كتبت منذ شهرين عن التطور التكنولوجي المتسارع في مجال دمج الواقع بالخيال والإنسان بالآلة وما زال هذا المجال يشهد تطوراً سريعاً متلاحقاً، في الشهر الماضي التقت الواشنطن بوست بالأسترالية رائدة الأعمال في مجال التكنولوجيا، شانتي كوربورال التي قامت مؤخراً بزرع شرائح إلكترونية في كفيها لتقوم إحداها بفتح باب الجراج بتمرير الكف على الماسح الضوئي، بينما تحتوي شريحة أخرى على بيانات حساباتها البنكية وبياناتها الصحية. تقول شانتي إنها لم تعد تعاني من نسيان أو ضياع المفاتيح ولم تعد بحاجة لحمل محفظة أو تذكر الرقم السري لحساباتها البنكية.
التقنية المستخدمة بسيطة تحاكي تقنية الباركود؛ حيث تسجل البيانات على شريحة متناهية في الصغر يتم وضعها في كبسولة زجاجية لا تزيد عن حجم حبة الأرز ثم يتم حقنها في اليد تحت مخدر موضعي، ولا يقتصر إجراء هذه العملية على الأطباء؛ حيث يقوم بها المتخصصون في الوشم.
ومن الجدير بالذكر أن الحكومة الأسترالية أعلنت في نهاية عام 2010 عن مشروع لزرع شرائح تحتوي على المعلومات الصحية الهامة لاستخدامها إذا تعرض الشخص لحادث أو ما شابه. وفي هذا الإطار تم الترويج للشرائح بكثافة وتصاعد هذا الترويج في الشهور القليلة الماضية عازفة على نغمة أنها تقنية تحول الإنسان إلى سوبرمان، فيمكنه فتح الأبواب المغلقة بإشارة من يده أو تشغيل الأجهزة بإشارة. وقد أسست "شانتي" وزوجها "سكيف ستيفينز" شركة لزراعة الشرائح؛ حيث يقدمان تلك الخدمة بتكلفة بسيطة تتراوح بين 80 و140 دولاراً.
حتى الآن لا تفرض الحكومة الأسترالية زرع هذه الشرائح، لكن يبدو أن الأمر سيختلف في المستقبل القريب وليس قاصراً على أستراليا. ففي يونيو/حزيران الماضي عرضت محطة NBC الأميركية تقريراً عن الشرائح الإلكترونية، روج لضرورة زراعة الشرائح في الأطفال لتسهيل تتبعهم والوصول إليهم إذا ضلوا الطريق أو فقدوا، ويقول التقرير إن زراعة الشرائح ستصبح واقعاً لا مناص منه وعلى ذلك فمن الأفضل التعجيل بها!
من المحزن استغلال الخوف الغريزي للآباء على أطفالهم لإقناعهم بتقبل فكرة كارثية كزرع شرائح إلكترونية كما روج تقرير الـNBC، وما أحمق الآباء الذين يتعاملون مع أطفالهم على أنهم "أشياء" يملكونها.
إن كانت تلك الشرائح بدائية حتى الآن ولا تحوي أكثر من معلومات مسجلة، فسرعان ما ستحتوي على برامج تتفاعل مع حاملها، لتوجه سلوكه، وتراقب أفكاره، أو تتحكم في قراراته.
يزعجني أن هذا العصر المريض بحب التفاخر والتباهي بكل شيء وأي شيء يسهل فيه تمرير أمر كارثي كهذا. لا أرى أي شيء في الحياة يستحق أن يتقبل الإنسان تحويله إلى شبه إنسان وشبه آلة!
أن تبرر شابة في السابعة والعشرين من عمرها زرع شرائح إلكترونية في جسمها بأنها تتضرر من البحث عن المفاتيح أو لا تريد حمل كيس النقود أو أنها تنسى الرقم السري، وفي نفس الوقت تتفاخر بأن كل من حولها يشعر بالغيرة منها ينبئ أن الأمر خليط من الكسل والسعي للتميز بصورة مرضية!
من أكبر الكوابيس للمتخصص في التكنولوجيا أن يخترق حاسبه الشخصي، فهل سيأتي يوم يصبح الإنسان نفسه معرضاً للاختراق؟! أو نسمع أن فلاناً قد تم اختراق شريحته ولم يعد مسؤولاً عن تصرفاته مثلاً؟! أو أن فلاناً يعاني من "فيروس" محا ذاكرته؟!!
ما يحدث في هذا المجال لا ينبئ بخير ويتطور بسرعة رهيبة ككرة الثلج، فما يبدأ اختيارياً سرعان ما يصبح إجبارياً كما بشَّرتنا NBC في تقريرها.
المرعب أن الكثيرين سيرحبون بتلك الاختراعات من باب الوجاهة والتميز، فالسطحية وحب الظهور وهوس لفت النظر من سمات هذا العصر. وحتى يجد الإنسان الشجاعة ليواجه مخاوفه بطريقة عقلانية، ويتحمل مسؤولياته الطبيعية في الحياة سواء كانت تافهة كحمل مفاتيحه ومحفظته، أو مهمة كالانتباه لأطفاله، وحتى يتقبل نفسه فلا ينجرف في أمواج التنافس للإبهار واستجداء الإعجاب، سيظل ضحية سهلة للغزو التكنولوجي الذي يسلبه إنسانيته وجزءاً من حريته يوماً بعد آخر دون أن يشعر.