"ظهر المهدي المنتظر!".. هذه هي الرسالة التي قدمها جهيمان العتيبي وأتباعه للمعتمرين والمصلين في المسجد الحرام، في الساعة الخامسة من فجر يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1979 قبل دقائق من اقتحامهم المسجد الحرام في مكة.
فبينما كان آلاف المصلين ينتظرون أذان الفجر، إذ بـ "داعيةً" أربعيني وحوله نحو 200 من أتباعه ينادون بظهور المهدي المنتظر.
أبعد جُهيمان العتيبي وأتباعه إمام المسجد الحرام عن مكبّر الصوت، واستولوا عليه، ليعلنوا ظهور المُخلّص الموعود.
وبعدها أخرجوا أسلحة يدوية من داخل مجموعة نعوش كانوا أدخلوها معهم إلى الحرم، على أنها تحوي جثث موتى جاؤوا ليُصلى عليهم.
ظهر المهدي المنتظر!
وبحسب المعتقدات الإسلامية، فإن المهدي المنتظر هو المخلِّص الذي سيأتي في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد أن مُلئت جوراً وظلماً.
وقد رأي جهيمان وأساتذته أن وصف المهدي المنتظر ينطبق على صهره عبد الله محمد القحطاني بحسب ما ورد في الأحاديث النبوية، لذلك قرر هو وأتباعه الإعلان عن الخبر عبّر مكبرات الصوت في أقدس مسجد للمسلمين، حيث تمّت مبايعته بين الركن اليماني للكعبة ومقام إبراهيم.
كانت هذه ضمن العلامات التي ذكرت الأحاديث أنها ستميز المهدي المنتظر، بالإضاقة إلى أن اسمه يوافق اسم النّبي محمد؛ فهو محمّد بن عبد الله، كذلك يتميز بالصلاح، مع صفات خلقية مثل أنه أقنى الأنف، أجلى الجبهة، بالإضافة إلى أنه لا يطلب المبايعة، إنما يأتيه الناس مبايعين.
يومها، انطلق الصوت قائلاً:
"فاعلموا – أيها المسلمون – أنه قد انطبقت هذه الصفات كلها على شخص بينكم الآن. يا إخوان، اجلسوا وانتشروا بين الرّكن والمقام، يا إخواننا انتبهوا لتسكين الأمر، يا أحمد اللهيبي اطلع السطوح، ومن رأيته يتمرد على البيان فأطلق عليه النار".
بعدها أحكم "الداعية" جهيمان العتيبي وأتباعه سيطرتهم على المسجد الحرام في مكة خلال ساعة واحدة.
صديقان التقت أفكارهما
جهيمان العتيبي وُلد في العام 1936، ونشأ في العاصمة السعودية الرياض.
سار جهيمان على خُطا والده في التديّن؛ فقبل 50 عاماً من اقتحامه وأتباعه الحرم، كان والده منتسباً إلى جماعة "إخوان من أطاع الله" وشارك في معركة "السبلة" التي خاضتها الجماعة الإسلامية ضد الملك عبد العزيز بن سعود، مؤسس السعودية.
بدأ جهيمان حياته المهنية موظفاً عادياً في الحرس الوطني السعودي مدة 18 عاماً، منذ العام 1955.
وفي العام 1973، ترك وظيفته وانتقل إلى المدينة المنورة، حيث درس في الجامعة الإسلامية والتقى الشخصَ الذي سيمثل أساس دعوته فيما بعد: محمد بن عبد الله القحطاني.
بدأ كلٌّ من جهيمان والقحطاني في نشر أفكارهما المشتركة ببعض المساجد الصغيرة في المدينة، وكوّنا جماعة أطلقا عليها اسم "المحتسبة"، وأصبح تعدادها بالآلاف، ومن بين أعضائها المؤثرين: ناصر بن حسين، وسليمان بن شتيوي، وسعد التميمي.
لكن القوة الداخلية التي تميّز بها جهيمان، وطموحه إلى القيادة، جعلا منه القوة المحركة للمجموعة.
مُهرب مخدرات سابق
يردد بعض المقربين منه، والذين استعانت بشهادتهم هيئة الإذاعة البريطانية BBC في فيلمها الوثائقي عن "حصار مكة"، ومنهم أسامة القوصي، طالب علم ديني مصري، أن جهيمان كان في بداية حياته يهرب بعض الأشياء إلى داخل السعودية ومنها المخدرات، لكنه توقف عن ذلك والتزم بمبادئ الدين، وجذبته تعاليم الأئمة السلفيين، قبل أن يصبح واحداً من الشخصيات الهامة في الدعوة السلفية.
ضاق جهيمان وأتباعه ذرعاً بما اعتبروه بدعاً وتجاوزات دينية انتشرت داخل المجتمع السعودي في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فلم تكن تروق لهم مساعي التطوير والتحديث التي اعتمدها الملك سعود والملك فيصل منذ اكتشاف حقول النفط.
كان "المحتسبة" يرون أن الدولة تسير في طريقٍ يلهي الناس عن صحيح دينهم، ولا يجعلهم خالصين لتعاليم الإسلام.
لم يكن التطوير الذي يعترضون عليه سوى إدخال التليفون والفاكس، وظهور المرأة على شاشات التلفزيون، فنبذوا كل من يؤيد تلك التغييرات حتى وإن كانوا منمن داخل المؤسسة الدينية نفسها.
كل هذا دفع جهيمان لاعتقاد أن الحكام في السعودية لا يستحقون الطاعة، وأنه يجب استعجال ظهور المهدي المنتظر، حتى تتم العودة إلى دين الله.
لكن المهدي لم يكن مقتنعاً بكونه المهدي!
