بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي في شن غارات جوية عنيفة ومتواصلة شرق مدينة رفح جنوب قطاع غزة، وذلك بعدما أمر الجيش الإثنين 6 مايو/أيار 2024، المواطنين الفلسطينيين، ومئات آلاف النازحين بـ"الإخلاء الفوري" للمناطق الشرقية للمدينة، مطالباً إياهم بالتوجه إلى منطقة المواصي. حيث نشر الاحتلال خرائط للمناطق التي اعتبرها "منطقة عمليات" له في المناطق الشرقية للمدينة.
فيما ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن قرار البدء بعملية الإخلاء في رفح اتخذه مجلس الحرب الإسرائيلي باجتماعه مساء الأحد. ووفقاً لمصادر محلية، فإن فرقتين لدى جيش الاحتلال جرى حشدهما في المنطقة الشرقية لمحافظة رفح خلال الأيام الماضية.
ولوَّحت "إسرائيل" مراراً وتكراراً بشن عملية عسكرية على مدينة رفح التي تقول الأمم المتحدة إنها تستضيف أكثر من 1.3 مليون نازح من مختلف مناطق القطاع، بدعوى "القضاء على آخر الكتائب لحركة حماس المسلحة"، وذلك بالرغم من تحذيرات داخلية وخارجية من خطورة هذه العملية وتبعاتها الكارثية. لكن يبدو أن نتنياهو مصرّ على هذه العملية بعد إفشاله شخصياً لمحادثات وقف إطلاق النار مع حماس كما كشفت ذلك تقارير إسرائيلية.
هل تخاطر "إسرائيل" بشن عملية عسكرية شاملة في رفح؟
لكن تقول صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية إن شن عملية عسكرية على رفح بطريقة أو بأخرى قد يحدث ضرراً يؤدي إلى تأجيج الغضب الدولي على "إسرائيل"، ويزيد من إضعاف علاقتها مع الولايات المتحدة، وربما يقتل بعض الأسرى الإسرائيليين الذين تعتقد "إسرائيل" أنهم محتجزون في مدينة رفح، كما سيعرّض جنودها للخطر ويكلفها الفشل في هزيمة حماس.
وتقول "إسرائيل" إنها تحتاج إلى إغلاق الحدود مع مصر لتدمير أنفاق مزعومة تحت الأرض، تستخدمها حماس لتهريب الأسلحة، رغم النفي المصري لذلك والإجراءات التي اتخذتها القاهرة منذ سنوات على الحدود. وترى تل أبيب أنه إذا تركت حماس في رفح دون عملية عسكرية، سيمكّنها من إعادة بناء قدراتها العسكرية وتشكل مرة أخرى تهديداً بعملية مثل هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول.
مع ذلك، يرى خبراء إسرائيليون مثل تامير هايمان، المدير التنفيذي لمعهد دراسات الأمن القومي، أن "الفوائد التكتيكية لعملية رفح ستفوق التكاليف، خاصة مع وجود فرصة لتطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية وبناء شراكة إقليمية يمكن أن تكون بمثابة ثقل موازن لإيران على الخط"، على حد تعبيره. وقال هايمان لصحيفة "وول ستريت جورنال": "الفوائد قليلة للغاية، خاصة إذا قارنتها بالآثار السلبية".
وازدادت حدة التصعيد الإسرائيلي في رفح مع دخول محادثات وقف إطلاق النار المحتمل مرحلة حاسمة. ويجتمع المفاوضون في القاهرة تحت ضغط شديد من الولايات المتحدة للتوصل إلى اتفاق. وقال وسطاء من مصر وقطر إن زعيم حماس في غزة يحيى السنوار أرسل رسالة مفادها أن الاقتراح الحالي هو الأقرب حتى الآن لمطالب الحركة.
ورغم التوصل إلى اتفاق بشأن العديد من التفاصيل، فإن النقطة الشائكة الرئيسية تظل هي الموازنة بين هدف حماس المتمثل في التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار مع إصرار "إسرائيل" على احتفاظها بالحق في مواصلة شن القصف والعمليات العسكرية، بما في ذلك في رفح إذا لزم الأمر، وهو ما ترفضه حماس جملة وتفصيلاً.
هل ستتحمل "إسرائيل" التكاليف الباهظة لعملية رفح التي يتجاهلها نتنياهو؟
وهدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالذهاب إلى رفح، سواء حدث اتفاق أم لا مع حماس، حيث يقول محللون إن التخلي عن عملية عسكرية في رفح يمكن أن يهدد بقاء نتنياهو السياسي. حيث يرى نتنياهو أن "الطريقة الوحيدة لتحقيق النصر في الحرب هي دخول رفح"، فيما يحثه الأعضاء المتطرفون في ائتلافه الحاكم على القيام بذلك من أمثال سموتريتش وبن غفير.
