الحب لغة

أراك عصي الفهم شيمتك الصمت! ترتيب أبي فراس الحمداني لهذه الكلمات سمح لنا بمحاكاتها وإن لم يتفوق أحدناً على الأصل أبداً..عصي الفهم هو عصي الحب هو عصي الدمع أحياناً وعصي الفرح في أحيان كثيرة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/14 الساعة 03:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/14 الساعة 03:43 بتوقيت غرينتش

يقول فتغنشتاين: "حدود لغتي هي حدود عالمي… وفي الحقيقة، محدودية لغتي (اللغة التي أفهمها) هي حدود عالمي".

ومن هذه الكلمات تأملت العلاقات الإنسانية ووجدت بأنها تقوم على لغة تشرحها وتحييها وربما تميتها أحياناً متى ما كانت اللغة عصية على الفهم.

أراك عصي الفهم شيمتك الصمت!
ترتيب أبي فراس الحمداني لهذه الكلمات سمح لنا بمحاكاتها وإن لم يتفوق أحدناً على الأصل أبداً..عصي الفهم هو عصي الحب هو عصي الدمع أحياناً وعصي الفرح في أحيان كثيرة.

نقرأ الحديث النبوي الكريم: "الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف"، ومنه تنطلق قراءتي لفكرة حب الروح للروح، منه أقرأ فكرة أن المحبة معرفة، حديث نبوي كريم، يأسرني فيه وصف الألفة والاختلاف، الإنسان بين أن يتعارف أو أن يتنافر، الأول هو سبب الائتلاف، والثاني هو سبب الاختلاف، ولم يكن سبباً للخلاف.

الاختلاف هو بوابة البحث عن أسباب للتعارف، وبالتالي الألفة، فمن تكن رفقته، رفقة للروح، رفقة فيها معرفة بمساحات الآخر الوجودية، المساحة التي يحتلها في خارطة الحياة اليومية، خارطة الإنسانية التي تبحث فيها عن مساحة للوقوف، ومن ثم المشي، هي نفسها الخارطة التي يحاول فيها الآخر الوقوف وربما المشي أو القفز معك لتجد أن مساحة قد بدأت حدودها بالاتساع ليكون الاحتواء هو ما يجمعك بغيرك، وربما تشكلان معاً رؤية جديدة لخطواتكما معاً ولخطوات كل منكما لوحده.

قرأت لتشارلي تشابلن نصيحة كان قد قالها لابنته، أو أنه ضمنها رسالة كان قد كتبها لها، قال لها: "جسدك العاري لا ينتمي إلا لمن وقع في حب روحك العارية"، استخدم تشارلي كلمة الانتماء ولم يستخدم الحب؛ لأن الحب هنا كان ما يعنيه الانتماء، نقل تشابلن لابنته معنى الحب بكلمات بسيطة لم تقترب من العشرين كلمة، لكنها جسدت ما قد يستغرق البعض ما يتجاوز العشرين سنة لتعلمه في بناء العلاقات الإنسانية.

قال تشابلن لابنته بأن جسدها "لا ينتمي"، وكأن الحب خارطة إنسانية جديدة تحتوي حبيباً ومحبوباً وكأن الحب هو حدود هذه الخارطة التي تسمح لهما بالنظر في كل ما بينهما وكل ما يتعدى حدود النظر.

الحب إرادة في مد اليد للآخر وكأنها تنوي مصافحة تبدأ انتماءً جديداً محدوداً بحدود الحب والعشق والأمان الذي ليس إلا روح الحب الذي جمع بين الروح هذه والروح الأخرى.

حب الروح هو البداية، أن أرى في عينك ما لا أراه في الآخرين، وأن أجد في حديثك ما لا أجده في كلمات الآخرين، وأن أجد في يدك التي تمسك يدي أماناً وإدراكاً لرفقة تجمعنا وتعطينا من الطمأنينة ما تسمح بها هذه المساحة التي تجمعنا.

