منذ بداية الحرب بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر الماضي٬ قال معلقون إسرائيليون إن تل أبيب "تكافح" من أجل الحفاظ على تفوقها في معركة السردية كلما استمرت العمليات القتالية في غزة لفترة أطول؛ حيث كان من المحتم أن تتسبب حرب المدن التي تخوضها إسرائيل في قطاع غزة المكتظ بالسكان في وقوع عدد كبير من الضحايا المدنيين إلى جانب مشاهد الدمار الواسع للمنازل والبنية التحتية بفعل الغارات الجنونية، وتدهور أحوال الفلسطينيين٬ أن يؤدي كل ذلك إلى عدم حفاظ إسرائيل على سرديتها للعالم وتحويلها إلى دولة معزولة أو منبوذة٬ وفقدان أي تعاطف كانت قد حصلت عليه في بداية الحرب على الساحة العالمية.
وتقول مجلة modern diplomacy الدولية إن "معركة السردية" هي "حرب نفوذ على الرواية في جوهرها". وفي حرب النفوذ هذه، يكون هدفك استخدام جميع الوسائل المتاحة لإثارة سلوك ما يمكن التنبؤ به ويصب في صالحك. وفي سياق الصراع الدائر في غزة، بدأت إسرائيل بفقدان السيطرة على سرديتها٬ ما يؤثر على الدعم الدولي لروايتها القائلة بأن "العمليات العسكرية في غزة هي رد فعل مبرر على الهجمات التي شنتها حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر".
ما تبعات العزلة الدبلوماسية المتزايدة لإسرائيل؟
في الأشهر والأسابيع الأخيرة، تعرضت إسرائيل لعدة ضربات ونكسات دبلوماسية، مما يشير إلى أن قدرتها على التأثير في الجهات الفاعلة الأخرى على المسرح العالمي آخذة في التراجع بشكل غير مسبوق٬ كما تقول المجلة الدولية.
ويمكن القول إن القرار الذي اتخذه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان بطلب إصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت في مايو/أيار، كان بمثابة الضربة الأشد لمكانة إسرائيل الدبلوماسية الدولية منذ بدء الحرب في غزة. وتشير الاتهامات إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تتهم إسرائيل في ارتكابها في غزة، وتتضمن أفعالاً محددة تم الاستشهاد بها لكل من نتنياهو وغالانت.
بالتالي فإن أي إشارة ضمنية إلى أن إسرائيل هي الطرف المذنب والشرير في هذه الحرب هي بمثابة فوز لحماس والفلسطينيين في معركة السيطرة على السردية. وتقول مجلة "مودرن دبلوماسي" إن حركة حماس كانت تعتبر "منبوذة" إلى حد كبير على الساحة العالمية وخصيصاً في الغرب، لكن في السنوات الأخيرة وفي الحرب الجارية انقلبت الأمور، وأصبح من الواضح أن إسرائيل تواجه تهديداً وشيكاً بالعزلة الدبلوماسية والنبذ من قبل المجتمع الدولي.
مشاكل إسرائيل مع المحكمة الجنائية الدولية أعقبتها بعد فترة وجيزة حكم محكمة العدل الدولية بأنه "يجب على إسرائيل أن توقف فوراً هجومها العسكري، وأي إجراء آخر في مدينة رفح"٬ وقبول دعوى جنوب أفريقيا بالأساس ضد إسرائيل. ووفقاً للبروفيسور يوسي ميكلبيرج، الذي يكتب لمركز تشاتام هاوس، فإن "صياغة حكم محكمة العدل الدولية هو تكرار للكيفية التي ينبغي أن تدار بها الحرب أكثر من كونها حكماً على شرعيتها". وجعل حكم محكمة العدل الدولية من الصعب على إسرائيل من ملاحقة عبر السبل العسكرية من دون إثارة استهجان ورفض قطاعات واسعة من المجتمع الدولي.
وجاءت ضربة أخرى لإسرائيل في شهر مايو/أيار عندما اعترفت أيرلندا والنرويج وإسبانيا رسمياً بالدولة الفلسطينية. وفي الشهر نفسه، قالت وزيرة الدفاع الإسبانية مارجريتا روبلز إن الحرب التي تخوضها إسرائيل في غزة هي "إبادة جماعية حقيقية". ورداً على ذلك، استدعت إسرائيل سفراءها من العواصم الأوروبية الثلاث وقالت إن قرارهم يرقى إلى مستوى "مكافأة للإرهاب" على حد تعبير الحكومة الإسرائيلية. وبالنسبة لتل أبيب فإن الشكوك الأوروبية المتنامية بشأن شرعية الحرب الإسرائيلية تشكل مصدراً للقلق بشكل خاص، وذلك لأن أقرب حلفاء إسرائيل هم من الغرب٬ الذين باتوا ينبذون إسرائيل ويرفضون تصرفاتها.
