توفِّي السلطان ألب أرسلان وهو في سن 43، لكنّه رغم ذلك يُعد أحد أهم وأبرز السلاطين في التاريخ الإسلامي، بل إنه أحد الأشخاص الذين غيّروا تاريخ ومسار المنطقة التي يعيش عليها المسلمون حالياً، من تركيا إلى آسيا والشام ومصر والعراق وإيران، ليس فقط من خلال معركة ملاذكرد الشهيرة، وإنما أيضاً من خلال فتوحاته الأخرى الكبيرة.
البداية.. القضاء على المنافسين من العائلة
لم يكن للسلاجقة نظامٌ محدد لتعيين وليّ العهد، فليس هو الأخ أو الابن الأكبر كما اعتاد ملوك وخلفاء العرب أن يفعلوا، وعندما توفّي طغرل بك عام 455هـ، 1063 م وهو المؤسس الحقيقي لدولة السلاجقة، كان هناك العديد من الورثة المحتملين، لكنّ ألب أرسلان -وتعني بالتركية (الأسد الشجاع)- استطاع أن يحسم الوراثة لنفسه.
كان ألب أرسلان حينها في سن الثالثة والثلاثين بالتقريب، وهو ابن أخي طغرل بك، جغري بك بن داوود، نازعه على حكمه الكثير من عائلته: أخوه وعمّه وأبناء عمّومته أيضاً وغيرهم، لكنّه استطاع أن يحكم قبضته على السلطنة، بعدما هزمهم جميعاً.
دولة داخل الدولة.. السلاجقة يحكمون باسم الخليفة العباسي
كان وضع الخلافة العباسية في ذلك الوقت متدهوراً للغاية، فمن ناحية لم يبق للخليفة إلا الاسم فقط والتشريفات، انقسمت الدولة لمناطق نفوذ فارسي وتركي ولم يعد للخليفة العباسي نفسه سلطة، سوى أنّ المتغلّب على غيره من الأتراك أو الفرس يرسل للخليفة يطلب مباركته، فيعطيه مباركته وهو مغلوبٌ على أمره.
بل قد وصل الحال بالخليفة أحياناً أنّه لم يكن متحكماً بأيّ حالٍ في أمواله الخاصة نفسها، بل إنّ بعض الروايات تؤكد أنّ طغرل بك، عمّ ألب أرسلان، قد تزوّج بنت الخليفة ضدّ رغبة أبيها، ليكون له أولاد منها فيسري الدم العباسيّ في نسله، لكنّ طغرل بك -وفقاً للروايات- توفي قبل أن تلد منه أو قبل أن يدخل بها.
ومن ناحيةٍ أخرى كانت الدولة الفاطمية في مصر تضيّق الخناق على العباسيين أملاً في أن يصبحوا هم فقط خلفاء المسلمين، فقد تسمّى الملك الفاطميّ بالخليفة، وأخضع مناطق من الشام وغيرها لخلافته الشيعية، وأصبح يدُعى له على مساجد حلب ومصر وبعض مناطق الشام أيضاً، فانسلخت من الدولة العباسية بعض الإمارات التابعة للفاطميين.
ويكفي هنا لندلل على وضع الخلافة العباسية الضعيف بذكر قضية البساسيري، وهو أحد كبار أمراء البويهيين، راسله الخليفة الفاطميّ المستنصر بالله، بعدما طمع في ضمّ بغداد لدولته، أمدّ المستنصر بالله البساسيري بالأموال والذهب حتى استولى على بغداد وأصبح يدعى للخليفة الفاطميّ في المساجد بدلاً من العباسي لمدة عام على التقريب!
ضجّ القائم بأمر الله الخليفة العباسيّ حينها من سيطرة البويهيين الشيعة على بغداد عاصمة الخلافة المهترئة، فطلب العون من طغرل بك على البويهيين، فدخل طغرل بك بغداد عام 447 هـ وطرد البويهيين، وهو نفسه الذي طرد البساسيري عام 450 هـ.
وما إن استتبت عاصمة الخلافة لطغرل بك حتى أصبح هو صاحب النفوذ الأعظم في دولة الخلافة، تدين له كل الولايات بالولاء أو الرهبة، وعندما توفي واستطاع ألب أرسلان القضاء على منافسيه، أصبح ألب أرسلان أقوى شخص في الإمبراطورية مترامية الأطراف، وبدأ ألب أرسلان سياسةً جديدة عن سياسة عمّه السابقة التي ضايقت الخليفة من السلاجقة.
ألب أرسلان.. أفقٌ جديد في سياسة السلاجقة
بدلاً من المذلّة التي لحقت بالخليفة بتزويج ابنته على غير رغبته من طغرل بك، أعادها ألب أرسلان إلى بغداد في موكبٍ عظيم، كان يخدمها فيه أحد الأمراء وأحد الوزراء، ومن هنا بدأت سياسة المهادنة للخليفة بل واحترامه أمام الجميع.
أكسبت هذه الخطوة ألب أرسلان شرعيّة كبرى وشعبية متنامية، ليس فقط في أوساط العامة وإنما أيضاً في قصر الخليفة المغلوب على أمره. ومن هنا أصبحت أركان مُلك وسلطان ألب أرسلان ثابتة، فكان يدعى له في خطبة الجمعة بعد الدعاء للخليفة.
