على بعد مائتي كيلومتر من مدينة تاونات شمال المغرب، توجد قرية "المشاع" وسط جبال الريف، حيث يزرع فلاحون أغلى المحاصيل، القنب الهندي المعروف بالذهب الأخضر الذي تم تقنين زراعته رسميا في السنوات الأخيرة.
هنا في هذه القرية الصغيرة، كما رصدت "عربي بوست"، الوضع ليس كما يسوق له منذ عقود، وترسخ في مخيلة من تذكر أمامهم أسماء مناطق، ككتامة والشاون وإساكن والدواوير المحيطة بهم من ثراء أهاليها وبذخهم المعاش.
على عكس ذلك تماما، فإن "جبالة" (وهو لقب أهل هذه المناطق)، مزارعو القنب الهندي ليسوا أغنياء، ويعيشون كباقي الفلاحين في العالم، الذين يزرعون القمح والشعير، أو الخضر والفواكه.
يقول "خالد" (فلاح) "كنا نزرع القنب الهندي، الذي لم يكن إنتاجه يتعدى في أفضل الأحوال، أربعة أو خمسة كيلوغرامات من الحشيش المستخرج، وهو الأمر الذي لم يكن يسمح لنا كمزارعين بتسويقه بدون اللجوء إلى وسيط وذلك قبل التقنين".
في السابق، كان الفلاحون يبيعون المحصول ويقترضون من أجل إتمام السنة، وحين يأتي المحصول المقبل ويبيعونه للتجار الكبار، يجدوا أنفسهم مضطرين لتخصيص جزء من المردود لتسديد ديون السنة الفارطة.
غير أن التقنين وما تلاه من إجراءات قامت بها المملكة المغربية توجها العفو الملكي الأخير على الفلاحين المتابعين، أشعل بصيص الأمل في فتح صفحة جديدة مع الدولة.
التقنين..خطوة انتظرها الفلاحون
بعد التقنين، أصبح بإمكان فلاحي "الكيف" بالمغرب، الحصول على الترخيص بممارسة أنشطة الزراعة والإنتاج، بعدما حددت وزارة الداخلية المغربية رسميا الأقاليم التي تجوز فيها هذه الزراعة مع إمكانية إضافة أقاليم أخرى.
وبحسب إحصائيات صادرة عن وزارة الداخلية يعيش نحو 90,000 عائلة، أي ما يعادل 700,000 مغربي، من عائدات هذه النبتة، خاصة في شمال المغرب الذي يسمى "الريف".
في تصريحه لـ "عربي بوست" قال "محمد المودن" رئيس تعاونية للقنب الهندي، "إن التقنين خطوة مهمة وفارقة في تاريخ هذه النبتة، انتظرناها طويلا، وهو أمر حول حياة كل فلاح من خوف ومطاردات إلى طمأنينة وراحة بال".
التقنين "غير الكثير، ليصبح فلاحو "الكيف" يلجون الإدارات بكل أمان، بعدما كانوا لا يقدرون على الإدلاء بوثائقهم الشخصية تحت أي ظرف كان، خوفا من أن تكون أسمائهم في دائرة المبحوث عنهم" يضيف المودن.
غير أن التقنين وإن طمأن المزارعين نفسيا، فإنه على المستوى الاقتصادي مازالت لم تظهر فوائده على جيوبهم، ومازالت ظروفهم المادية "بائسة".
يوضح رئيس تعاونية القنب الهندي "اليوم ننتظر المحصول الثاني في عهد التقنين، لم تتضح الرؤية بعد، هناك مشاكل في اقتناء البذور التي يشترطها دفتر التحملات، وهو الأمر الذي لا يستطيع معه الفلاح الالتزام مع شركات الأدوية، وبالتالي ضياع الموسم".
قبل أن يستطرد مخاطبنا بالقول "نرجو كفلاحين أن تكون هذه المشاكل فقط في البداية لأن البدايات عادة ما تكون متعثرة، خاصة أن التقنين مازال في المهد، على أن نتجاوز العقبات معا كفلاحين وتقنيين ومسؤولين".
