يقود إسرائيل الآن رجل يائس يتعرض لضغوط حادة ويعاني على ما يبدو من عدة متلازمات مرضية تجعله إحداها يسير على خطى لويس السادس عشر. هكذا تصف هآرتس بنيامين نتنياهو، فما تفاصيل هذا التحليل؟
"هل فقد نتنياهو الإدراك تماماً؟ ربما. لكن ربما يكون ذلك متعمداً"، جاء تحليل صحيفة هآرتس العبرية تحت هذا العنوان، في ظل النكسات المتتالية التي تعاني منها إسرائيل داخلياً وعلى المستوى الدولي في خضم حرب الإبادة الجماعية التي تخوضها ضد الفلسطينيين في غزة.
هل فقد نتنياهو "الإدراك تماماً"؟
المصطلح الذي استخدمه تحليل الصحيفة يشير إلى شخص فقد تماماً القدرة على الإدراك، فلم يعد يدري أين هو ولا إلى أين يجب أن يتجه. هذا التوصيف، بحسب الصحيفة، ليس بعيداً عن الواقع الذي يعيشه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وأصيب بهذه الحالة نتيجة لإصابته بمتلازمات نفسية وعقلية متداخلة، فأصبح يسير على خطى لويس السادس عشر ملك فرنسا، الذي شهد حكمه اندلاع الثورة الفرنسية.
إذ إن نتنياهو، حكماً على أنماطه السلوكية سياسياً، يحاول أن يغرس في نفوس الإسرائيليين أنهم "قلة من البشر الأخيار محاطين بعالم يعاديهم ويكرههم"، وأنهم "يتعرضون لحصار قاس ويواجهون خطر الإبادة"، وأنهم "ليس لديهم ما يخسرونه، وبالتالي فإن الحرب الحالية هي حرب شاملة وجودية"، بحسب تحليل هآرتس.
"لا يمت أي شيء من هذا الطرح الذي يقدمه نتنياهو للإسرائيليين للحقيقة بصلة لا من بعيد ولا من قريب"، هكذا يقول تحليل الصحيفة العبرية.
فحقيقة ما يجري هو أن إسرائيل يقودها الآن رجل (نتنياهو) يائس يتعرض لضغوط سياسية وضغوط مضادة ومصاب بمتلازمات نفسية، أولها متلازمة لويس السادس عشر.
متلازمة لويس السادس عشر
المقصود بمتلازمة لويس السادس عشر تلك العبارة التي قالها ملك فرنسا أمام البرلمان في عام 1665: "أنا الدولة والدولة أنا". والسياق الذي جاءت فيه تلك المقولة كان يتكون من عدد من العناصر؛ حالة أقرب للمجاعة يعاني منها الفرنسيون، وفساد مستشر في البلاط الملكي. حاول نواب البرلمان أن يلفتوا نظر الملك إلى خطورة الوضع على "حالة البلاد وتماسكها"، فجاء رده عليهم بأن "الدولة مجسدة في شخصه، وأنه بدونه لا توجد دولة من الأساس".
نتنياهو مصاب بهذه المتلازمة ذاتها، بحسب تحليل الصحيفة العبرية. لكن هذه الحالة التي يجسدها نتنياهو ليست وليدة الحرب على غزة وإنما ترجع إلى سنوات مضت. فعلى مدى سنوات، سعى نتنياهو لتكريس مفهوم أو زعم أن إسرائيل لا يمكنها أن تستمر في الوجود كدولة بدونه. وفي هذا السياق، حرض على القيام بانقلاب دستوري يهدف إلى إضعاف السلطة القضائية كي يحول إسرائيل إلى كيان سلطوي ديكتاتوري يتحكم فيه الرجل المتهم بالفساد وخيانة الأمانة وتلقي الرشوة للأبد.
وبالإضافة إلى متلازمة لويس السادس عشر، يبدو أن نتنياهو مصاب أيضاً بمتلازمة شاباتاي تزفي، وهو كاهن يهودي عاش أيضاً في القرن السابع عشر وكان يروج في البداية لظهور "المسيح المنقذ"، ثم تحول لاحقاً إلى الترويج لنفسه على أنه "المسيح المنقذ نفسه".
أما المتلازمة الأخرى التي يبدو أن نتنياهو يعاني منها فهي "متلازمة ستوكهولم"، التي تشير إلى تعلق "المخطوف بآسريه"، والمخطوف هنا هو رئيس الوزراء، أما آسروه فهم تحالفه اليميني المتطرف الذي يقوده نتنياهو.
لكن كاتب التحليل في هآرتس يقول إنه "لا يعتقد أن نتنياهو أسير لدى اليمين المتطرف كما يميل الكثيرين للتصديق. فهذه حجة يوظفها نتنياهو عن عمد. فهو من عين الوزراء اليمينيين المتطرفين في الحكومة (إشارة إلى إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وغيرهما)، وهو من يقودهم ولا يقوم أبداً بضبط سلوكهم أو مواجهة أفعالهم. وفي هذا السياق، نتنياهو شريك متآمر مع آسريه السياسيين لأنهم يملكون المفتاح الوحيد لبقاء تحالف هرمجدون (إشارة إلى حرب نهاية البشر)".
