يواجه مخيم جباليا في شمال غزة، محاولات متكررة لاقتحامه من قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء العدوان في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ليواجه مقاومة عنيفة من الفصائل الفلسطينية، تشتد ضراوة رغم مرور نحو 9 أشهر على الحرب.
ورغم الصمود في جباليا، إلا أنها تعاني من حصار الاحتلال الإسرائيلي، الذي يقطع عنها المساعدات الإنسانية والإغاثية رغم التحذيرات المستمرة من المجاعة كسياسة عقاب جماعي ضد الفلسطينيين الثابتين على أرضهم.
الصمود في جباليا
تحدثت قيادات ميدانية من الفصائل الفلسطينية في جباليا لـ"عربي بوست"، عن استراتيجية استنزاف تتبعها في التصدي لقوات الاحتلال، وفق تكتيكات يفرضها الميدان، جعلت جباليا عصية على الاجتياح.
بهذا الصدد، كشف قيادي ميداني من الفصائل، عن طبيعة معركة الاستنزاف التي تخوضها المقاومة مع الاحتلال وآلياتها، قائلاً لـ"عربي بوست" إن المقاومة اتبعت في محاولة الاجتياح الأخيرة قبل أيام أساليب عدة في التصدي، أبرزها أسلوب الكمائن وتفخيخ المنازل وفتحات الأنفاق.
وأكد أن المقاومة في شمال قطاع غزة ما زالت تحتفظ بقوتها رغم المزاعم الإسرائيلية بتفكيكها، مشدداً على أنه في حال عاد الاحتلال لاقتحام المخيم سيجد مقاومة أعنف من التي وجدها في الاجتياح الأخير.
عن أساليب الصمود التي تتبعها المقاومة في حرب الاستنزاف مع الاحتلال، قال إنها تعتمد ادخار بعض المجموعات المقاتلة، ولا تدفع بجميع القوات إلى ميدان المواجهة ومواقع التوغل الإسرائيلي، في ظل اعتماد قوات الاحتلال سياسة "الأرض المحروقة" والقصف العشوائي والعنيف.
وأضاف: "في ظل الفارق الكبير في الإمكانيات والمعدات، فإن المقاومة تترك أحياناً القوات الإسرائيلية تتوغل في منطقة معينة إلى أن تتمركز فيها، ثم تتم مباغتتها بالوسائل المناسبة".
وكان الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة، قال في خطاب له في مايو/أيار 2024، إن الكتائب مستعدة لمعركة استنزاف طويلة، وجر جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى مستنقع لا يجد فيه إلا القتل.
وكانت آخر محاولة اجتياح إسرائيلية لجباليا، في صبيحة 11 مايو/أيار 2024، حين بدأت قوات الاحتلال هجوماً برياً وجوياً على جباليا؛ بذريعة إعادة حركة حماس تنظيم صفوفها فيه.
استمر الهجوم حتى 31 من الشهر ذاته، مخلفاً عشرات الشهداء وتشريد عشرات الآلاف، فضلاً عن تدمير هائل في المنازل والمباني والبنية التحتية.
وسبقت ذلك محاولة اجتياح عنيفة أخرى في ديسمبر/كانون الأول 2023، إذ استمرت قرابة الأسبوعين.
ومخيم جباليا يعد أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية في قطاع غزة، وتبلغ مساحته 1.4 كيلومتر مربع، واستقر فيه اللاجئون عقب تهجيرهم من ديارهم من العصابات الصهيونية عام 1948.
يقطن في المخيم حوالي 116 ألف فلسطيني، وفق آخر إحصائية مدونة في موقع الأمم المتحدة الإلكتروني، نزح منهم حوالي 50 ألفاً إلى جنوب قطاع غزة، في بدايات الحرب الجارية، بحسب تقديرات غير رسمية.
حضر مخيم جباليا بقوة في كل عدوان أو حرب إسرائيلية، ومنه انطلقت شرارة انتفاضة الحجارة عام 1987، عقب دهس شاحنة إسرائيلية 4 عمال فلسطينيين فيه، وقدّم الشهيد الأول فيها وهو حاتم أبو سيسي.