العواقب التي ستدفع ثمنها إسرائيل بعد خسارتها معركة السردية
تقول المجلة الدولية إن إسرائيل باتت تستقبل النكسات واحدة تلو الأخرى٬ وأصبحت سرديتها -التي كانت مقبولة دولياً في السابق- تتحول ضدها. وفي أعقاب الهجمات التي وقعت في 7 تشرين الأول/أكتوبر، كان التركيز إلى حد كبير على الرعب الذي ألحقته المقاومة الفلسطينية بإسرائيل. وقد أعطى هذا لإسرائيل فرصة سانحة يمكنها من خلالها القيام بعمليات عسكرية في غزة مع رد فعل دولي ضعيف إلى حد ما. ومع ذلك، مع تقدم الحرب، تحولت السردية إلى التركيز بشكل أكبر على محنة الفلسطينيين ومعاناتهم أمام آلة الحرب الإسرائيلية الجنونية، الأمر الذي جعل من الصعب على إسرائيل أن تحافظ على الدعم الثابت من حلفائها وتخسر معركة الرواية.
وقد ظلت الولايات المتحدة، الحليف الرئيسي لإسرائيل، داعماً قوياً لها، ولكن الضغوط الدولية والمحلية المتزايدة تجعل من الصعب حتى على الحلفاء مثل واشنطن أن يستمروا في دعم إسرائيل من دون أي شكل من أشكال ردود الفعل السلبية.
وقبل توسيع قوات الاحتلال الإسرائيلية عملياتها في رفح، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن٬ إنه قال لنتنياهو خلال مكالمة هاتفية: "إذا ذهبتم إلى رفح، فلن أقوم بتزويدكم بالأسلحة التي استخدمت من قبل في هذه الحرب".
وبعبارة أخرى، كان الهجوم البري الكبير الذي شنه الجيش الإسرائيلي في رفح بمثابة خط أحمر بالنسبة لواشنطن. وبعد ذلك قامت إسرائيل بعمليات عسكرية في رفح٬ والتي تقول إنها "كانت ضرورية لهزيمة حماس". مع ذلك، فإن حكومة الولايات المتحدة لم تمنع جميع الأسلحة عن إسرائيل، بل جادلت بدلاً من ذلك بأن العمليات العسكرية التي يقوم بها جيش الدفاع الإسرائيلي في رفح لا ترقى إلى مستوى "هجوم كبير".
ومع ذلك، فإن حقيقة أن إدارة بايدن حاولت فرض شروط على استمرار توفير الأسلحة والذخائر تشير إلى أن حكومة الولايات المتحدة أصبحت تشعر بعدم الارتياح بشكل متزايد تجاه الوسائل والأساليب التي تستخدمها إسرائيل لتحقيق أهدافها في هذه الحرب التي قتلت أكثر من 35 ألف فلسطيني. ومع استمرار تصاعد الضغوط الدولية ضد إسرائيل، قد يجد حلفاؤها صعوبة أكبر في الحفاظ على موقف داعم لها دون تكبدهم مشاكل دبلوماسية خاصة بهم وفي داخل بلدانهم ومع شعوبهم. وهذا يمكن أن يؤدي إلى مشاكل دبلوماسية وقانونية أكبر لإسرائيل، ولكن أيضاً إلى دعم عسكري أقل.
إسرائيل خسرت وإن انتصرت في غزة
تقول المجلة الدولية إنه حتى لو حققت إسرائيل نجاحاً عسكرياً في غزة، فإنها قد تكون الخاسر الأكبر في هذا الصراع على المدى الطويل. إن نتائج الحروب سياسية بطبيعتها٬ مما يعني أن التصورات والسرديات مهمة. مما يعني أن الانتصار في معركة السرديات هو أساس حاسم للأطراف المتحاربة في أي صراع. وإذا كانت القصة التي يرويها المجتمع الدولي عن إسرائيل تصورها في صورة الشرير، فإنها سوف ستكون كذلك٬ وسوف تتكبد تكاليف دبلوماسية وسياسية واقتصادية وأمنية باهظة. ومع ارتفاع المخاطر إلى هذا الحد، فإن التنافس للسيطرة على السردية سوف يستمر حتى بعد إطلاق آخر طلقات في هذه الحرب الدائرة في غزة.