علاقة الحرية بالتقنيات والرقميات الحديثة

يشهد عالمنا اليوم صراعاً إلكترونياً مُتنامياً ومُتعدد الأطراف، في بيئةٍ تُطالب بالحُرية، ونظامٍ سياسيٍّ ينظر بعين الحذر لمعلوماته، ويعتبرها جزءاً من أمنه القومي. تظهر حدة هذه الصراعات في المُجتمعات المُستبدة، نظراً لسيطرة الأنظمة السياسية فيها على عُنصر المعلومات.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/31 الساعة 04:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/31 الساعة 04:04 بتوقيت غرينتش

تحتاج التّقنيات الرقمية والاتصالية إلى الحُرية، والتي هي البيئة الراعية والحاضنة للابتكارات التكنولوجية المولدة للتطبيقات العلمية والعملية النابعة من رحم حُرية الفكر، وأحقية الإنسان في التجربة والمُمارسة. ولطالما أثارت الحُرية العديد من المعضلات للبشرية، لتُلقي بظلالها اليوم على عالم الرقميات الحديثة. دخلت طباعة الكتب قديماً في هذه المُعضلة، ليتلوها الراديو والتلفاز، والمُستجدات التّقنية الأخرى المُتعددة الأقطاب والاستخدام. فهل تُشكل بيئةً مُناسبةً للحُرية، أم أنها تتصادم مع الحُرية؟ وبالتالي نشوء الأزمات السياسية والاجتماعية للإنسان.

ومما لا شك فيه، أن مثل هذه التّقنيات الرقمية الحديثة قد أدخلت الإنسان في فوضى المفاهيم الإلكترونية، بين ما هو مُفيدٌ له، أو أقل فائدةً، أو مُسبباً للضر. ولكن، الأمر الذي يُجمع عليه الغالبية، هو أن الإنسان اليوم لم يعد باستطاعته التخلي عن هذه التّقنيات الحديثة، والتي انتشرت بشكلٍ مُخيفٍ في أصقاع الأرض، بل وأصبحت من الأدوات المُتداولة بين البشر بشكلٍ كثيفٍ، نظراً لسهولة استخدامها، وقلة تكاليفها، وتبنيها لطابع الحرية والديمقراطية.

تمحورت علاقة الحُرية بالتّقنيات الرقمية والاتصالية الحديثة بالعديد من المشاهد والصور، والتي انحصرت مؤخرا ًبمشهدٍ ثنائيٍّ أو مُزدوج المفاهيم..

أول هذه المشاهد، هو الذي يُثني على دور التكنولوجيات الحديثة، والتي لعبت دوراً مهماً في إشاعة ونشر الحُريات والديمقراطيات في العالم، بحيث ضمنت حق التواصل غير المُقيد للإنسان عبر الفضاء الإلكتروني، أو شبه معدوم الرقابة، وأتاحت للبشرية حق التعبير عن آرائها، وتوليد المعلومات الابتكارية، والحفاظ عليها. وبالتالي، تكون التكنولوجيات الرقمية والإلكترونية الحديثة قد ساهمت ببناء بنيةٍ أساسيةٍ ومُتكاملةٍ مُعتمدةٍ على الحُريات، والتي ترتكز إلى منظومةٍ قادرةٍ على تداول المعلومات بشكلٍ ديمقراطيٍّ وسريع.

ثاني هذه المشاهد، هو المشهد الذي يُرى في التّقنيات الإلكترونية والاتصالية الحديثة ومشاعية استخدام الإنترنت في عصرنا الحالي تشويهاً للحرية، وتضارباً مع مفهومها. يرى المُنادون بهذا التوجه بأن هُناك اعتقاداً سائداً بين العديد مفاده: أن وسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة كالإنترنت مثلاً، عصية على الرقابة والتنظيم والضبط، وقد برز هذا الاعتقاد في إطار ما يُسمى بالثالوث المُقدس، والذي يقوم على أن وسائل الاتصال الحديثة كبُعدٍ أول، تتصف بأنها ذات مُحتوىً ديناميكياً ضخماً كبُعدٍ ثانٍ، وتستطيع الوصول إلى غالبية المناطق الجغرافية في العالم عن كثبٍ كبُعدٍ ثالث، وهو ما أدى إلى نشوء الثالوث المُقدس.

يستشهد أصحاب هذا التوجه أيضاً، بأن هُناك فئةً قليلةً في العالم، تحتكر إنتاج وامتلاك هذه الوسائل الاتصالية، وبالتالي تُصبح الحُرية التي تمنحها هذه الوسائل الإلكترونية خاضعةً للأشخاص والكيانات التي تحتكر إنتاج مثل هذه الوسائل الاتصالية، وتُمارس سطوتها عليها..