ومع محاولات الاجتياح المتكررة لجباليا، تدمرت أكثر من نصف منازل المخيم، وأحدث الاحتلال أضراراً جسيمة في معظم المحال التجارية والمؤسسات والبنية التحتية.
إلا أن سكانه يرفضون الاستسلام للواقع المرير، وسارعوا إلى لملمة جراحهم، والعودة إلى شيء من حياتهم السابقة فيه.
خيام فوق ركام المنازل
كان لافتاً نصب بعض العائلات خياماً فوق ركام منازلها المدمرة في مشهد يعكس الصمود والتشبث بالأرض، بينما شرع أصحاب المحال التجارية المتضررة إلى تنظيفها وإصلاح ما يمكن إصلاحه وإعادة افتتاحها من جديد.
وتضطر تلك العائلات لوضع الخيام فوق المنازل المدمرة في ظل عدم توفر آليات ومعدات في قطاع غزة باستطاعتها إزالة الركام منها، بسبب استهداف الاحتلال لها.
الشاب الأربعيني نضال الغوراني كان واحداً من بضعة آلاف تعرضت منازلهم إلى التدمير بفعل القصف الإسرائيلي للمخيم.
"عربي بوست" قابلت الغوراني في خيمة فوق ركام منزله، أقامها من القماش وألواح "الزينكو".
يروي الغوراني عن ظروف اجتياح جباليا: "كنا في المخيم قبل الحرب الضروس عليه من الاحتلال في مايو/أيار الماضي، لنضطر للنزوح إلى منطقة قريبة في حي الشيخ رضوان شمالي مدينة غزة، بسبب كثافة القصف".
وقال: "عدنا إلى المخيم بعد 3 أسابيع، وتفاجأنا بحجم الدمار والركام فيه، ووجدنا منزلنا مدمراً فأصلحنا منه غرفاً، وأزلنا بعض الركام، وسترنا البيت، ونقيم فيه حالياً".
وأكد الغوراني على تشبثه وعائلته بالبقاء في مخيم جباليا رغم القصف الشديد، ومحاولات الاحتلال الإسرائيلي تهجير سكانه قسراً.
عن هذه المعاناة المستمرة، قال: "المواطن الفلسطيني جرب الهجرة الأولى عام 1948، ووجد المرارة، لذلك لا يريد النزوح عن بيته وتكرار المعاناة".
وعن أسباب صمود جباليا في وجه العدوان أوضح الغوراني، أن "هذا المخيم هو مخيم ثورة، وقدم تضحيات كبيرة؛ ففي كل بيت فيه تجد إما شهيداً أو أسيراً أو جريحاً".
ولفت أيضاً إلى أن "جباليا من أقدم المخيمات، وهو من الأكثر من كثافة سكانياً، والمنازل فيه ملاصقة لبعضها، لذلك محبة الناس لبعضها سائدة بشكل كبير فيه".
حال الغوراني ينطبق على الأكاديمي محمد المقيد الذي دمرت قوات الاحتلال منزله المكون من 5 طوابق وسوته بالأرض.
وقال المقيد من خيمة أقامها فوق ركام منزله، لمراسل "عربي بوست": "رغم الهم والغم والكدر والدمار، إلا أننا متماسكون في مخيم جباليا ومنزلنا فيه".
وأضاف: "أنا جالس فوق ركام بيتي، وأنشأت خيمة صغيرة أستر نفسي فيها من حر الشمس، وأجلس داخلها من حبي وعشقي للمخيم".
وشدد على أنه لا يمكن أن يتزحزح من مكانه في المخيم حتى لو خيروه في أي بلد أو مكان مغرٍ في أي دولة، على حد تعبيره.
العمل على إعادة الحياة التجارية
على صعيد سوق مخيم جباليا الذي يُعدّ رمز الحياة فيه، كونه أحد أكبر الأسواق في قطاع غزة، سارع أصحاب المحال والبسطات إلى العودة إلى نشاطهم التجاري، رغم الدمار الممنهج الذي حلّ بمصدر أرزقاهم.