إسرائيل "نحو الهاوية"
هذه الشخصية المصابة بهذه المتلازمات النفسية المتداخلة وصلت إلى مرحلة خطيرة من فقدان الإدراك، وأصبحت تصطدم بالجميع ولا تثق بأحد، ولا ترى حقيقة الموقف ومدى خطورته على إسرائيل ووجودها ذاته، بحسب تحليل هآرتس.
ووصل الأمر برئيس الوزراء أن يتهم وزير دفاعه، يوآف غالانت، بالتآمر مع الرئيس الأمريكي جو بايدن للإطاحة بالائتلاف الحكومي. كما وجه نتنياهو اتهامات مباشرة للجيش والأجهزة الأمنية "بالكذب" وبأنهم لم يفشلوا فقط في تحذير الحكومة من هجوم المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول (طوفان الأقصى)، بل قال إن تقاريرهم أشارت إلى "العكس".
كان جيش الاحتلال قد اعترف، الخميس 23 مايو/أيار، لأول مرة بشكل رسمي، بأن نتنياهو تسلم منه 4 رسائل تحذيرية مختلفة قبل هجوم المقاومة الكبير على معسكرات ومستوطنات غلاف قطاع غزة. وبحسب وسائل إعلام إسرائيلية، فإن إعلان جيش الاحتلال بخصوص رسائل التحذير الموجهة إلى نتنياهو هو الإعلان الرسمي الأول له حول طبيعة المسؤولية التي يتحملها رئيس الوزراء شخصياً عن الفشل في إيقاف الهجوم الكبير.
ففي نهاية أكتوبر/تشرين الأول، نفى نتنياهو تلقي أي تحذيرات بشأن احتمال الحرب، حينها كتب في تغريدة قام بحذفها لاحقاً من حسابه على تويتر: "خلافاً للادعاءات الكاذبة، لم يتم تحذير رئيس الوزراء نتنياهو تحت أي ظرف من الظروف وفي أي مرحلة من نية الحرب من جانب حماس".
الإعلان الرسمي لجيش الاحتلال جاء كرد على طلب تقدمت به جمعية حقوقية إسرائيلية للحصول على وثائق أو طلبات أو تعليقات تم تقديمها إلى رئيس الوزراء نتنياهو أو من ينوب عنه. في الرد، اعترف الجيش الإسرائيلي أنه تم تسليم نتنياهو بين شهري مارس/آذار ويوليو/تموز 2023، أربع وثائق تحذيرية مختلفة من قبل شعبة الاستخبارات في الجيش.
نتنياهو في مواجهة الجيش
في آخر رسالة وجهها الجيش لنتنياهو في يوليو/تموز، حذر رئيس الأركان هرتسي هليفي من ضرر جسيم لحق بتماسك الجيش، وخشية من استغلال ذلك لشن هجمات، ولكن نتنياهو رفض الاجتماع مع هاليفي ومناقشة الرسالة.
نتنياهو لم يتأخر في الرد على تصريحات الجيش، وأصدر ديوانه بياناً شديد اللهجة قال فيه: "إن الادعاء بأن رئيس الوزراء تلقى تحذيراً من قسم الأبحاث في AMN بشأن هجوم محتمل من غزة هو مخالف للحقيقة. لا يقتصر الأمر على أن أياً من الوثائق لا تحتوي على أي تحذير بشأن نوايا حماس لمهاجمة إسرائيل من غزة، بل إنها تعطي تقييماً معاكساً تماماً".
وزعم مكتب نتنياهو أن "الإشارتين الفريدتين إلى حماس في الوثائق الأربع تشير إلى أن حماس لا تريد مهاجمة إسرائيل من غزة، ورد في المرجع الأول بتاريخ 19 مارس/آذار 2023 أن استراتيجية حماس تتمثل في "ترك قطاع غزة على منحدر هابط" وتركيز القتال ضد إسرائيل في ساحات أخرى. وفي المرجع الثاني بتاريخ 31 مايو/أيار 2023، تمت التوصية بانضمام إسرائيل إلى "الاتجاه الإقليمي نحو وقف التصعيد" و"اتخاذ خطوة إلى الأمام في التسوية فيما يتعلق بقطاع غزة وسيادة حماس".
ثم زاد أن "التقييم الوارد في الوثائق الذي يشير إلى أن حماس غير مهتمة بالتصعيد ومهتمة بالتوصل إلى تسوية مع إسرائيل، تمت مشاركته باستمرار من قبل جميع الأجهزة الأمنية، التي زعمت حتى إنه تم ردع حماس".
الحلقة تضيق حول إسرائيل
وفي الوقت الذي يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على قطاع غزة رغم الفشل في تحقيق أي من أهدافه العسكرية بعد 8 أشهر من الحرب المتواصلة، تجد إسرائيل نفسها في مواجهة عزلة دولية متصاعدة بصورة غير مسبوقة منذ تأسيسها على أرض فلسطين قبل 76 عاماً.
