يقوم الاحتلال الإسرائيلي بالاجتياح الأكثر قساوة لمدينة جباليا شمالي غزة، وهو الثالث منذ بدء العدوان على القطاع، مصعّداً هذه المرة بشكل غير مسبوق، بتهجير 95% من سكان هذه المدينة، إلى جانب محاولته مسح جباليا من الخريطة بالكامل.
حصل "عربي بوست" على شهادات ممن تبقى من سكان جباليا، المحاصرين حالياً من آليات الاحتلال، مانعاً عنهم إدخال الدواء والطعام أو أي من مقومات الحياة منذ أكثر من 70 يوماً.
عائلات صامدة رغم تهجير 95% من السكان
الشاب إسماعيل حسين قال لـ"عربي بوست"، إنه يظل صامداً مع زوجته وأطفاله الثلاثة في جباليا "رغم الخوف والخطر وانتظار الموت في أي لحظة".
وقال: "قررت البقاء في منزلي لأنني لا أستطيع تحمل مرارة النزوح في مراكز الإيواء والخيام، خصوصا أننا مقبلون على فصل الشتاء البارد".
وأكد أن "القصف حولنا لا يتوقف، حتى أن أجزاء من المنزل تعرضت لشظايا صواريخ جراء قصف مجاور لنا"، مشيراً إلى أن "الحركة خارج المنزل صعبة للغاية؛ لأن الاحتلال يستهدف كل شيء متحرك في الشوارع والطرقات".
عن احتياجاتهم من الطعام، قال: "كل شيء لدينا يقترب من النفاد، والاحتلال يرفض إدخال أي مساعدات أو طعام ويواصل قصفه وحصاره، وكل ما نعتمد عليه حالياً هو قليل من المعلبات والمعكرونة والعدس والأرز، من المساعدات التي تسلمناها قبل بدء الهجوم الإسرائيلي في 5 أكتوبر/تشرين الأول 2024".
الهجوم على جباليا هو الثالث منذ بداية العدوان على غزة، إذ تعرضت جباليا لاجتياح أول في ديسمبر/كانون الأول 2023، استمر حينها نحو أسبوعين، وتركز على الأجزاء الغربية منه، تبعه اجتياح ثانٍ في مايو/ أيار 2024، دام 3 أسابيع، تركز حينها على مناطقه الشرقية.
والعدوان الحالي هو الأشد، بمحاولة مسح جباليا بالكامل، لا سيما أن الاحتلال زاد من وتيرة تدمير المباني المدنية، بنسبة 90% وفق شهادات السكان هناك لـ"عربي بوست"، مؤكدين أن نحو 95% من الأهالي تهجروا جراء ذلك.
وبعث حسين صرخة للعالم ومؤسساته بالتدخل والضغط على الاحتلال لإنقاذه مع أطفاله المعرضين للموت في كل لحظة، سواء من القصف أو الجوع.
الخمسيني زياد مصطفى، ما يزال يعيش صامداً أيضاً في منزله، وقال لـ"عربي بوست": "نجوت مع عائلتي بأعجوبة بعد سقوط قذيفة على الطابق العلوي من المنزل، بينما كنّا نتواجد في الطابق السفلي".
وقال: "لم أجد سبيلاً سوى البقاء في منزلي رغم الخطر الكبير، لعدم تحمل مرارة النزوح، وعدم وجود مأوى آخر، وقد سلمّنا أمرنا إلى الله".
وبخيبة أمل، أضاف مصطفى: "لا أحد في العالم ينظر إلينا.. الرحمة غائبة تماماً، لأننا نموت كل لحظة دون أن يحرك أحد ساكناً".
عن الحصار المستمر لشمال غزة، قال: "نحن محاصرون بشكل كامل منذ أكثر من شهرين، ولا يدخل إلينا طعام أو أي شيء، والمياه التي نشربها ملوثة وغير صالحة للاستخدام الآدمي".
وأشار مصطفى إلى أن جيش الاحتلال يجبر السكان في جباليا وبيت لاهيا يومياً على الإخلاء والنزوح إلى مناطق أخرى، معتقداً أنه يطبق فعلياً "خطة الجنرالات" التي تداولها الإعلام، بشأن إفراغ شمال غزة بالكامل.
و"خطة الجنرالات" خطة صاغها عدد من الجنرالات والضباط الكبار في جيش الاحتلال خلال الأشهر الأخيرة، وتقضي بإخلاء شمال قطاع غزة قسراً من جميع الفلسطينيين، قبل حصاره ووضع المسلحين فيه تحت خيار الموت او الاستسلام، وفق ما نقلته وسائل إعلام عبرية.
كان جيش الاحتلال نفى أنه ينفذ تلك الخطة، مدعياً أن طلبه من السكان مغادرة أماكن القتال يهدف إلى "تجنيبهم مخاطر العمليات العسكرية"، بينما تؤكد أوساط فلسطينية أن الاحتلال الإسرائيلي يستهدف احتلال الجزء الشمالي من القطاع، وتهجير سكانه في إطار التطهير العرقي لهم.
قوبلت قساوة الهجمة الإسرائيلية بمقاومة عنيدة من الفصائل الفلسطينية التي كبدت جيش الاحتلال خسائر كبيرة.
وتعلن الفصائل وأبرزها "كتائب عزالدين القسام" الجناح العسكري لحركة "حماس"، يومياً، تنفيذ عمليات تتنوع بين استهداف الآليات بالقذائف المضادة للدروع أو تفجير مبانٍ بجنود إسرائيليين أو تنفيذ عمليات قنص لهم، أو استهداف التجمعات العسكرية الإسرائيلية بقذائف "هاون"، شمالي غزة.
وأقرّ جيش الاحتلال بمقتل 35 جنديا وإصابة المئات إضافة لتدمير العشرات من آلياته منذ الهجوم الحالي على جباليا.
محاولة مسح جباليا بالكامل
طغا على الهجوم الحالي مشهد نزوح السكان وتهجيرهم قسرياً عن بيوتهم وأحيائهم؛ إذ ينذر جيش الاحتلال من يبقى في شمال غزة بالقصف والقتل، طالباً منهم التوجه إلى مدن جنوب القطاع.
من أصل 450 ألف نسمة –هم مجموع سكان محافظة شمال قطاع غزة وفق إحصائيات رسمية- لم يتبقَ فيها حاليا سوى 15-20 ألف شخص، لا يدخل إليهم أي طعام أو مياه منذ 70 يوماً، وهم معرضون للموت في كل لحظة بسبب كثافة القصف، بحسب مراسل "عربي بوست" هناك.
أوضح أن القوات الإسرائيلية عمدت في هجومها على جباليا على أسلوب نسف الأحياء السكنية ببراميل تزن عدة أطنان من المتفجرات، ما أدى إلى تدمير ما يزيد عن 90% من الأبنية.
ويعرف عن جباليا أنها أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية في قطاع غزة، وتبلغ مساحتها 1.4 كيلومتر مربع، واستقر فيها اللاجئون عقب تهجيرهم من ديارهم من العصابات الصهيونية عام 1948.
تدمير القطاع الصحي
كان القطاع الصحي من أبرز الأهداف الإسرائيلية في ذلك الهجوم؛ إذ يستهدف جيش الاحتلال يومياً، المشافي الثلاثة الوحيدة العاملة في شمالي القطاع، وهي "مستشفى الشهيد كمال عدوان" و"المستشفى الإندونيسي" و"مستشفى العودة".
وأسفرت تلك الهجمات عن استشهاد عدد من الكوادر الطبية، آخرهم الطبيب سعيد جودة الذي قنصته قوات الاحتلال بشكل مباشر الخميس، 12 ديسمبر/كانون الأول 2024، وهو "آخر أخصائي عظام" في شمال القطاع، بحسب مصدر طبي رسمي.
كما أخرجت القوات الإسرائيلية سيارات الإسعاف والدفاع المدني عن الخدمة بشكل كامل؛ بفعل الاستهداف المباشر لها وعدم السماح بحركتها الأمر الذي أدى بعدد كبير من الجرحى للنزيف حتى الموت جراء تعذر نقلهم للمشافي.
مدير مستشفى الشهيد كمال عدوان حسام أبو صفية، أكد أن الاحتلال يستهدف المستشفى بشكل يومي سواء بالقصف المدفعي أو إطلاق النار والقنابل من الطائرات المسيرة.
وقال أبو صفية في مقطع مصور إن الاحتلال أحدث أضراراً كبيرة في المستشفى بعد أن دمّر كل خزانات المياه والوقود والأكسجين قبل أيام، ما أدى لاشتعال النيران فيه وانقطاع التيار الكهربائي بشكل كامل.
وأفاد بأن قوات الاحتلال فجرت روبوتات مزودة بكميات كبيرة من المتفجرات قرب المستشفى، ما تسبب في تحطيم الأبواب والنوافذ، مهدداً حياة المرضى في الداخل.
وأكد أن الاحتلال الإسرائيلي يمنع إدخال الإمدادات الطبية إلى شمال غزة، كما تفتقر المستشفى إلى الأدوات اللازمة لأعمال السباكة والمياه والكهرباء.
وبعث أبو صفية صرخة استغاثة إلى العالم، مطالباً المجتمع الدولي بالتدخل، ووقف نزيف الدم ضد الفلسطينيين المتبقين في شمال غزة.
يشار إلى أنه منذ أكثر من شهرين، تتعرض مناطق شمال قطاع غزة وفي القلب منها مدينة جباليا ومخيمها لهجوم إسرائيلي غير مسبوق يصاحبه حصار مطبق يمنع خلاله إدخال الدواء والطعام أو أي من مقومات الحياة.
وخلف العدوان الإسرائيلي على شمال القطاع، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، نحو 4 آلاف شهيد ومفقود، ونحو 12 ألف جريح، إضافة إلى ما يزيد عن ألفي معتقل، بحسب مصادر طبية وميدانية محلية.
أما في مجمل القطاع، خلف العدوان الإسرائيلي نحو 44 ألف شهيد ممن وصلوا المستشفيات، و106 آلاف جريح، وسط دمار هائل ومجاعة.