الشاب عبد الله السوسي مالك متجر للمستلزمات النسائية، لم يجد سبيلاً إلا إنشاء خيمة وسط سوق المخيم، وعرض بضاعته فيها، بسبب تدمير محله التجاري.
وقال السوسي لـ"عربي بوست": "نمتلك 4 محلات، دمرها الاحتلال في الاجتياح الأخير للمخيم، وخسرنا البضاعة، وذهب مالنا، وتدمرت بيوتنا، لكن رغم ذلك عدنا، وأقمنا خيمة، وباشرنا العمل مجدداً".
وأضاف: "مخيم جباليا يختلف عن بقية المخيمات، نظراً لكثافته السكانية، ما يجعل سوقه من أقوى الأسواق من حيث القوة الشرائية".
على بعد أمتار من خيمة السوسي، يقف الشاب محمد حنونة داخل محله للجوالات، بعدما أجرى عمليات إصلاح وترميم له، بسبب تضرره من الاجتياح الإسرائيلي.
قال حنونة لـ"عربي بوست: "على الرغم مما فعلته قوات الاحتلال، عدنا إلى المخيم، وعمّرناه، لأننا نحب الحياة".
وأشار إلى تعرض محله إلى ضرر كبير، وخسائر مالية، وتلف في البضاعة، بفعل القصف العشوائي.
وأضاف حنونة: "أعدنا افتتاح المحل، وجلبنا إليه ما تبقى من بضاعة نجت من القصف، وذلك لتوفير الخدمات للناس، حتى نعزز صمودهم".
ولفت إلى أن الحياة عادت إلى جباليا منذ اليوم الأول للانسحاب الإسرائيلي منه، لأن سكانه يرفضون الاستسلام.
وقال: "روحنا في مخيم جباليا، ولدنا وكبرنا فيه، ولا نستطيع التخلي عنه أبداً، وفيه روضتي ومدرستي وطفولتي كلها".
شدد حنونة كذلك على أن خيار الهجرة من جباليا مرفوض له بشكل تام، وأنه لا يفكر فيه، مشيراً إلى أنه يعيش في خيمة داخل منزله الذي تعرض نصفه للتدمير.
تحذيرات المجاعة في جباليا
وفي فبراير/شباط 2024، توقع تحليل أجراه "التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي" حدوث "مجاعة" في المحافظات الشمالية في غزة بنهاية مايو/أيار 2024، بناءً على افتراض استمرار الحرب بالشدة ذاتها، واستمرار انخفاض وصول المساعدات الإنسانية.
وأكد التحليل أن "نحو 96% من سكان غزة (2.1 مليون شخص) يواجهون مستويات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائي الحاد".
حول قلة الطعام وانعدامه في بعض المناطق بجباليا، قال المتحدثون لـ"عربي بوست" في هذا التقرير، إن "الوضع صعب جداً، خصوصاً الخضراوات والفواكه، فهي غير موجودة بتاتاً، إلا القليل جداً".
وأشاروا إلى أن "البيض غير موجود أيضاً، وإن وجد فسعره غالٍ بسبب شحه وانقطاع المساعدات".
وقالوا إن "الناس يعيشون على الخبز فقط، والقليل من المعلبات التي تسلمها منظمة الغذاء التي تقوم بتسليم العائلات كرتونة واحدة كل شهر أو 40 يوماً، وهي لا تكفيها 10 أيام".
وباستثناء توفر الخبز والطحين، فإن بقية المواد الغذائية شبه معدومة في جباليا، بحسب ما أكده المتحدثون، الذين طالبوا بنصرة أهالي شمال غزة، وإرسال المساعدات إليهم لنصرتهم، ونصرة صمودهم هناك، رغم آلة القتل الإسرائيلية.
يشار إلى أن الاحتلال الإسرائيلي يواصل عدوانه على قطاع غزة، رغم قرارين من مجلس الأمن الدولي بوقف حربه فوراً، وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع وقوع أعمال "إبادة جماعية"، وتحسين الوضع الإنساني المزري في غزة، دون استجابة، أو ضغوط دولية أو عربية ضده.
بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة للمعلومات التي تأكدنا من مصداقيتها من خلال مصدرين موثوقين على الأقل. يرجى تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو سلامتها.