وانزلقت إسرائيل لمزيد من العزلة الدولية بعد أن خالفت ثلاثُ دول أوروبية موقفاً تنتهجه باقي دول الاتحاد الأوروبي، وأعلنت نيتها الاعتراف بدولة فلسطينية، بما يضيف لضغوط عالمية آخذة في التصاعد بالفعل على إسرائيل.
الخطوة، التي أقدمت عليها إسبانيا والنرويج وأيرلندا، الأربعاء 22 مايو/أيار، تأتي في إطار تراكم المشاكل على إسرائيل، إذ حذرت واشنطن من أنها قد تحجب بعض الأسلحة عنها إذا استمرت الحرب على غزة وفرضت كذلك عقوبات على مستوطنين ينتهجون العنف. كما تواجه إسرائيل اتهامات بالإبادة الجمعية أمام محكمة العدل الدولية واحتمال إصدار مذكرة اعتقال لرئيس وزرائها بنيامين نتنياهو من المحكمة الجنائية الدولية.
وقاوم نتنياهو لفترة طويلة فكرة حل الدولتين وزادت مقاومته لتلك الفكرة شراسة منذ أن عاد للسلطة على رأس حكومة ائتلافية مع أحزاب يمينية قومية ودينية متطرفة بنهاية 2022.
كما تصر حكومته على عدم التعامل مع السلطة الفلسطينية التي تشكلت قبل 3 عقود بموجب اتفاقات أوسلو المؤقتة للسلام وتتهمها بتصرفات عدائية كتشجيع ما تصفه تل أبيب بأنه "معاداة السامية" في الكتب المدرسية.
ووصف نتنياهو نفسه قرار الدول الثلاث بأنه "مكافأة للإرهاب"، وقال إن دولة فلسطينية ستحاول "تكرار مذبحة السابع من أكتوبر مراراً".
تداعيات على المدى الأطول
بالنسبة لنتنياهو الذي يصر على التمسك بائتلاف منقسم في زمن الحرب والذي تحملّه إسرائيل على نطاق واسع مسؤولية كارثة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فإنه يسعى إلى توظيف إعلان الدول الثلاث لتعزيز صورة التحدي في "مواجهة عالم معاد".
كان نتنياهو قد رفع تلك الراية في وجه أقوى وأهم حلفاء إسرائيل وهو جو بايدن، وزعم رئيس الوزراء الأطول بقاءً في المنصب أن الإسرائيليين "سيقفون وحدهم ويحاربون بأظافرهم" إذا لزم الأمر، في أعقاب تعليق الرئيس الأمريكي شحنة أسلحة لإسرائيل بشكل مؤقت.
يوناتان فريمان المتخصص في العلاقات الدولية في الجامعة العبرية في القدس قال لرويترز: "هذا يعزز حقاً الرواية التي سمعناها منذ اليوم الأول لهذه الحرب ومفادها أنه في النهاية لا يمكننا الاعتماد إلا على أنفسنا… وأعتقد أن هذا قد يساعد تفسير الحكومة الإسرائيلية وتوصيفها لما تفعله في هذه الحرب".
لكن الثمن الذي ستدفعه إسرائيل على المدى الطويل لاعتراضها طريق التحرك نحو إقامة دولة فلسطينية قد يكون أفدح، بدءاً من تضييع الهدف الثمين المتمثل في تطبيع العلاقات مع السعودية الذي كان الهدف الرئيسي لنتنياهو في السياسة الخارجية قبل الهجوم.
وقال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أمام لجنة بمجلس الشيوخ، الثلاثاء، إن التوصل إلى اتفاق مع السعودية يقتضي تحقيق هدوء في غزة وتعبيد "مسار موثوق به" نحو إقامة دولة فلسطينية، وأضاف: "وربما يكون… أن إسرائيل في هذه اللحظة غير قادرة أو غير راغبة في السير على هذا الدرب".
وفي الوقت نفسه، أججت صور المعاناة في قطاع غزة بعد استشهاد أكثر من 35 ألف فلسطيني في حركة احتجاجية واسعة النطاق في حرم الجامعات الأمريكية وشوارع المدن الأوروبية. وبالنسبة لكل من الإدارة الأمريكية وحكومات أخرى منها ألمانيا، وهما صديقتان تقليديتان لإسرائيل، فإن الاحتجاجات الغاضبة تكبدهما كلفة سياسية تتزايد فداحة.
ألون ليل، المدير العام السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية، وهو من المنتقدين لحكومة نتنياهو، يعتقد أن اعتراف الدول بشكل منفرد بفلسطين أقل أهمية من السياق الأوسع الذي يتضمن القضايا المقامة ضد إسرائيل وقادتها في المحاكم الدولية في لاهاي. وقال لرويترز: "إذا كان ذلك ضمن تحرك أوسع يثير الزخم وجزءاً من تحركات المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية والعقوبات على المستوطنين وغيرها، فهناك فرصة أن تلاحظ إسرائيل أن العالم موجود".