لكن التكاليف السياسية الداخلية والدولية قد تكون باهظة على "إسرائيل". فبعد سبعة أشهر من الحرب، خسرت "إسرائيل" تعاطف الكثير من حلفائها، كما خسرت معركة العلاقات العامة عالمياً بسبب استمرار حرب الإبادة الجماعية في غزة. ويحل محلها الإحباط المتزايد بشأن عدد الشهداء الفلسطينيين، الذي يبلغ الآن أكثر من 34 ألف إنسان، وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية.
وحذرت الولايات المتحدة "إسرائيل" من أي غزو لرفح دون "خطة واقعية لنقل المدنيين بعيداً عن الأذى"، على حد تعبيرها. ويقول وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إن الولايات المتحدة لم ترَ مثل هذه الخطة بعد، وتضغط على "إسرائيل" لعدم المضي قدماً في شن هجوم على رفح. وكانت إدارة بايدن مترددة في فرض عواقب على "إسرائيل"، مثل حجب المساعدات العسكرية، أو استخدام حق النقض في الأمم المتحدة، حيث إن عملية في رفح من دون موافقة الولايات المتحدة يمكن أن تجبر الإدارة على ذلك، كما تقول صحيفة "وول ستريت جورنال".
وقد تتعرض علاقة "إسرائيل" مع مصر المتوترة بالفعل، لمزيد من الضرر أيضاً. حيث سيكون القتال في المنطقة الحدودية مع مصر، مع تمركز القوات المصرية في مكان قريب، أمراً معقداً وخطيراً. وفي الوقت نفسه، فإن القتال حول السكان المدنيين المحاصرين النازحين يمكن أن يتسبب في تدفق أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء المصرية. وقد يهدد السيناريو الأسوأ معاهدة كامب ديفيد الموقعة بين الطرفين عام 1979.
كما أن صفقة التطبيع مع السعودية والتي كانت إدارة بايدن تدفع بها كجزء من صفقة شاملة لإنهاء الحرب وإعادة بناء غزة، قد تكون غير مطروحة على الطاولة، على الأقل في المدى القريب إذا شنت "إسرائيل" عملية في رفح، وقد تعني العملية أيضاً خسارة فرصة إقناع العرب مثل الإمارات بضخ الأموال إلى غزة ومساعدتها في إعادة الإعمار.
مهمة عسكرية "معقدة وخطيرة" وستحوّل "إسرائيل" لدولة منبوذة
في الوقت نفسه، فإن ارتفاع عدد الضحايا المدنيين في غزة لن يؤدي إلا إلى تآكل وضع "إسرائيل" دولياً وقانونياً وتحويلها إلى كيان منبوذ دولياً. وتشعر "إسرائيل" بالفعل بالقلق من أن المحكمة الجنائية الدولية قد تصدر أوامر اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين كبار، من بينهم نتنياهو وقادة الجيش، ومن الممكن أن تساعد عملية رفح في تعزيز ملاحقة نتنياهو ورفاقه دولياً.
وقال حسين إبيش، الباحث في معهد دول الخليج العربية ومقره واشنطن: "لقد انتهى العالم من مشاهدة الأعداد الكبيرة للضحايا الفلسطينيين. إسرائيل" ليس لديها مجال للتحرك الآن".
تقول وول ستريت جورنال إن أي عملية عسكرية في رفح ستكون معقدة وخطيرة عسكرياً أيضاً، وقد "ابتليت إسرائيل بتحدي غزة ورفح خصوصاً طوال الوقت"؛ حيث القتال في مناطق حضرية كثيفة تمتلك حماس فيها قوة عسكرية كبيرة خفية.
وتقول "إسرائيل" إن حماس لا تزال تمتلك 4 كتائب موجودة في رفح، إلى جانب آلاف المقاتلين الآخرين الذين تحركوا من شمال ووسط غزة أثناء توغل الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة.
وقال آرون ديفيد ميلر، الباحث في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي: "إن رفح صورة مصغرة لكل تحدٍّ، وكل خطر، وكل تعقيد حدث في هذه الحرب، عليك أن تفكر ملياً فيما ستخاطر به من أجل ما ستكسبه".
ويعتقد بعض المحللين الإسرائيليين إنه "كلما طال انتظار "إسرائيل" للدخول إلى رفح، كانت حماس أكثر استعداداً. ويمنح التأخير حماس الوقت لإعادة البناء وإعادة تجميع صفوفها ونصب الأفخاخ للجيش الإسرائيلي؛ مما يؤدي إلى سقوط المزيد من القتلى من الجيش الإسرائيلي بشكل كبير".
ويعتقد المحللون العسكريون أن عملية رفح ستكون الأكثر استهدافاً للجيش الإسرائيلي حتى الآن بسبب وجود عدد كبير جداً من المدنيين والضغط الدولي المكثف وخطر قتل الأسرى الإسرائيليين. لكن حتى السيناريو الأفضل سيكون قبيحاً. وقال إيهود ياري، الصحفي الإسرائيلي والباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، في واشنطن العاصمة: "لا يمكن أن تكون عملية رفح سلِسة ومرتبة ونظيفة، مهما كانت الاحتياطات التي تتخذها "إسرائيل"، حيث سيتعرض المدنيون للأذى بشكل كبير"، على حد تعبيره.