جاءت نتائج الجولة الثانية من انتخابات فرنسا التشريعية مفاجئة للجميع، فما السيناريوهات المتاحة الآن أمام الرئيس ماكرون للتعامل مع تصدر اليسار للمشهد وعدم حصول أي حزب على الأغلبية؟
كانت النتائج الأولية للدورة الثانية من الانتخابات التشريعية التي أجريت الأحد 7 يوليو/ تموز 2024 قد أسفرت عن تصدر تحالف اليسار "الجبهة الشعبية الجديدة" لعدد المقاعد في الجمعية الوطنية (البرلمان)، وسط توقعات بحصوله على ما بين 177 و192، وفق تقديرات معهد إيبسوس/ تالان.
ووفق نفس التقديرات، سيحصل التحالف الرئاسي "معاً"، تحالف ماكرون، على عدد مقاعد يتراوح بين 152 و158، بينما حل حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف وحلفاؤه في المركز الثالث بعدد مقاعد يتراوح بين 138 و145 مقعداً.
انتخابات فرنسا.. نتائج غير متوقعة
خلال أسبوع واحد تحولت فرنسا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ فبعد نتائج الجولة الأولى، التي تصدرها اليمين المتطرف بزعامة حزب التجمع الوطني بنسبة 33.15% من الأصوات، بدا هذا المعسكر في طريقه للسلطة لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.
أثارت هذه النتائج حالة من الهلع داخل فرنسا ترددت صداها في جنبات الاتحاد الأوروبي، وناشد ماكرون ورئيس حكومته غابريال أتال وسياسيين ينتمون لمعسكر الوسط، بل انضم نجم كرة القدم الفرنسية الشاب كيليان امبابي لتلك الحملة، الناخبين الفرنسيين بمنع "سقوط البلاد في قبضة اليمين المتطرف".
أتت الحملة أكلها بشكل لافت وجاءت نتيجة الجولة الثانية، وهي نتائج أولية حتى كتابة هذا التقرير (صباح الاثنين 8 يوليو/ تموز)، بمثابة السقوط المدوي لليمين المتطرف، الذي تراجع إلى المركز الثالث، وبمثابة المكافأة غير المتوقعة للتحالف اليساري، الذي يقوده حزب "فرنسا الأبية" بزعامة جان لوك ميلينشون، حيث تصدر المشهد بأكمله، دون الحصول على أغلبية مطلقة.
نسبة الإقبال المرتفعة في الجولة الثانية، والتي تخطت 67%، إضافة إلى التحالفات التي أبرمتها الجبهة الشعبية وتحالف "معاً"، أدت إلى قلب الطاولة على معسكر اليمين المتطرف. إذ شهدت الجولة الثانية وجود 3 مرشحين في 306 دائرة انتخابية ينتمي كل مرشح لواحد من الكتل الثلاث المتناحرة (التجمع الوطني اليميني والجبهة الشعبية اليسارية ومعأ الوسطي).
هذه هي المرة الأولى التي تكون الأمور على هذه الصورة، ففي العادة تكون الإعادة بين مرشحين اثنين، وفي الانتخابات الأخيرة عام 2022 كانت هناك 8 سباقات ثلاثية فقط، وفي انتخابات 2017 كان هناك سباق ثلاثي واحد في جولة الإعادة.
في أغلب هذه السباقات الثلاثية هذه المرة كان مرشحو معسكر اليمين المتطرف الأعلى حصولاً على الأصوات في الجولة الأولى، يليهم مرشحو الجبهة الشعبية ثم مرشحو معسكر ماكرون. لكن المفاوضات السريعة بين اليساريين ومعسكر ماكرون أدت إلى انسحاب أعداد كبيرة من مرشحيهم للوقوف خلف مرشح واحد لمواجهة مرشح اليمين المتطرف.
أدت هذه الانسحابات إلى تقلص عدد السباقات الثلاثة إلى 89 فقط، من 306، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC، يصف الجولة الثانية من انتخابات فرنسا بأنها أقرب إلى مشهد من أحد أفلام المخرج الهوليودي تارانتينو، حيث تقع مواجهات دامية بين ثلاثة أطراف في الوقت نفسه.
ما المتوقع الآن في فرنسا؟
هذا هو سؤال الساعة بطبيعة الحال، ففي ظل عدم توجه أي من التحالفات الثلاث الكبرى نحو تأمين الأغلبية في الجمعية الوطنية (أي الحصول على 289 مقعداً من إجمالي عدد المقاعد البالغ 577)، يفتح الباب على مصراعيه للسيناريوهات.
لكن هذه السيناريوهات تظل محصورة في عدد محدود على النحو التالي:
- تشكيل تحالف بقيادة اليسار: فرنسا ليست معتادة على ذلك النوع من بناء التحالفات في مرحلة ما بعد الانتخابات، رغم أنه أمر شائع في الديمقراطيات البرلمانية في شمال أوروبا، مثل ألمانيا أو هولندا، بحسب تقرير لرويترز.
