لا تكاد تخرج ليبيا من أزمة أو تحاول ذلك إلا وتقع في أخرى أشد وطأة من سابقتها، وأحدث تلك الأزمات الخلافات بين الفرقاء في ليبيا على إقرار ميزانية العام الجاري 2024. حيث تتمثل الأزمة الجديدة في إقدام مجلس النواب الليبي على إقرار ميزانية عامة للعام الحالي، وهو الإجراء الذي رفضه المجلس الأعلى للدولة، واعتبره "إجراء فردي غير صحيح" ومخالف للاتفاقات السياسية السابقة بينهم.
الميزانية البالغة 179 مليار دينار ليبي (25 مليار دولار) اعتمدت على مرحلتين، الأولى بقيمة اعتمدها مجلس النواب في جلسة أواخر أبريل/نيسان الماضي وقيمتها 90.5 مليار دينار (12.76 مليار دولار).
فيما اعتمد المجلس ذاته قيمة إضافية للميزانية العامة نفسها خلال جلسة الأربعاء الماضي، تبلغ أكثر من 88 مليار دينار ليبي (12.3 مليار دولار) لتصبح بذلك الميزانية الأكبر في تاريخ البلاد. وإقرار الميزانية سبقها تشكيل لجنة تضم أعضاء بمجلسي النواب والدولة، ومندوب عن البنك المركزي المنقسم من بنغازي (شرق) وطرابلس (غرب)، وذلك لبحث كل ما يخص الميزانية، كون أطراف النزاع اتفقت على أن تكون "موحدة" لكامل البلاد.
الحكومتان في ليبيا تتنازعان النفوذ وإقرار الميزانية
في ليبيا، حكومتان وهما حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة ومقرها العاصمة طرابلس، التي تدير منها كامل غرب البلاد، والثانية حكومة أسامة حماد كلفها مجلس النواب قبل ثلاثة أعوام ومقرها بنغازي وتدير كامل شرق البلاد ومدن بالجنوب.
وعقدت اللجنة عدة اجتماعات داخل ليبيا لوضع قانون للميزانية، فيما عقدت اجتماعات مشابهة في تونس برعاية أمريكية قبل مطلع يوليو/تموز الجاري. إلا أن ذلك الاجتماع فشل إثر خلاف بين مندوبي الحكومتين على بند "التنمية"، خاصة وأن الحكومتين أطلقتا قبل عام مشاريع تنمية ضخمة سميت في غرب البلاد "عودة الحياة " وفي شرقها "إعادة الإعمار".
وفور إعلان مجلس النواب عن عقد جلسة رسمية لمناقشة مشروع الميزانية الموحدة، بادر رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة بمعارضة الخطوة، مطالبا في رسالة لرئيس مجلس النواب عقيلة صالح، بعدم بحث قانون الميزانية العامة خلال جلسة المجلس، قبل إحالتها في شكلها النهائي إلى مجلس الدولة كونه شريكا في الأمر.
إلا أن ذلك لم يحدث، فمجلس النواب عقد جلسته الثلاثاء وناقش مشروع الميزانية وعلق الجلسة للأربعاء، وهي الجلسة التي جرى خلالها اعتماد تلك الميزانية.
ذلك الإجراء، عارضه "الشريك" مجلس الدولة، فأصدر رئيسه تكالة بيانا قال فيه إن "إقرار مجلس النواب للميزانية جاء مخالفا لنصوص الاتفاق السياسي (وقع بين المجلسين في المغرب عام 2015)".
تلك البنود وفق تكالة "تقضي بقيام الحكومة – باعتبارها الجهة المختصة – بعرض مشروع قانون الميزانية على المجلس الأعلى للدولة لإبداء الرأي الملزم فيه، ومن ثم إحالته إلى مجلس النواب لمناقشته وإقراره".
ولم يكتف تكالة بذلك، بل وجه خطابا رسميا الخميس إلى محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير، طالبه فيه بـ"عدم تنفيذ قانون الميزانية للعام الجاري، على النحو الذي صدر به من مجلس النواب لعدم مشروعيته". كما دعا تكالة محافظ البنك المركزي "إلى ضرورة التقيد بموقف المجلس الأعلى للدولة، الرافض لإقرار الميزانية والذي يأتي تمسكا بتنفيذ صحيح للقانون".
وحمل رئيس المجلس الأعلى للدولة، محافظ المصرف المركزي ما اعتبره "المسؤولية القانونية والتاريخية والأخلاقية لما يرتبه هذا العبث من تداعيات سياسية واقتصادية تفاقم من أزمة البلاد".
أكبر ميزانية في تاريخ ليبيا تهدد جهود التسوية
كل ذلك، خلق أزمة هددت جهود حل الخلاف السياسي والمتمثلة في مباحثات تجري بين مجلسي النواب والدولة لحل النقاط العالقة في طريق إجراء انتخابات من المنتظر أن تجدد شرعية الأجسام الحاكمة الليبية وتنهي الخلاف بين الحكومتين المتنافستين.
وحول ذلك يرى المحلل السياسي الليبي بدر الغاوي، أن "ما أقدم عليه مجلس النواب هو إجراء تشوبه الشبهات". مضيفاً في تصريحات للأناضول أن "أولى تلك الشبهات عدم إعلان مجلس النواب عن عدد حضور الجلسة أو عدد من صوّت فيها لصالح إقرار مشروع الميزانية، في حين أن القانون ينص على وجوب أن يصوت 120 نائبا بالبرلمان لصالح القانون".
ومن بين شبهات اعتماد الموازنة أيضاً، يوضح الغاوي أن "إقرار ميزانية ضخمة تعد الأكبر في تاريخ ليبيا يعد جريمة في ظل وجود حكومتين". والصحيح وفق وجهة نظره "هو توحيد الحكومتين قبل أن تخصص ميزانية.. لأن تخصيص ميزانية لتصرف منها حكومتين يعد أكبر أوجه الفساد المالي الصريح".
توحيد الحكومتين أو تأجيل الميزانية
تعليقاً على كل ذلك، دافع عضو مجلس النواب الليبي محمد تامر عن الإجراء الذي اتخذه المجلس باعتماد الميزانية العامة للبلاد. وقال في تصريح للأناضول، إن "مجلس النواب كان قد وضع خارطة طريق واضحة لتشكيل حكومة موحدة، لكن ذلك تعثر لعدة أسباب، لذلك فإن استمرار تأجيل اعتماد ميزانية للبلاد يعد ضرباً للاقتصاد وتعطيل للبلاد".
وأضاف: "مشاريع التنمية انطلقت في البلاد، والصرف من دون ميزانية محددة الأبواب والقيمة يعد بمثابة السماح بوجود الفساد، لذلك كان لزاما علينا إقرار ميزانية محددة لتسهل عملية الرقابة المالية على الصرف منها".
أما بخصوص إمكانية تعثر صرف الميزانية التي تم إقرارها، فقال النائب: "قبل أن يتم اعتماد الميزانية جرت اتفاقات واجتماعات مع محافظ البنك المركزي في طرابلس، والمحافظ في بنغازي، وتم الاتفاق على أن يصرف كل منهما المبلغ المخصص للحكومة الواقعة في نطاق تواجده".
كما أن تلك الميزانية وفق النائب "قدمتها الحكومة الشرعية المعينة من مجلس النواب، وتم نقاشها في جلسات رسمية تحت قبة البرلمان وهو الإجراء الصحيح وفق القانون".