الحب لغة، لها قاموسها الإنساني الذي يتسع لما يقترب من 7 مليارات فيها من لا زال يجد في نفسه حاجة للحب وحاجة للعطاء وكفايته من الوحدة أن يكفي غيره مساحتها التي كلمات اتسعت ضاقت بصاحبها.

قراءة العلاقات الإنسانية تتطلب الكثير من الصمت والتأمل؛ لأن الاقتراب منها هو اقتراب من النفس الإنسانية بذاتها واقتراب من عالم فيه غيرك، وفيه أنت، وفيه حاجتك وكفايتك وفيه أيضاً رؤيتك للحب، لنفسك، وللآخر الذي رفقتك له هي رفقتك به والرفقة في مساحة هذه الخارطة الإنسانية هي رفقة تشد بها أزرك، رفقة تسمع ما تخشى أن يضيق به صدرك، وأن لا ينطلق بسببها لسانك كما أقرأ في سورة الفرقان، تلك الآية التي يقول فيها النبي موسى عليه السلام: "ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسِل إلى هارون" سؤال النبي موسى عليه السلام لله سبحانه وتعالى، فيه إشارة للرفقة وأهميتها في كل تفاصيل الكلمات التي أقرؤها فيها، "ويضيق صدري" ومن ثم قال "ولا ينطلق لساني" ومن ثم "فأرسل إلى هارون" الرفقة رفقة للآخر، رفقة به ورفقة له..

هي حاجة الإنسان للآخر وهي أخوة وصداقة ومحبة وهي رزق من الله ونعمة لا بد أن نتأملها، وإن اختزلت هذه الرفقة في لقاء اليوم الواحد أو صداقة العمر التي تشهد كل تفاصيل الحياة، وأخبار فيها من الفرح والألم والحزن والخوف، فيها الحاجة للحديث، وفيها الحاجة للصمت… تفهم هذا كله حب يبدأ رفقتنا ويحويها ولا ينهيها؛ لأن الحب لا ينهي إلا مساحات الخواء التي من الصعب تأملها، والألم هو في القدرة على رؤية مساحة الفراغ من صديق، رفيق لأيامنا، حبيب، أو جدة في رائحة حناء تغطي يدها كل الحنين… الفراغ الذي لا يحتوي وجود كل هؤلاء وغيرهم كثير هو ما إن وجدت مفردة التأمل معه تبدلت من تأمل إلى ألم.

الحب لم يكن ليكون كلمة تجد معناها في قاموس أو معجم، الحب معناه في لغة تجد طريقها للأذن والقلب والعقل والجسد والروح… الحب لغة تتعدى حدود الحاء الذي يبدأ صوتها من رئة تتنفس وقلب ينبض وشفاه تنغلق على الحاء بالباء التي تعيد بعض هذه العاطفة للقلب، وكأنها أعطت بعضها للآخر وأخذت بعضها والحب بعضه أخذ وبعضه عطاء.

قرأت هذه الكلمة في حدود ما أسميه خارطة العلاقات الإنسانية التي لها جغرافيا لا تحددها خطوط الطول والعرض بل تبدأ من لحظة ميلاد، وتتكون بعلاقات أولاها حضن وابتسامة وقبلة على وجنة الطفل الذي يجد في هذا أول تعريف للمحبة، ومن ثم تبدأ العلاقات التي تتقاطع كل ساعة وكل يوم وكل سنة برؤية الآخر أياً كان الآخر الذي قد قيل إن ما يفصلك عنه هو ست درجات من الانفصال قد تكون إحداها التفاتة أو ابتسامة أو يداً صافحت يداً وحديثاً حول شروق الشمس أو فيلماً قديماً ليوسف وهبي، أغنية قديمة تبدأ رحلة في الذاكرة إلى حيث يكون تجسيد الحنين، وهذا من الحب أو أنه بعضه.

نهاية اليوم هي بداية المساء، والشيء بالشيء يذكر، والحنين بالرفقة يتحول إلى تجسيد مختلف للحب يحييه ويبدأ مع القلب رحلة جديدة نحو كل ما يعرف، ولو كانت مع من لا يعرف إلا بأنه يقف معه على نفس البقعة على خارطة الإنسانية.. انتهى.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد