في العادة، يتمحور النشيد الوطني لأي بلد حول حب الوطن أو يتغنى بجغرافيته وفسيفسائه الديموغرافي.
لكن في الواقع، تُفرد العديد من الأناشيد الوطنية لبعض الدول مساحةً لذكر أسماء بلدانٍ أخرى – بالخير مرّات وبالشرّ في أحيانٍ أخرى -.
حتى إن هناك دولة أوروبية يُذكر في نشديها الوطني ثلاث دول أخرى – غير البلد صاحب النشيد -.
في هذا التقرير سوف نستعرض بعضاً من الأناشيد الوطنية التي تذكر أسماء بلدان أخرى.
النشيد الوطني الأوكراني: القوزاق الأبطال أسسوا الإمبراطورية الروسية
جرت العديد من التعديلات على النشيد الوطني الأوكراني، لكن في كل نسخة تم ذكر القوزاق بصورة أو بأخرى. والقوزاق هم شعب سكن أوكرانيا وجنوب روسيا.
ويعبر القوزاق عن العلاقة المعقدة بين روسيا وأوكرانيا؛ إذ ينتمي البلدان إلى العرق السلافي والمذهب الأرثوذكسي، كما أن كليهما يعتبر أن جذوره تعود إلى دولة روس كييف.
كما ظلت أوكرانيا جزءاً هاماً من الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفيتي، لكن كثيراً من الأوكرانيين ييعتبرون تلك الفترة بمثابة استعمار روسي لبلادهم.
ينتهي النشيد الوطني الأوكراني بجملتين هما:
"سنعطي أرواحنا وأجسادنا فداء للحرية
ونؤكد على أننا أخوة في سلالة القوزاق التي ولدت"
القوزاق هم مجموعة إثنية شرق سلافية، كانوا لفترة من الزمن يحكمون أنفسهم، وهم ذوو ميول عسكرية قوية، وكانوا يعيشون في جنوب روسيا وأوكرانيا.
وقد لعبوا دوراً مهماً في تاريخ وثقافة روسيا وأوكرانيا، خاصةً في مواجهة المسلمين التتر والعثمانيين وكذلك بولندا، ويمكن اعتبارهم صلة وصل قوية بين الدولتين.
ومع أن جزءاً مهماً منهم كان يتركز في أوكرانيا وتاريخهم يرتبط بشكل كبير بها، إلا أنهم لعبوا أيضاً دوراً كبيراً في توسع الإمبراطورية الروسية.
وبما أنهم ثاروا أحياناً ضد الروس، فإنهم بمثابة رمز للهوية الأوكرانية المستقلة عن "الأخ الروسي الأكبر".
وإلى الآن يفاخر القوزاق الروس بهويتهم الروسية، ودورهم التاريخي في الإمبريالية الروسية.
النشيد الوطني الإيطالي: يذكر ثلاثة بلدان.. ويتعاطف مع دولة!
لإيطاليا تاريخ عريق للغاية، بدءاً من هيمنة الإمبراطورية الرومانية على العالم إلى كونها البلد الذي بدأ فيه عصر النهضة.
ولكنها عانت من التدخلات الأجنبية والاحتلال في العصور الوسطى والحديثة.
لذلك فإن النشيد الوطني الإيطالي يمتلئ بالفخر بالعديد من الانتصارات والإنجازات وشجاعة جنود البلاد المستعدين للموت فداء لإيطاليا في أي وقت.
كما يتوجه النشيد الوطني بالهجاء للنمسا التي سيطرت على أجزاء من إيطاليا لقرون.
ولكن ليست النمسا وحدها المذكورة، إذ يبدو النشيد الوطني الإيطالي كقائمة مصغرة للأمم المتحدة.
فهو يتصدر بجدارة قائمة الأناشيد الوطنية التي تذكر أسماء بلدان أخرى.
إذ أن المقطع الأخير من النشيد الوطني الإيطالي يذكر ثلاثة بلدان بالاسم وهي النمسا وبولندا والقوزاق التي تشير إلى روسيا وأوكرانيا.
لماذا يذكر النشيد الوطني بولندا وروسيا البعيدتين؟
نبدأ ببولندا التي يذكر نشيدها الوطني إيطاليا أيضاً.
لدى إيطاليا وبولندا البلدان الذي يجمع بينهما المذهب الكاثوليكي علاقات وثيقة منذ قرون.
بدأت في العصور الوسطى بزواج ملكي بين البلدين، ساهم في تبادل الثقافة بينهما، وكذلك عبر هجرة العقول اللامعة بين البلدين التي ربطت الثقافتين.
فالكثير من فناني ومثقفي إيطاليا عاشوا في بولندا، بينما انتقل عدد من علماء بولندا إلى إيطاليا لاكتساب المزيد من العلم بما أن إيطاليا كانت منارة علمية وفنية منذ القدم.
واستمرت هذه العلاقات لقرون، خاصة أن البلدين عانيا من التدخلات الخارجية والاحتلال.
إذ قاست الأمتان من هيمنة الإمبراطورية الرومانية المقدسة (الإمبراطورية النمساوية المجرية لاحقاً) على أجزاء من أراضيهما.
وشارك فيلق من المتطوعين البولنديين يدعى The Mickiewicz's Legion في معارك توحيد إيطاليا، فيما شارك متطوعون إيطاليون عرفوا باسم The Garibaldi Legion في ثورة قامت في بولندا ضد السيطرة الروسية في العام 1863، وإن كانت الثورة لم تكلل بالنجاح.
وفي القرن الـ 20، كانت إيطاليا هي أول دولة تعترف ببولندا كدولة لها سيادة في العام 1918.
في المقابل، تُذكر كل من روسيا والنمسا بصورة سلبية في النشيد الوطني الإيطالي لعلاقتهما الاستعمارية ببولندا شريكة إيطاليا في المعاناة.
وتتم الإشارة فيه إلى أن النمسا وروسيا كانتا الدولتين المسؤولتين عن تقسيم بولندا والاستيلاء على أراضيها.
إذ يقول النشيد الوطني الإيطالي إن النمسا تشرب من الدماء الإيطالية، كما شربت من الدماء البولندية بالتعاون مع القوازق (في إشارة إلى روسيا).
النشيد الوطني البولندي: قصة حب مع الإيطاليين
إيطاليا وبولندا واقعتان في الحب، هكذا يعلق البعض على تبادل البلدين لذكر أحدهما الآخر في نشيديهما الوطنيين.
فالبولنديون يذكرون بدورهم إيطاليا في نشيدهم الوطني، الذي يحمل اسم "بولندا لم تُفقد بعد".
بل إن النشيد الوطني البولندي تم تأليفه في إيطاليا؛ إذ كتب كلماته شاعر بولندي كان منفياً في إيطاليا خلال عهد الحروب النابليونية.
وكان مخصصاً للفرقة البولندية التي كانت تحارب مع القائد الفرنسي الشهير نابليون بونابرت، ويتعهد هذا النشيد بأن تنتقل هذه الفرقة، من إيطاليا لتحرر بولندا.
والنشيد يذكر كذلك نابليون بونابرت كنموذج يحتذى به.
لكن الواقع أن نابليون استخدم هذه الفرقة في حروبه بدلاً من مساعدتها لتحرير بولندا كما كان يتطلع أعضاؤها.
النشيد الوطني المجري: يذكر الأتراك مراراً، يبدو أنهم لن ينسوا هذه الهزيمة أبداً
وُضع النشيد الوطني المجري منذ القرن الـ 19، وهو من أطول الأناشيد الوطنية وذكرت تركيا به عدداً كثيراً من المرات، وذلك نتيجة الصراع المرير بين البلدين.
فخلال المد العثماني ومعارك الإمبراطورية العثمانية في أوروبا، كانت المجر إحدى بلاد البلقان التي كانت هدفاً للأتراك.
ودارت بين البلدين العديد من المعارك المصيرية، أشهرها بقيادة السلطان العثماني سليمان القانوني الذي استطاع بجيوشه احتلال معظم المجر وفتح العاصمة بودابست.
وتعتبر المجر هزيمتها على يد العثمانيين واحتلالها الإهانة الكبرى التي تلقتها في تاريخها.
ولايزال حتى الآن هناك مثل شعبي مجري يقول "أسوأ من هزيمتنا في موهاكس"، وذلك للإشارة إلى أمر سيئ للغاية، فتتم مقارنته بهذه المعركة التي خسرها المجريون.
وعلى العكس، يتذكر المجريون فيينا عاصمة النمسا بصورة حسنة نسبياً، فقد جمع بين النمسا والمجر اتحاد سياسي طويل، وظلّ لسنوات يشار له باسم إمبراطورية النمسا ومملكة المجر المتحدتان (أو الإمبراطورية النمساوية المجرية).
وظل هذا الاتحاد السياسي قائماً حتى الحرب العالمية الأولى، لكن بعد هزيمة دول قوات المركز انحل هذا الاتحاد، وانفصل البلدان إلى جمهوريتين مستقلتين كباقي الدول التي كانت تنضوي تحت لواء الإمبراطورية النمساوية المجرية.
النشيد الوطني الجزائري: يتوعد فرنسا بالحساب ورفضوا تغييره إلا بهذا الشرط
يعد كفاح الجزائر من أشهر حروب الاستقلال في التاريخ، كما يعد الاستعمار الفرنسي من أقسى تجارب الاحتلال التي عرفها البشر.