السياسي اليساري المعتدل رافائيل جلوكسمان، وهو مشرع في البرلمان الأوروبي، قال لرويترز إن الطبقة السياسية يجب أن "تتصرف مثل البالغين".
جان لوك ميلينشون، زعيم حزب "فرنسا الأبية" اليساري، استبعد تشكيل ائتلاف واسع من الأحزاب ذات التوجهات المختلفة، وقال إن من واجب ماكرون أن يدعو التحالف اليساري إلى الحكم.
أما في معسكر الوسط، فقد قال رئيس حزب ماكرون، ستيفان سيجورن، إنه مستعد للعمل مع الأحزاب الرئيسية لكنه استبعد أي اتفاق مع حزب ميلينشون. كما استبعد رئيس الوزراء السابق إدوارد فيليب أي اتفاق مع الحزب المنتمي لأقصى اليسار.
ماذا يعني عدم وجود اتفاق بين أحزاب اليسار؟
ستكون هذه منطقة مجهولة بالنسبة لفرنسا، إذ ينص الدستور على أن ماكرون لا يمكنه الدعوة لإجراء انتخابات برلمانية جديدة قبل 12 شهراً أخرى. وقال رئيس الوزراء غابرييل أتال إنه سيقدم استقالته إلى ماكرون صباح الاثنين، لكنه مستعد للمواصلة لتصريف أعمال الحكومة.
وينص الدستور على أن ماكرون هو الذي يختار من سيقوم بتشكيل الحكومة. لكن من سيختاره سيواجه تصويتا بالثقة في الجمعية الوطنية، التي ستنعقد لمدة 15 يوماً في 18 يوليو/ تموز، وهذا يعني أن ماكرون يحتاج إلى تسمية شخص مقبول لدى أغلبية المشرعين.
ومن المرجح أن يأمل ماكرون في إخراج الاشتراكيين والخضر من التحالف اليساري، مما يترك حزب "فرنسا الأبية" بمفرده، لتشكيل ائتلاف يسار وسط مع كتلته. لكن لا يوجد أي مؤشر على تفكك وشيك للجبهة الشعبية الجديدة في هذه المرحلة.
- هناك احتمال آخر هو تشكيل حكومة تكنوقراط تدير الشؤون اليومية ولكنها لا تشرف على التغييرات الهيكلية. لكن ليس واضحاً إن كانت كتلة اليسار ستدعم هذا التصور الذي سيظل يتطلب دعم البرلمان.
ماكرون .. الخاسر الأكبر؟
تشير هذه السيناريوهات الغامضة والموقف الضبابي إلى أن الرئيس الفرنسي قد خسر رهانه بحل البرلمان والدعوة إلى هذه الانتخابات المبكرة. إذ فاجأ إيمانويل ماكرون الجميع تقريباً، بما في ذلك معظم قيادات حزبه، بالدعوة إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة في أعقاب الهزيمة الساحقة التي مُني بها حزب النهضة الوسطي الذي يتزعمه أمام حزب التجمع الوطني، الذي يرأسه جوردان بارديلا خليفة مارين لوبان، في الانتخابات البرلمانية الأوروبية.
فعندما دعا غوردان بارديلا ماكرون إلى حل البرلمان الوطني الفرنسي، بدا الأمر وكأنه تحدٍ سياسي من النوع الثقيل، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية. قال بارديلا لأنصاره: "لا يمكن لرئيس الجمهورية (ماكرون) أن يظل أصم ولا يستمع للرسالة التي بعث بها الفرنسيون هذا المساء"، في إشارة إلى نتائج الانتخابات الأوروبية.
لم يكذب ماكرون خبراً وقبل التحدي معلناً عن حل الجمعية الوطنية (البرلمان) والدعوة لانتخابات عامة مبكرة. وبهذا الإعلان أقام ماكرون مواجهة مباشرة بين معسكره المؤيد لأوروبا والوسطية ولأوكرانيا، وبين خطاب اليمين المتطرف المناهض للهجرة والشعبوي والمتشدد بشأن القانون والنظام. .
"اليمين المتطرف هو إفقار الفرنسيين والحط من شأن بلدنا"، بحسب ماكرون في خطابه للفرنسيين: "لذا، في نهاية هذا اليوم، لا أستطيع التصرف كما لو أنه لم يحدث شيء".
من المهم هنا أن نذكر أن المرة الأخيرة التي قام فيها رئيس فرنسي بحل مجلس النواب (الجمعية الوطنية) كانت في عام 1997، ووقتها خسر الرئيس جاك شيراك أغلبيته البرلمانية، ووصل اليسار إلى السلطة، فهل أعاد التاريخ نفسه؟
الآن قال جان لوك ميلونشون إن ماكرون يجب أن يقر بالهزيمة في الانتخابات البرلمانية الفرنسية، وأضاف أنه يتعين على ماكرون أن يدعو الجبهة الشعبية الجديدة لتشكيل حكومة جديدة. ووصفت مارين لوبان ماكرون بأنه في وضع "لا يمكن الدفاع عنه".
