عاشت الدولة السلجوقية دائماً على حافة الخطر وفي مواجهة الصراع الإسلامي – الإسلامي من جهة، والغزو المغولي أو المناوشات الصليبية من جهة، لكنّ ملكاً واحداً من ضمن هذه الفترة من الدولة لقِّب بـ "العظيم"، علاء الدين كيكوبات، أو علاء الدين كيقباد.
ظروف نشأة الدولة السلجوقية حتَّمت عليها العديد من الصراعات
نشأت الدولة السلجوقية على هامش الخلافة العباسيّة، فقد استخلص بعض الخلفاء العباسيين بعض الجنود الأتراك حتّى أصبح بعضهم من كبار رجالات الدولة والعسكر، ومع مرور الوقت استقلّ بعضهم ببعض الدويلات تحت الحكم الاسمي للخليفة العباسي.
كان وضع الخليفة العباسي في بغداد غريباً بعض الشيء، فهو "الخليفة"، له من الخلافة الشكليّات والتشريفات فقط، يوزّع الألقاب ويقرّ الملوك على ملكياتهم التي أخذوها عنوةً بالأساس، وكان المتحكّمون في الخلافة هم الدويلات الصغيرة القائمة على هوامشها، وكانت أبرز وأقوى هذه الدول دولة السلاجقة، التي حجرت في بعض أزمانها على الخليفة العديد من المميزات التي كان يتمتع بها، حتى أن بعض ملوك السلاجقة فكروا أن يخرجوا الخليفة من بغداد ويأخذوها عاصمةً لدولتهم.
على جانبٍ آخر، كانت ظروف التوريث في الدولة السلجوقية – وكل ممالك وسلطنات الأتراك – لا تخضع لقانونٍ واحد كما في الدول المشرقية، فقد كان الخليفة يورّث لابنه الأكبر أو لأخيه الذي يليه في التسلسل التوريثي للمملكة أو السلطنة.
بينما كان للأتراك طريقةٌ أخرى للتوريث، فرغم أنّ الملك أو السلطان يمكن أن يوصي بالملك لأحد أبنائه -ولا يشترط أبداً أن يكون الابن الأكبر، فقد يوصي لأصغر أولاده سناً- إلا أن الأمور عادةً ما كانت تسير بطريقٍ معاكس، فكبار رجال الدولة والأتابك والوزراء كانوا أصحاب الكلمة الأخيرة أحياناً كثيرة في تولية أحد أبناء السلطان أو عدم توليته.
باختصار كان الأمر يخضع لقوة أحد أولاد السلطان ومدى ما تحت يديه من الجند وولاء الوزراء والتحالفات معه، وهذا ما حدث مع السلطان علاء الدين كيكوبات.
وفقاً لهذا العرف العجيب كيف اعتلى علاء الدين السلطنة؟
بعد وفاة والِده السلطان كيخسرو الأوّل في إحدى المعارك، تنازل كيكوبات -وهو الابن الثاني- مع أخويه الأكبر كيكاوس الأوّل، حظى علاء الدين كيكوبات، وكان عمره حينها 23 عاماً، بدعم بعض الأمراء وبدعم بعض الإمارات المحيطة بدولة سلاجقة الروم، لكنّه في النهاية انهزم أمام أخيه بعدما تخلّى عنه بعض الأمراء خوفاً على مصالحهم وإماراتهم.
كانت عادة ملوك السلاجقة والأتراك الذين ينازعهم إخوتهم في الحكم تقضي بقتل الإخوة، بل إنّ بعضهم قتل إخوته دون أن ينازعوه في الحكم، ليقطع الشك باليقين، وليقطع الطريق على قادة الجند والوزراء إذا فكروا بالانقلاب على السلطان وتولية أحد إخوته، لكنّ كيكاوس الأوّل كان له قرارٌ أفضل: فقد اكتفى بحبس أخيه علاء الدين فقط دون قتله، فظلّ سجيناً طيلة 8 سنوات، حتى توفي أخوه بشكلٍ مفاجئ، فجاءه أكبر وزراء وقادة الدولة وقلّدوه السلطنة.
لماذا لقِّب علاء الدين بالعظيم؟
حكم علاء الدين كيكوبات الأوّل 17 عاماً، وعلى الرغم من أنّه ماتَ في سنٍ صغيرة (49 عاماً) فإنّ أثره كان عظيماً وكبيراً، ليس فقط على مستوى ازدهار الدولة السياسي والعسكري وإنّما أيضاً على مستوى الثقافة والفنون والعمارة.
كانت دولة السلاجقة في ذلك الوقت تقع بين أنيابٍ ثلاثة، فمن ناحية الشرق كان المغول قد بدأوا غزوهم للأناضول وآسيا الصغرى، ومن ناحية الغرب كان البيزنطيون على عداءٍ دائم مع دولة السلاجقة، إضافةً إلى الصراعات الإسلامية الأخرى مع دولة الغزنويين المنهارة ودولة الأيوبيين التي أرادت التوسُّع في الأناضول على حساب السلاجقة.
