شهد العالَمُ على مدار الأيام الماضية حدثاً هاماً في مجال الذّكاء الاصطناعي، إذ دارت 5 مباريات في لعبة "جو" بين "خوارزمية AlphaGo" المطوّرة من شركة DeepMind المملوكة لجوجل، في مواجهة المصنّف الأول عالميّاً في هذه اللعبة لي سيدول من كوريا الجنوبية.
وفي حين يعتقد كثير من الناس أن هذا الحدث هو نوع من التحدي بين الآلة والإنسان، فإنه بالواقع تجربة علميّة عظيمة، يختبر فيها الإنسان مقدراتِ الخوارزمية.
وتجدر الإشارة إلى أنه من خلال هذه التجربة يمكننا تعلّم دروس عميقة، والخروج باستنتاجات مُفيدة حول الإنسان والآلة، ومن شأنِ مثل هذه الدروس والاستنتاجات أنْ تُساعدَ الباحثين في تطوير علم الذكاء الاصطناعي، كما أنه من المتوقّع أنْ تساعدَ الإنسان أيضاً على اكتشاف حلول جديدة لمشكلات مُعقّدة في هذا العالم.
"جو" لعبة صينية قديمة، يقوم اللاعبان المتُنافسان فيها بصفّ أحجارهما على لوح، عليه شبكةٌ من 19 خطّاً طوليّاً، و19 خطّاً عرضيّاً بهدف السيطرة على أكبر جزء من اللوح.
وتُعدّ هذه اللعبة مُعقّدة مُقارنةً بلعبة الشطرنج من ناحية الوقت اللازم لحساب جميع الاحتمالات وتقييمها قبل اختيار أفضلها؛ إذ إنَّ عددَ الاحتمالات للسلاسل المُختلفة يفوق عدد الذّرّات في هذا الكون.
ويحظى كل من اللاعبين بساعتين من الوقت لإتمام جميع نقلاته في اللعبة، وبعدها يجري تمديد الوقت له من دقيقة إلى 3 دقائق، ويعدّ هذا الوقت إضافيّاً.
تعرّف إلى الخوارزمية
تعتمد الخوارزمية على مبادئ التعلّم العميق أو الشبكات العصبية لتتعلّم بطريقة إحصائية، من خلال العديد من المباريات، كما تعتمد على أهمّ النقلات الفعّالة من جهة تأثيرها على فوزها في المباراة.
ومع أن هذه الطريقة تُعدّ نوعاً من التبسيط لحساب جميع الاحتمالات، إلا أنها لا زالت تحتاج لقدرة حسابية هائلة؛ لذلك يتم تشغيل الخوارزمية على حاسوب خارق يحتوي على شبكة من 170 مُعالجاً رُسومياً مُطوّراً بشكل خاص للحسابات الرياضية المعقّدة، بالإضافة إلى 1200 مُعالج مركزي عام، كتلك التي تُستخدم في حواسيب خوادم الانترنت.
وتم تدريب الخوارزمية في المرحلة الأولى عن طريق تحليل مباريات للمبتدئين في هذه اللعبة من الانترنت، وبعد بلوغها مستوى محدداً، تمَّ إجبارها على تدريب نفسها عن طريق لعبها مع نفسها لمئات الآلاف من المباريات.
تفوق الآلة
في البداية، ظهر لي سيدول غير واثقٍ من قوة الخوارزمية في المباراة الأولى، ما انعكس سلباً على أدائه، حيث إن نقلاته كانت أسرع من الآلة التي فاجأته بفوزها الذي لم يكن يتوقعه على حدِّ قوله.
وبعد اللعبة الأولى، أدرك لي قوّة الخوارزمية وأخذها على محمل الجِدّ، فبدا في المباريات اللاحقة متأنّياً في حركاته، ولكنه احتاج وقتاً طويلاً للقيام بحساباته تجنّباً لحدوث أخطاء، وهذا ما دفعه لاستنفاد وقته، ولجوئه إلى الوقت الإضافي في منتصف المباراة، وهو وقت مبكّر جدّاً.
وقد عرّضته هذه المشكلة للضغط النفسي، ولقصورٍ في إتمام الحسابات اللازمة للتفوّق في مباراة عالية المستوى. كانت هذه المسألة نقطة ضعف لي سيدول أمام الآلة التي يمكنها القيام بعشرات الآلاف من العمليات الحسابية في الثانية الواحدة. ومع ذلك استطاع سيدول أن يكون مُنافساً قويّاً بذهنه وإدراكه وتركيزه ومُتمتّعاً بروح قتاليّة عالية حتى آخر لحظة من المباراة، حتى أنه تمكّن من استنزاف قوة الخوارزمية، ودفعها إلى تقديم أقصى ما عندها، كما أشار ديميس هسابيس المدير التنفيذي للشركة المطوّرة.