وإذا كان التقنين أنقذ بعض الفلاحين من براثن تهمة زراعة القنب الهندي أو بيعه، فإن العفو الملكي على المتابعين سابقا أخرجهم من ويلات المطاردات، التي جعلت منهم أشباحا وسط الدواوير.
إعفاء بطعم المصالحة
أصدر العاهل المغربي محمد السادس عفوا ملكيا عن أزيد من 4,800 شخص مدانين أو مطاردين في قضايا تتعلق بزراعة القنب الهندي.
وجاء العفو بمناسبة "ثورة الملك والشعب"، وضمن خارطة طريق أعدها المغرب لتقنين زراعة القنب الهندي على مراحل.
في حديثه لـ"عربي بوست" أوضح عبد اللطيف مجاهد، حقوقي بالجمعية المغربية لحقوق الإنسان فرع غفساي بتاونات، أن الفلاح في هذه القضايا لا يعد سوى زارعا لنبتة كانت ممنوعة في السابق، لكنها اليوم أصبحت مثلها مثل أي نبتة أخرى شرعية".
وأضاف مجاهد أن مستجد إعفاء الفلاح من المتابعات القضائية، فرصة سانحة للدولة من أجل التصالح مع هذه المنطقة ككل، وإشراك جميع الأطراف المتداخلة في هذه العملية من أجل إنماء الجهة واستدراك ما فاتها من مؤهلات اقتصادية واجتماعية".
وكانت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، طالبت في وقت سابق بالعفو عن المزارعين المحكومين على خلفية تهمة زراعة الكيف أو محاولة ذلك خاصة بإقليمي تاونات وشفشاون ووزان والحسيمة وتطوان.
فيما اعتبر المودن العفو بمثابة فرج لآلاف الأسر التي حرم أبناؤها لسنوات من حقوقهم في التطبيب والتعليم وقضاء أغراضهم الإدارية داخل المرافق العمومية خوفا الأولياء المبحوث من القبض عليهم.
ولادة جديدة لمزارعي القنب الهندي
"محمد" رجل ثمانيني، رب أسرة لأبناء وأحفاد يفوق عددهم العشرين فردا، كان مطلوبا للعدالة، بتهمة زراعة القنب الهندي.
يقول "محمد" لـ"عربي بوست"، وهو متكئ على عكازه، وقد أخذ الزمن والمرض الكثير من عافيته، "أعاني من السكري والروماتيزم وأمراض عديدة، ومع ذلك لم أكن أستطيع الدخول إلى المستشفيات العمومية بسبب المتابعات القضائية".
فر "محمد" من العدالة لعدة سنوات فاقت العشر، لم يستطع خلالها زيارة أي إدارة أو مرفق عمومي، إلى أن انتهت صلاحية بطاقته الوطنية دون القدرة على تجديدها.
عندما كان يمرض "محمد" أو يريد إجراء تحاليل مخبرية أو أشعة طبية، فإنه يتجه نحو المصحات والمراكز الخاصة "التي تستنزف كل ما لديه من مال"، يستعين بسيارة مستأجرة، فسيارات "الدوار" تفتش كثيرا من طرف رجال الدرك.
وإن جاء العفو متأخرا في حالة الثمانيني "محمد" الذي بدا فرحه متحفظا، إلا أن "عبد السلام" أب لطفلين، بدا أكثر فرحا وإقبالا على الحياة مع إعلان العفو.
"عبد السلام" أكثر ثقة اليوم بنفسه، حيث أوضح في حديثه لـ"عربي بوست"، أن يوم العفو بمثابة ولادة جديدة لأبناء المنطقة، أستطيع الآن تعليم ابني الأصغر بعد تسوية وضعيتي القانونية، بعد أن حرمت ابن الأكبر من ذلك".