وبالفعل، وجد الشخص الذي سيكون هو المهدي، ولم يكن هذا الشخص إلا صديقه الصدوق محمد بن عبد الله القحطاني.
كان القحطاني حينها شاباً في الـ 25 من عمره تقريباً، يشبه باسمه اسم النبي محمد كما جاء في الأحاديث، وبهيئته هيئة المهدي كما وُصف في بعضها أيضاً.
لم يكن الأمر مقنعاً حتى بالنسبة للقحطاني نفسه، لكن بحسب شهادة المقربين، تواترت الرؤى التي يراها المنضمون إلى الجماعة ومَن هُم خارجها أيضاً عن أن القحطاني هو المهدي المنتظر.
وعلى مدى شهرين ظل جهيمان يدرّب أتباعه استعداداً لمبايعة المهدي، وبالفعل تحقق كل ما خطط له.
غياب الخبرة الأمنية السعودية أطال مدة الحصار
وبالعودة إلى الأيام التي سبقت سيطرة "المحتسبة" على المسجد الحرام، فإن الأمن السعودي لم يكن بعدُ مدركاً أبعاد ما يحدث، وكانت الاستجابة الأمنية بطيئة، بسبب غياب أفراد مهمين من العائلة المالكة لسفرهم إلى الخارج، كذلك مرض الملك خالد، وانعدام المعلومات الاستخباراتية.
وفي فجر 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1979، ظن الأمن في البدء أنه أمام حادث بسيط يخلّ بأمن الحرم، لكن دوريات الشرطة التي أُرسلت إلى المسجد أُمطرت بوابل من الرصاص بمجرد محاولتها الدخول.
هنا أدرك الأمن السعودي خطورة الوضع، لم يمنعهم هذا في اليوم الثاني من إصدار بيان رسمي بأن المسجد تعرّض لحادث أمني بسيط تم إخماده.
لكن الوضع كان مختلفاً على أرض الواقع، فقد بلغت المعركة أوجها ظهيرة اليوم الثاني من حدث الاقتحام، فبدأت الطائرات الحربية تنتشر في سماء الحرم، وطُوِّق المسجد بنحو ألفي جندي.
أدّى ذلك بالمسلحين إلى التجمع في القبو الأرضي بالحرم، فأحرقوا السجاجيد وإطارات السيارات المطاطية، لتشكيل سحب كثيفة من الدخان ودهن بعضهم وجوههم باللون الأسود.
قتالٌ متبادل والتدخل الفرنسي حسم الأمر
كان المسلحون يحتمون بالأعمدة قبل أن ينقضّوا من خلفها لمهاجمة جنود الأمن الذين بادلوهم الطلقات النارية، بعد أن حصلت الحكومة السعودية على فتوى شرعية بجواز إطلاق النار على "محتلي الحرم المكي".
ففي الأصل، يتمتع الحرم المكي بخصوصية لدى المسلمين؛ إذ يُمنع فيه القتل بكل أشكاله بما يشمل صيد الحيوانات والطيور، كما يحرّم علماء السعودية دخول غير المسلمين إلى مدينتي مكة والمدينة.
بعد صدور الفتوى، تم الاتفاق مع قوات فرنسية لوضع مخطط لاقتحام الحرم والسيطرة على الوضع.
خلال القتال، قيل إن القحطاني أصيب، وقيل أيضاً إنه مات، ما شكك بعض المتيقنين بكونه المهدي المنتظر.
ورغم ذلك تمكن جهيمان من إقناع رجاله بالمضي قدماً في القتال، وهو ما حدث بالفعل وتحوَّل الحرم إلى ساحة قتال لـ 15 يوماً؛ ما أدّى إلى نفاد طعام المسلحين وذخيرتهم.
تدخَّل الفرنسيون مستخدمين قنابل الغاز الخانق، التي تسببت في إصابة المسلحين بعمى مؤقت، ما سمح لقوات الأمن السعودية باختراق المسجد الحرام.
وأعلن جهيمان الاستسلام وأعطى أوامره بإلقاء السلاح، بعد أن نفد الطعام والذخيرة، وخنقهم الغاز، فألقى الأمن السعودي القبض عليه وعلى أتباعه.
ونُقل إلى أحد فنادق مكة، لكي تصوره الصحافة، كما نشرت السلطات السعودية صورة لقتيل قالوا إنه هو المهدي المدَّعَى.
الخسائر التي أسفرت عنها عملية الاقتحام كانت ما يقرب من 255 قتيلاً، وفقاً للبيان الرسمي السعودي، في حين رجّحت بعض المصادر أن عدد القتلى تجاوز الـ 1,000.
ووفقاً للتقدير السعودي الرسمي، كان هناك نحو 127 قتيلاً من القوات السعودية، و117 من المسلحين و26 من المدنيين، بالإضافة إلى 450 جريحاً من أفراد القوات السعودية، وتلفيات واسعة في الحرم استغرقت شهوراً لإصلاحها.
بعد ما يزيد على شهر من تاريخ الهجوم، أعدمت السلطات السعودية علناً نحو 63 من أتباع جهيمان العتيبي. إذ أصدر الملك خالد الأمر رقم 4207/2، الذي ينص على إعدام من تم اعتقالهم من أفراد عصابة جهيمان.
وشملت أوامره تنفيذ الإعدام في عدد من المحافظات المختلفة، وبالفعل نُفِّذ القرار بتقسيم المعتقلين المحكوم عليهم بين مكة والمدينة والرياض والدمام وتبوك.
وكان جهيمان العتيبي هو أول من أُعدم، وذلك في مكة يوم 9 يناير/كانون الثاني 1980.
ترك جهيمان وراءه 5 أطفال أنجبهم من 3 زيجات، إحداها من أخت الشاعر السعودي المعروف خلف بن هذال العتيبي.