ينبغي الإشارة هنا إلى أن الخطأ التي تقوم به الخوارزمية خلال المباراة لا يمكن تحديده بشكل مباشر؛ لأنَّ اللعبة تعتمد على سلسلة من الحركات، لذلك قد تبدو الحركة خطأ بالنسبة إلى الإنسان للوهلة الأولى، بينما قد تكون ميزة في بناء سلسلة غير اعتيادية لنا كبشر، وما يجعلها تصبح سبباً في فوزها. وعادة لا يمكن التيقن من خطأ الخوارزمية في تحديد حركاتها إلا من خلال معرفة نتيجة المباراة.
وبتمكن الآلة من الفوز في 4 مباريات من أصل 5، تكون هي الفائزة رسميّاً وبصورة نهائية.
تفوّق الإنسان
على خلاف المباريات الأخرى، كانت المباراة الرابعة مُثيرة أظهرت جانباً مُهمّاً يتميّز به الإنسان عن الآلة، ألا وهو الإبداع. والإبداع في هذا السياق هو أن تقوم بحلّ مشكلة بطريقة جديدة، مبتكرة وغير مألوفة.
تمكّن لي سيدول في هذه المباراة من الفوز على الآلة بفضل حركة إبداعية في وسط اللعبة كانت ضمن سلسلة من النقلات التي مكّنته من السيطرة على الوسط في أرض المعركة ودفع الخوارزمية للقيام بأخطاء والكشف عن ضعفها وإعلان انسحابها لاحقاً.
هذه الحركة فاجأت الجميع، حتى المتخصصين والخوارزميّة نفسها! وعندما سُئل لي سيدول عنها، قال ببساطة: "إنها الحركة الوحيدة التي رأيتها مناسبة في ذلك الوقت".
جاءت نقلة سيدول الذكيّة على رأس سلسلة من الحركات أدت إلى تقليص احتمالية فوز الخوارزمية بصورة كبيرة بسبب عدم تمكّنها من فهم هذه الحركة ومدى تأثيرها المهمّ على مجريات المباراة.
عندما تتدنّى احتمالية الفوز التي تقوم الخوارزمية بحسابها عن مستوى مُحدّد، هذا يعني أنها أيقنت الخسارة ووقعت في خطأ لم تدرك خطورته، عندها تُعلن انسحابها. والجدير بالذكر أنَّ تغيير مستوى الخوارزمية ومنهجيتها في اللعب قد يحتاج إلى لعب الآلاف من المباريات والإخفاق لأن معرفتها إحصائية، ولا شك أن هذه نقطة ضعف، مقارنةً بالإنسان الذي قد يتعلم من عدد مرات قليلة.
الذكاء الاصطناعي قادم
كانت المباريات هذه بمثابة تجربة واختبار حقيقي لإحدى خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وكأي تجربة علمية يجب أن يتمّ الاستفادة من النتائج في تحديد الثغرات والقيام بالتحسينات، ولا شك أن الشركة المطوّرة ستستفيد من بيانات المباريات كلّها، سيّما خسارة الخوارزمية في المباراة الرابعة لتحليل الخلل فيها ومعالجته.
ولذلك قال ديميس في المؤتمر الصحفي الأخير، "لقد تعلمنا كثيراً باللعب مع سيدول"، كما أشار إلى أنهم سيعملون على استخدام الخوارزمية في المستقبل لحلّ مشكلات حقيقية مختلفة في مجال الصحة والأبحاث العلمية.
في هذا السياق، يحسن الإشارة إلى التسابق بين الشركات الكبيرة، مثل فيسبوك وآبل وجوجل وتويوتا وغيرها، على تطوير حلول تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، مستهدفة بذلك قطاعات مختلفة كالإعلانات والصحة والسيارات ذاتية القيادة والروبوت بأصنافه وتطبيقاته المختلفة.
وكان ديميس هسبيس قد ذكر أن خوارزمية AlphaGo قد عمل عليها أكثر من 15 باحثاً ومطوِّراً ليل نهار لمدة سنتين.
وبفوز الآلة على الأول عالميّاً لأول مرة في هذه اللعبة المعقّدة، يكون قد دخل هذا الحدث التاريخ من أوسع أبوابه.
وإن بدا كثير من الناس متخوّفين من مستقبل الذكاء الاصطناعي بعد فوز خوارزمية AlphaGo، إلا أنه يجب علينا أن لا ننسى أنَّ الإنسان قام بتطوير هذه التقنيات لمساعدته في حلِّ مشكلات حقيقية معقّدة. وكأي تقنية أخرى، فإن الذكاء الاصطناعي يمكن تسخيره لما ينفع البشرية أو يضرّها؛ فيجب ألا نُهاجم هذه التقنية بالكلّيّة، بل أن ننظر إليها بإيجابية ونفهم كيف تعمل، بل نطوّرها ونعدّلها، ونحاول أن نستفيد منها في حياتنا اليومية في المستقبل.