ونتيجة لهذه الحرب، استحقت الجزائر لقب "بلد المليون شهيد"، بسبب الضحايا الذين سقطوا خلال فترة المقاومة لهذا الاحتلال الدموي العنيف.
لذلك ليس غريباً، أنه بعد استقلال الجزائر عن فرنسا أن يحوي النشيد الوطني الخاص بها مقطعاً كاملاً موجهاً إلى فرنسا يقول:
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
وطويناه كما يطوى الكتاب
يا فرنسا إن ذا يوم الحساب
فاستعدي وخذي منا الجواب
إن في ثورتنا فصل الخطاب
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا.. فاشهدوا.. فاشهدوا..
وطالبت فرنسا مراراً بحذف هذا المقطع ولكن الجزائريين رفضوا ذلك لأنها لم تعترف بجرائمها التي ارتكبتها ضد الشعب الجزائري.
وتجدر الإشارة إلى أن ملحن النشيد الوطني الجزائري هو الموسيقيار والمطرب المصري الراحل محمد فوزي.
وقد أمر الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، بإطلاق اسم محمد فوزي على المعهد الوطني العالي للموسيقى بالجزائر فضلا عن منحه "وسام الاستحقاق الوطني" ما بعد الوفاة، تكريماً لدوره التاريخي هذا.
النشيد الوطني الآيرلندي: الأصول الإنكليزية للبروتستانت تجعله نشيدين
ليست كثيرة هي البلدان التي تمتلك نسختين من النشيد الوطني، ولكن تاريخ آيرلندا المضطرب وعلاقتها الصعبة مع إنكلترا جعل ذلك ممكناً.
فآيرلندا عانت طويلاً بسبب رغبتها في الاستقلال عن إنكلترا والثورات المتتالية التي قوبلت بالقسوة من قبل الإنكليز.
لكن الأسوأ كان انقسام آيرلندا نفسها ما بين الراغبين في الاستمرار ضمن المملكة المتحدة، والثائرين على تلك التبعية، الأمر أدى إلى نزاعات أهلية بسبب ذلك الخلاف.
ولذلك فإن هناك نسختين من النشيد الوطني لآيرلندا الشمالية التي بقيت ضمن المملكة المتحدة بعد انفصال آيرلندا الجنوبية في عشرينيات القرن الماضي.
فالنسخة الأصلية تحتوي على مقطع يذكر إنكلترا باسم "الساكسون"، وهو العرق الذي ينحدرون منه مع إشارة إلى الحرب الرامية للتحرر منهم.
لكن الكثيرين من سكان جزر آيرلندا الشمالية (خاصة من البروتستانت) يرفضون هذا النشيد في ظل رغبتهم في الاستمرار كجزء من المملكة المتحدة (خاصة أن جزءاً من البروتستانت في آيرلندا الشمالية ينحدرون من أصول إنكليزية وإسكتلندية).
ولذا فإن هناك نشيداً وطنياً آخر يتم استخدامه بصورة رسمية في المباريات الرياضية، بل إن هناك أحداثاً يتم فيها غناء النشيدين الوطنيين معاً إرضاء لجانبي الشعب المنقسم.
النشيد الوطني الهولندي: لماذا يذكر إسرائيل حتى قبل إنشائها!؟
يعتبر النشيد الوطني الهولندي أقدم نشيد وطني معروف في العالم.
ومثل كثير من الأناشيد الوطنية التي ظهرت بعده كانت له مرجعية دينية قوية بالإضافة إلى المرجعيات القومية والعرقية بالطبع.
وذكر في النشيد الوطني الهولندي "إسرائيل".
ولكن بالرجوع إلى نص النشيد الوطني نفسه، نجد أن إسرائيل هنا ليس مقصوداً بها دولة إسرائيل بشكلها الحديث، بل أرض الميعاد المذكورة في كتاب التوراة، حيث بدأ هذا المقطع بمخاطبة النبي داود، والحديث في ذات السياق عن الأرض الموعودة إسرائيل.
وذكرُ إسرائيل يأتي بسبب تأثير المذهب البروتستانتي الذي اعتنقه الهولنديون قبل استقلال بلادهم.
إذ يعلي هذا المذهب من قيمة التوراة ويعيد إحياء كثير من قصصها المرتبطة بما يعرف باسم "أرض الميعاد".
كما يذكر النشيد الشعب الإسباني بشكل سلبي (كانت إسبانيا تحتل هولندا)، بينما يشار إلى ملك إسبانيا بشكل إيجابي.
قد تكون كلمات الأناشيد الوطنية التي تذكر أسماء بلدان أخرى مثيرة للاستغراب حتى لمن يغنون هذه الأناشيد بحماس في مناسباتهم الوطنية.
ولكن تظل الأناشيد الوطنية أيقونات مرتبطة بأحداث تاريخية معينة يصعب تغييرها، مهما كانت تبدو غريبة للمواطنين المعاصرين.