وبالتالي، فإن الحُرية التي تمنحها هذه الوسائل، هي (حُرية افتراضية)، تُهيمن عليها جهاتٍ تتمتع بأسواق تشعبية تمنح جمهورها حُرية التعبير عن آرائهم، وتمتلك أجهزة قادرة على فرض رقابتها على غالبية معلومات الجمهور المُستخدم لهذه الوسائل الاتصالية، إضافةً لصبغها بالصبغة الرأسمالية الهادفة للربح. مما يعني أن هذه الجهات هي التي تقبض سيطرتها على زمام الأمور في عالمنا اليوم.

تتخذ علاقة الحُرية بتكنولوجيا المعلومات الاتصالية الوجه القانوني والتّقني والفلسفي في تأثير كُلٍّ منهما بالآخر. ولكن، نجاح أية تّقنية في عالمنا المُعاصر، يتطلب إيجاد بيئةٍ معرفيةٍ قائمةٍ على الحُرية، تولد أفكاراً صائبة، وتنقلها إلى فرضياتٍ قابلةٍ للدراسة، ومن ثُم تحولها إلى ابتكاراتٍ لها مدلولاتها الاتصالية. فمثلاً، لو نظرنا إلى داخل المُجتمعات الإنسانية ذات الطابع المفتوح في عصرنا الحالي، كالولايات المُتحدة الأميركية، والمجموعة الغريبة، لوجدنا أن علاقة الحُرية وتكنولوجيا المعلومات الاتصالية فيها تتحدد بناءً على أمرين هما:-

1. الحُرية الاقتصادية: والتي تهتم بقوى السوق السليمة، والعوائد المالية والتّقنية، مع السماح بتدخل الحكومة بهامشٍ محدودٍ في طبيعة العلاقة القائمة بين الحُرية وتّقنية المعلومات.

2. الحُرية السياسية: والتي تنظر إلى تّقنية المعلومات الحديثة بأنها مدخل إلى الحقوق المدنية. فالتدفق الحر للمعلومات يُعظم من الديمقراطية في أي دولة، وذلك من خلال الحُصول على أكبر قدرٍ مُمكنٍ من الوسائط والمعلومات الداعمة لعملية البناء التنموي في أي دولة. فقد يوفر النظام السياسي في دولةٍ ما جميع مُتطلبات العمل التّقني والتطوري، ولكن عدم اتباع ذلك بقدرٍ كافٍ من الحرية قد يُفشل العملية التنموية.

يبقى الصراع قائماً ما بين الحرية والتطورات الاتصالية والإلكترونية، ما يجعلها تُحدث العديد من الأزمات للإنسانية بأسرها، كقضايا التعبير عن الرأي، ودخولها بما يُعرف اليوم بـِ(الديمقراطية الرقمية)، والتي تأخذ طابع الصراع بين حُرية التعبير من جهةٍ، وأمن الدولة من جهةٍ أخرى. تحول هذا الصراع مؤخراً إلى أحد أشكال الحُروب الإلكترونية، ليشمل معارك تّقنية تتعلق بمفهوم الحرية من وجهة نظرٍ جماهيرية، والأمن القومي للدول من وجهتها الرسمية.

خير مثالٍ على هذا الصراع، ما أحدثته وثائق مُنظمة ويكيليكس Wikileaks التي تسربت إلى الرأي العام العالمي، لتُحدث أزماتٍ عديدة لبعض دول العالم، وصلت حد المساس بأمنها القومي. بدأت هذه الظاهرة حين قام موقع ويكيليكس على الإنترنت بنشر فيديو لمروحيةٍ أميركيةٍ وهي تقصف مدنيين عراقيين بينهم صحفي، ليتبع ذلك العديد من المنشورات التي أظهرت السلوك السياسي الخارجي لبعض دول العالم التي تدعي الديمقراطية والحرية، مما سبب لها أزماتٍ تعلقت بأمنها الاجتماعي والسياسي، ونظرتها للحُريات، وحقوق الإنسان تجاه العالم الآخر.

يشهد عالمنا اليوم صراعاً إلكترونياً مُتنامياً ومُتعدد الأطراف، في بيئةٍ تُطالب بالحُرية، ونظامٍ سياسيٍّ ينظر بعين الحذر لمعلوماته، ويعتبرها جزءاً من أمنه القومي. تظهر حدة هذه الصراعات في المُجتمعات المُستبدة، نظراً لسيطرة الأنظمة السياسية فيها على عُنصر المعلومات.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد