سمَّاه خصومه بسليمان العظيم، ولقَّبه رعاياه بالقانوني، ورغم شهرته بالعدل حتى مع رعاياه غير المسلمين، فإنه كان طرفاً في مأساة مروعة لعائلته، كما كانت نهايته غريبة، ولَم تفك طلاسمها إلا في وقت قريب، إنه سليمان القانوني السلطان العثماني الشهير.
يُعتبر السلطان سليمان القانوني أبرز سلاطين الدولة العثمانية وأطولهم مكوثاً في السلطة، حيث حكم لمدة 46 عاماً، ويعتبر المؤرخون أن الدولة العثمانية بلغت في عهده ذروة قوتها، كما عُرف عنه عدله وحكمته، وازدهرت الدولة ومؤسساتها في عصره.
سليمان القانوني وهو السلطان العثماني العاشر، وقد ولد في عام 1494م، وجلس على العرش بعد وفاة والده السلطان سليم الأول عام 1520م وعمره 26 عاماً، واستمرت فترة حكمه 46 عاماً، انتهت بوفاته في عام 1566م، وكان عمره 71 عاماً.
سليمان القانوني: 13 حملة عسكرية، ولكن الإصلاح كان أبرز إنجازاته أيضاً
تحفل سيرة السلطان سليمان القانوني بالعديد من الإنجازات والأحداث المثيرة، ما بين الحروب والفتوحات والهيكلة الاجتماعية القوية.
فالسلطان سليمان قاد خلال حياته 13 حملة عسكرية كبيرة، استطاع خلالها أن يُخضع جزيرة رودس -جزء من اليونان حالياً- وأجزاء من بلاد فارس، وشمال إفريقيا، ومناطق واسعة من جنوب شرق أوروبا، كما هيمنت أساطيله على البحر الأبيض المتوسط، فكان عصره جديراً بأن يوصف بالعصر الذهبي للدولة العثمانية .
بجانب فتوحاته العسكرية، قام السلطان سليمان بالعديد من الإصلاحات الضرائبية، فجعل الضرائب متفاوتة، حسب دخل الأفراد، كما أسّس نظاماً إدارياً وقانونياً عادلاً، عمل على حماية مصالح المواطنين المسيحيين واليهود تحت ظل الإمبراطورية العثمانية.
ورغم الإصلاحات والعصر الذهبي.. كان طرفاً في مأساة مروعة راح ضحيتها أقرب الناس إليه!
كان للسلطان سليمان العديد من الأبناء، أكبرهم الأمير مصطفى من زوجته الأولى ماهي دوران، كما أنجب أربعة من الأولاد وابنة واحدة من زوجته الثانية خرم سلطان. (في الأصل كانت جارية أوكرانية تُدعى روكسلانا).
عملت السلطانة خرم على محاولة إبعاد الأمير مصطفى -ذي الحظ الأوفر للفوز بالعرش بعد أبيه- عن المنافسة للفوز بالعرش؛ وذلك كي يفوز أحد أبنائها الأربعة بالجلوس على العرش.
وتمكَّنت السلطانة خرم بمساعدة صهر السلطان رستم باشا من إبعاد الأمير مصطفى عن العاصمة، بينما تولَّى ابنها الأمير محمد حكم ولاية مانيسا القريبة من العاصمة في عام 1540، ليصبح حظه أوفر، إلا أن وفاة الأمير محمد في عام 1540 جعلتهما يخططان لتولي أحد أبنائهما الآخرين للحكم.
تمكن رستم باشا من بثّ الشكوك في صدر السلطان سليمان تجاه الأمير مصطفى ابنه الأكبر، وأخبره بإمكانية انقلابه عليه للفوز بالعرش، وهو ما دفع السلطان سليمان لطلب ولده الأمير مصطفى. حينما دخل الأمير خيمة والده السلطان انقض عليه الجلادون وأعدموه خنقاً في عام 1553. وبعد غضب الشعب بسبب موت مصطفى واتهامهم لرستم باشا بتدبير موته، ما كان أمام السلطان إلا عزل رستم باشا، إلا أنه عاد مرة أخرى لمنصبه في عام 1555 مستشاراً للسلطان.
النهاية الغريبة في حملته على المجر.. لماذا فرغت أحشاؤه بهذا الشكل؟
في عام 1566، قاد السلطان سليمان جيشه في حملة عسكرية متجهة إلى المجر، وعلى الرغم من فوز العثمانيين في معركة سيكتوار، فإن السلطان سليمان لم يشهد الانتصار.
توفي السلطان سليمان القانوني بصورة طبيعية، في 7 سبتمبر/أيلول 1566، أثناء حصار حصن سيكتوار في المجر. يعتقد العلماء أن قلب السلطان سليمان وأعضاءه الداخلية دفنت في المجر، بينما عاد جسده إلى القسطنطينية "إسطنبول حالياً"، وحُنطت جثته ووضعت في مسجد السليمانية في إسطنبول.
