل حاكمها المشترك وابن أخيها تحتمس الثالث.
لم تستطع أن تقود الجيش.. فقررت إرساله في رحلة استكشاف لبلاد بونت
لم تستطع الملكة حتشبسوت مضاهاة غزوات والدها من خلال قيادة القوات في المعارك، فهو دورٌ يقتصر على الرجال، وبدلاً من ذلك، أخرجت الجيش من المعادلة تماماً، وبدلاً من إرسال الجنود إلى الحرب، أرسلتهم إلى ما أصبح مشروعها العظيم، وهو: رحلةٌ استكشافية إلى أرض بونت الأسطورية، حيث لم يتواجد هناك مصري منذ 500 عام.
كانت الرحلة الاستكشافية إلى أرض بونت، والمعروفة أيضاً باسم "أرض الله"، انتصاراً رئيسياً في العلاقات الخارجية في عهد حتشبسوت، ويُعتقد أن بونت تقع في شمال شرق إفريقيا، في مكان ما في منطقة إريتريا وإثيوبيا وجنوب السودان.
وفقاً لما سجلته نقوش معبد حتشبسوت في الدير البحري كانت أرض بونت بها أكواخٌ مخروطية مبنية من القصب كأعمدة فوق الأرض، ومن بين الأكواخ يمكن رؤية أشجار النخيل وأشجار المرّ، ويتميز حاكم بونت عن المصريين في المقام الأول بلحيته وزيّه غير العادي، وتم تصوير زوجته كامرأةٍ بدينة للغاية.
تُشير النقوش أيضاً إلى أنّ الرحلة كانت ناجحة إلى حدٍ كبير، وعادت البعثة مُحمّلة بالذهب والعاج وأشجار المرّ الحية، بالإضافة إلى مجموعة من الحيوانات الغريبة، بما في ذلك القرود والفهود والزرافات.
تخبرنا النقوش أيضاً أنه لم يكن هناك أي حاكم مصري حقق نجاحاً كهذا في بلاد بونت، فلم يتم إحضار مثل هذه الأشياء خلال أي وقتٍ مضى، وقد عززت الحملة الناجحة سمعة الملكة وشعبيتها بشكلٍ كبير.
كفرعون، افتتحت حتشبسوت مشاريع بناء تفوّقت بكثيرٍ على أسلافها، فمثلاً في بلاد النوبة، بَنَت آثاراً في عددٍ من المواقع، مثل قصر إبريم.
وفي مجمّع معبد الكرنك، أقامت سلسلةً من المسلّات وبنت "قصر ماعت"، وهو بناءٌ مستطيل يتكون من سلسلة من الغرف الصغيرة مع قاعةٍ مركزيةٍ كبيرة.
ربما كان الإنجاز المعماري الأكثر إثارة للإعجاب لبُناة حتشبسوت هو المعبد الجنائزيّ في الدير البحري، فعندما اكتشف علماء الآثار المعبد في القرن التاسع عشر، وجدوا مزاراتٍ مخصَّصة لحتحور إله السماء، وأنوبيس إله الموت، بالإضافة إلى تمثالٍ يُظهر حتشبسوت على أنّها أبوالهول، إلى جانب العديد من النقوش المطلية التي تُصوِّر الرحلة الاستكشافية إلى أرض بونت.
وفاتها وتشويه إنجازاتها
خلف حتشبسوت بعد وفاتها تحتمس الثالث، ابن زوجها الذي كان من المفترض أن يكون شريكاً لها في الحكم، وبالرغم من أنّها دُفنت في وادي الملوك، إلا أنّ ذكراها تم طمسها.
فبعد فترةٍ وجيزة من وفاتها في عام 1457 قبل الميلاد، تعرّضت آثارها للهجوم والتشويه، وتم الاستيلاء على تماثيلها وتحطيمها، كما تمّ تشويه صورتها وألقابها. كتبت عالمة المصريات جويس تايلدسلي في مقالٍ لهيئة الإذاعة البريطانية عام 2011، أنّ هذا ربما كانت محاولة من قبل تحتمس الثالث لإضافة بعض النجاحات التي حققتها حتشبسوت خلال فترة حكمها إلى نفسه، فعمد إلى إزالة جميع الإشارات الواضحة إلى حتشبسوت، ليتم دمج إنجازات فترة حكمها إلى إنجازاته، ويصبح بذلك أعظم فرعون في مصر.
اكتشف هوارد كارتر، عالم الآثار الإنجليزي، عام 2007، مومياوين لسيدتين في مقبرة مُرضِعَة حتشبسوت، إحداهما تعرّف عليها زاهي حواس، وهو عالم مصريات ووزير دولة سابق لشؤون الآثار في مصر، على أنها مومياء حتشبسوت.
ويشير باحثون إلى أنها كانت في سن الخمسين من عمرها تقريباً عندما توفيت، وتظهر على المومياء علامات الإصابة بالتهاب المفاصل وكثيرٍ من التسوُّسات والتهاب الجذور والجيوب في الأسنان، وكذلك مرض السكريّ وتفشِّي سرطان العظام بجسدها والذي ذهب الباحثون إلى أنه قد يكون سبباً في وفاتها.