بدأ علاء الدين يرتِّب أموره الداخلية أولاً، فأقصى الأمراء الذين لا يدينون له بالولاء، ثمّ وجّه أنظاره ناحية أرمينيا الصغرى وآسيا، كما أدار علاقاته مع البيزنطيين بدبلوماسية.
كان أخوه الملك السابق قد بدأ حرباً مع الملك العادل ملك الأيوبيين، وطمع في السيطرة على حلب، لكن العادل قد هزم جيش كيكاوس الأوّل، وسيطر الجيش الأيوبي من جديد على بعض المناطق التي خسرها قبل تلك المعركة، اتساقاً مع سياسة علاء الدين الدبلوماسية فقد أبرم الصلح مع الأيوبيين وتزوّج ابنة الملك العادل الأيوبي.
تبقَّى له الآن أن يوطّد حكمه ويوسّع جيشه ويطوره للاستعداد للقاء المغول الزاحفين على الأناضول، لكن الوضع الجغرافي والجيوسياسي الذي كان فيه لم يمهله، فقد بدأ جلال الدين منكبرتي، الملك المسلم، الذي قضى المغول على مملكة أبيه ومن ثمّ مملكته لاحقاً، يناوش السلطان علاء الدين ويظهر العداوة بعدما تراسلا معاً وتعاهداً على قتال المغول.
فيما يبدو كان جلال الدين منكبرتي، بما تبقّى من جيشه الذي هزم في النهاية بعد تحقيق عدة انتصارات على المغول، يبحث عن قاعدة ينطلق منها في محاولته المستميتة لاسترداد ملك أبيه في خوارزم وبلاد ما وراء النهر وما حولها، ويبدو أنه فكر في الاستيلاء على مدينة أخلاط، وهنا اجتمع جيش علاء الدين كيكوبات وجلال الدين منكبرتي الذي تحالف مع بعض الأمراء الأيوبيين في ذلك الوقت، وهُزم جلال الدين هزيمة نكراء.
استغلّ كيكوبات هذا الانتصار، وبدأ في التوسُّع في بلاد الأرمن ودخل تفليس عاصمة جورجيا، وبالطبع لم يفته أن يضمّ العساكر الخوارزمية التي أصبحت بلا قائد بعد مقتل جلال الدين منكبرتي، وقد حاول الملك الأيوبي الكامل أن يدخل بجيشه بلاد السلاجقة، لكنها انتهت بهزيمته على يد علاء الدين كيكوبات.
رغم ذلك لم يستطع أن يحمي دولة السلاجقة من الزوال
وصف ابن كثير علاء الدين كيكوبات بأنّه "كان من أعدل الملوك وأحسنهم سيرةً، وقد زوّجه العادل ابنته وأولدها"، كنّا قد ذكرنا أنّ السلطان قد تزوّج ابنة العادل، وقد أولدته ولدين، جعل لأحدهما ولاية العهد وهو "عز الدين قلج أرسلان"، وألزم الأمراء بمتابعة ذلك والبيعة له فبايعوه، لكن كان للعرف السلجوقيّ رأيٌ آخر.
فقد تلاعب بعض أمراء ووزراء الدولة السلجوقية بعد وفاة السلطان وأقرّوا ابنه الآخر وهو من زوجةٍ أخرى على السلطنة.
سيطر "غياث الدين كيخسرو" أو بالأحرى سيطر أمراؤه ووزراؤه على مفاصل الدولة، وأمروا بقتل وليّ العهد الشرعي عز الدين قلج أرسلان وأمّه، وضربوا بذلك وصية السلطان الذي يبدو أنّه كان يُمنِّي نفسه إن أعطى لابنه قلج أرسلان السلطنة أن يكفّ أخواله الأيوبيين عنه أذاهم فيتفرّغ لقتال المغول وبقية الإمارات في الأناضول وآسيا الصغرى.
وفي عهد حفيد السلطان كيكوبات، سقطت الدولة السلجوقية أمام هجمات المغول تماماً، وبعد سنواتٍ قليلة من وفاة علاء الدين كيكوبات العظيم، قسّم المغول الدولة السلجوقية بين حفيديه عز الدين كيكاوس الثاني وركن الدين قلج أرسلان الرابع، وانتهت بذلك فترة مزدهرة هي فترة حكم علاء الدين الأوّل للدولة السلجوقية، فقد جاءٍ في وقتٍ كانت الدولة فيه ضعيفة وتركها قوية يهابها أعداؤها لكنّها تفككت بعد موته بسبب تلاعب بعض الأمراء والوزراء بوصيته وابنه الصغير، فانتهت الدولة على أيديهم، وبقي علاء الدين كيكوبات بعصره الذهبي مخلداً في التاريخ.