ووفقاً لكتابات المؤرخ والمستكشف العثماني أوليا جلبي Evlia Celebi، فقد أزيل قلب السلطان سليمان وكبده وأمعاؤه، ووضعت في وعاء من الذهب، ودفن الوعاء في خيمته بجوار حصن سيكتوار، بسبب ارتفاع درجة الحرارة طول الطريق.
والمستشارون أخفوا خبر وفاته، وزوَّروا أختامه
أخفى مستشارو السلطان خبر وفاته لمدة 48 يوماً كي لا يتخلى الجنود عن القتال، وكي لا يجلس ابنه سليم الثاني على العرش أثناء وجودهم في المعركة، وتم تزوير خط يد السلطان على وثائق رسمية للحفاظ على سر وفاته.
كما قاموا بتزييف موت أحد الخدم ليتمكنوا من نقل جثمان السلطان من المخيم دون علم أي شخص، وهو ما قد يشير إلى حرص المستشارين على عدم إشاعة الإحباط بين الجند والجيش إثر وفاة السلطان.
ثم تم تحويل المكان إلى مزار ديني، ولكنه لم يلبث أن اختفى أثره
ومع مرور الوقت تحوَّل مكان دفن أعضاء وأحشاء السلطان إلى ضريح كامل وأقيم بجواره مسجد، وحامية عسكرية صغيرة، وتحول هذا المكان حيث يوجد قلب السلطان مع مزيد من الوقت مزاراً دينياً.
وبنى العثمانيون مدينة مُحيطة بالضريح خلال السبعينات من القرن السادس عشر، أثناء الحكم العثماني للمجر، وسميت مدينة توربك، إلا أن المنطقة دُمرت بالكامل عندما استعادت هابسبورغ (العائلة الملكية بالنمسا "الإمبراطورية الرومانية المقدسة") المنطقة في نهاية القرن السابع عشر، وهو ما جعل العثور على قبره بمثابة لغز طيلة القرون التالية لوفاته.
وبعد أكثر من 4 قرون ها هو ضريح السلطان يظهر أخيراً بتعاون تركي مجري
من أجل معرفة مكان القبر الذي دفن فيه قلب وأحشاء السلطان سليمان، موّلت الحكومتان التركية والمجرية عام 2014 مشروع البحث الذي أجراه الدكتور نوبرت باب، رئيس قسم الجغرافيا السياسية والدراسات الإقليمية والتنموية بجامعة بيتش المجرية. واعتمد المشروع على فحص الوثائق والخرائط القديمة، واستخدام المحاكاة الحاسوبية في إعادة تصور المكان.
من ضمن الوثائق كانت هناك شهادة لأحد الأشخاص، تصف مكان الضريح وموقعه بالتفاصيل، وعندئذ اهتدى الفريق إلى المكان فوق تلة مزرعة للكرم.
عندما بدأ فريق البحث بالحفر في قمة مزرعة للكرم بالقرب من قرية توبريكبوستا Turbékpuszta، وجدوا بلاطاً عثمانياً. استخدم الباحثون برنامجاً لتحويل بيانات كثافة الأنقاض إلى خرائط مفصلة، وتمكنوا من اكتشاف مستوطنة صغيرة بُنيت حول القبر، وكان يعيش فيها ما بين 400 و500 فرد.
فهل ينقل قلبه إلى إسطنبول بجوار جسده؟
كانت مساحة الغرفة المركزية في مبنى كبير حوالي 26*26 قدم "8*8 متر"، وقد حفر اللصوص خندقاً في منتصفها في القرن السابع عشر تقريباً، إلا أن الزخارف لا تزال موجودة ومتشابهة للغاية مع الموجودة في ضريح السلطان سليمان في إسطنبول، وحتى الآن لا يوجد أي مشروع لضمّ بقاياه مع ضريحه الحالي الذي يحوى جسده المفرغ في تركيا.
يوجد اليوم جسد السلطان سليمان المفرغ من أحشائه في ضريح بجامع السليمانية "أو مسجد السلطان سليمان"، الذي بناه المعماري العثماني سنان في القرن السادس عشر الميلادي للسلطان نفسه، واستغرق بناؤه سبع سنوات.
يعد مسجد السليمانية ثاني أكبر مساجد إسطنبول، وكعادة المساجد الهامة في تلك الفترة، يضم مسجد السلطان سليمان مستشفى، ومدرسة، ومكتبة، يوجد بجوار قبر السلطان سليمان قبر زوجته خرم "روكسلانا"، وقبر ابنته السلطانة مهرماه، وقبر آخر للمعماري سنان خارج ضريح المسجد.
https://youtu.be/Owx1cAI1eeE