بعدما استقرّ لألب أرسلان الأمر، بدأ في تنفيذ استراتيجيته لتوسيع الإمبراطورية السلجوقية الوليدة تحت مظلّة الخلافة العباسية الضعيفة، فبدأ بالتوسُّع في أرمينيا وأذربيجان ودانت له العراق، كما اتجه لمناطحة أعدائه الفاطميين، فضمّ منهم مدينة الرملة وبيت المقدس وحلب، وأراد أن يضمّ دمشق لكنه لم يستطع ذلك.
كانت هذه الإمارات والمدن تمثل حزاماً أمنياً أراد ألب أرسلان أن يحافظ عليه تحت قبضته بمنأى عن مناوشات الفاطميين وطموحهم في الخلافة العباسية، وكذلك بمنأى عن التمردات الداخلية، ليستعدّ لمعركةٍ ربما لم يكن على أتمّ الاستعداد لها لكنها ستغيِّر تاريخ هذه المنطقة.
معركة ملاذكرد.. الإمبراطور المغرور في قبضة ألب أرسلان
أصبح توسُّع دولة السلاجقة تحت قيادة سلطانٍ قويّ ومحنّك مثل ألب أرسلان مقلقاً للدولة البيزنطية، فقرر الإمبراطور البيزنطي رومانوس ديوجينيس الرابع أن يحشد قوّاته لمعركةٍ فاصلةٍ في الأناضول ليضع حداً لتوسعات ألب أرسلان، وكان الإمبراطور قد بدأ يتحرّش بحدود الشام مع الأناضول وهاجم مدينة منبج وقتل الكثير من أهلها.
كانت موازين القوّة لصالح ديوجينيس، فجيشه مكوّن من 200 ألف مقاتل، حسب ما تذكر المصادر التاريخية الإسلاميّة، بينما كان جيش ألب أرسلان لا يتخطّى في أقصى التقديرات 30 ألفاً!
كيف ستُحسم معركةٌ كهذه المعركةِ؟ إمبراطور بيزنطة في كامل قوته، وسلطان السلاجقة في عددٍ قليل للغاية مقارنةً بهذا الجيش الضخم.
حاول أرسلان في البداية أن يفاوض الإمبراطور، لكنّ الإمبراطور رفض ذلك، ويروى أنّه أرسل له أنّ التفاوض سيكون في عاصمتك! أي أنه واثق تماماً من النصر.
ربما من الطبيعي أن يشعر الإمبراطور بالنصر المبكّر، عندما ينظر لجيشه مقارنةً بجيش خصمه. بعدما باءت محاولات أرسلان للتفاوض بالفشل وأيقن أنّه لا بدّ محارب الإمبراطور بدأ العدّة، فكان موعد المعركة يوم الجمعة أثناء الصلاة، كي تُرفع الدعوات في صلاة الجمعة من الأقطار الإسلامية أثناء المعركة.
ارتدى السلطان ثوباً أبيض، وخطب في الجيش أنه يلبس كفنه الأبيض، وإن استشهد فهذا كفنه، وأنّ عليهم أن يتبعوا ابنه الأكبر ملكشاه إذا استشهد، وخيّر الجيش كله إن أراد أن يتراجع أحدهم فليتراجع، وخطب خطبةً حماسية أشعلت مشاعر الجهاد في الجيش، وبدأت المعركة.
استطاع ألب أرسلان أن يهجم على مقدمة الجيش البيزنطيّ بهجومٍ سريع، ما جعل قوات النخبة تتقهقر وتتراجع، ويقع الإمبراطور البيزنطيّ رومانوس ديوجينيس الرابع في الأسر، ويعتبر هذا أول إمبراطور مسيحي يقع في أسر سلطانٍ مُسلم.
لم يتوقّع الإمبراطور مثل هذا المشهد، وربما لم يتوقعه جيش أرسلان أيضاً، تغيرت موازين القوة تماماً، وأصبح أرسلان صاحب الكلمة العليا.
كان أرسلان كما هو واضح سياسياً ماهراً، ومحنكاً، فلو قتل الإمبراطور لن يستفيد من مقتله، وليس لديه قوّة لغزو المملكة البيزنطية ولا عاصمتها القسطنطينية في ذلك الوقت، وربما استطاع الجيش الهارب أن يجمع نفسه بطريقةٍ أكثر تنظيماً وتحت قيادة أكثر دهاءً وحنكة ويقابلوه في معركةٍ لاحقة.
لهذا قرر أرسلان أن يحرر الإمبراطور من الأسر مقابل فدية بلغت مليون ونصف دينار، وأن يطلق كل الأسرى المسلمين في إمبراطوريته، وهدنة لمدة 50 عاماً، فوافق الإمبراطور بالطبع.
وقعت هذه المعركة في شهر ذي القعدة عام 463 هـ – أغسطس 1071م، وتعتبر بداية انحصار نفوذ البيزنطيين من الأناضول، ما مهد لاحقاً لمناوشاتٍ عديدة مع الإمبراطورية البيزنطية انتهت بسقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح عام 1453.
لم يمهل القدر ألب أرسلان كثيراً، فبعد هذه المعركة بسنةٍ واحدة طعنه أحد الثائرين عليه، فخرّ صريعاً، وعهد بالملك لابنه ملكشاه من بعده، مع وزيره الأشهر نظام المُلك، فاستطاع ملكشاه رغم التمردات أن يُحكم قبضته ويوحِّد الدولة السلجوقية من جديد بعدما حاول إخوته وأعمامه الخروج عليه مراراً.