الرئاسة الفرنسية، من جانبها، قالت إن ماكرون يعكف حالياً على تحليل نتائج الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية وسينتظر وضوح الصورة كاملة قبل اتخاذ القرارات اللازمة. وأضافت الرئاسة في بيان "سيحترم الرئيس، باعتباره الضامن لمؤسساتنا، خيار الشعب الفرنسي".
هل يلجأ ماكرون إلى كسب الوقت؟
منذ خسارته الأغلبية البرلمانية في 2022، سعى ماكرون إلى تشكيل تحالفات في البرلمان على أساس تبادل الأصوات، أو فرض التشريعات بدون تصويت بدلاً من عقد تحالف ائتلافي مع حزب آخر. والآن قد يحاول التحالف اليساري القيام بالشيء نفسه. لكن حكومة أقلية من اليسار قد تخسر في أي تصويت يجري في البرلمان على حجب الثقة عنها.
على الجانب الآخر، يأمل معسكر ماكرون الآن أن يتمكن من تشكيل ائتلاف مع المعتدلين من اليسار واليمين. وفي سياق التحضير لهذا الاحتمال، لم يقدم حزب ماكرون مرشحين في 67 دائرة انتخابية يتنافس فيها مرشحو يمين الوسط أو يسار الوسط.
لكن ماكرون قام بتقليص خياراته بشدة عندما وضع حزب فرنسا الأبية – القوة المهيمنة في تكتل الجبهة الشعبية الجديد- على قدم المساواة مع اليمين المتطرف فيما يسميه "التطرف" في البلاد. كما يتهم ماكرون حزب "فرنسا الأبية" بمعاداة السامية، وهي الاتهامات التي يرفضها الحزب بشدة ويؤكد في الوقت نفسه على انتقاد الحرب على غزة وما يرتكبه جيش الاحتلال من جرائم بحق الفلسطينيين.
اللافت هنا أن هذا الموقف تحديداً كان شاخصاً أمام ماكرون منذ فوزه بفترة رئاسية ثانية، وكان أنصاره يرون أنه يتعين عليه أن يخطو بحذر إذا لم يكن يريد أن ينفجر الوضع مرة أخرى. فقد كانت ولايته الأولى مليئة بأخطاء في العلاقات العامة جعلته يبدو متغطرساً أو متعجرفاً. ولا يحبه العديد من الفرنسيين، وأخبره رجل في وجهه في أثناء الحملة الانتخابية بأنه "أسوأ رئيس للجمهورية الخامسة"، كما تعرض ماكرون لصفعة على وجهه من أحد المواطنين خلال أحد التجمعات الانتخابية.
النقطة الأخيرة في هذا السيناريو هي أن فرنسا كانت قد شهدت 22 حكومة ائتلافية خلال 12 عاماً فقط، وكان ذلك أثناء الجمهورية الرابعة بعد الحرب العالمية الثانية (1946-1958)، وهو ما أصبح خياراً غير عملي ترفضه السياسة الفرنسية.
وفي حالة فشل أي من الأحزاب أو التحالفات في الحصول على أغلبية تسمح بتشكيل الحكومة، قد يلجأ ماكرون إلى تعيين حكومة تكنوقراط يمكن أن تحظى بدعم جميع الأحزاب.
خبير العلوم السياسية في مركز إميل دوركهايم في بوردو، كامي بيدوك، أشار لموقع فرانس 24 إلى ما حدث في إيطاليا كمثال في هذا الصدد؛ حيث شكّل رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق ماريو دراغي عام 2021 حكومة وحدة وطنية عندما كانت إيطاليا تشهد حالة اضطراب سياسي، واستمرت تلك الحكومة 18 شهراً.
ويرى بيدوك أن ماكرون قد يقرر أيضاً ترك الحكومة الحالية برئاسة غابريال أتال، المنتمي لحزب الرئيس، بصفة حكومة تصريف أعمال لمدة عام، ويمكن للرئيس بعد ذلك الدعوة لإجراء انتخابات تشريعية جديدة. وسيكون لهذا القرار فائدة ضمان الاستمرارية خلال الألعاب الأولمبية (التي تستضيفها باريس في الفترة من 26 يوليو/تموز وحتى 11 أغسطس/آب)، وستكون أنظار العالم منصبة على فرنسا. لكن لا توجد مؤشرات على أن اليمين المتطرف أو حتى اليسار قد يدعم مثل هذه الخطوة، التي من شأنها أن تسمح لماكرون بربح الوقت لإدخال تغييرات على طريقته في الحكم.