شهدت الأيام الأخيرة سلسلة أحداث تتمثل في الغارة التي استهدفت قادة في الحرس الثوري الإيراني في دمشق، وانتقام طهران لاحقاً بقصف إسرائيل بصواريخ وطائرات مسيرة -وتهديدها بفعل المزيد في حال كررت إسرائيل فعلتها- وقتل إسرائيل ثلاثة من أبناء إسماعيل هنية وثلاثة من أحفاده في غزة، وتصريح بنيامين نتنياهو بتحديد "موعد" للهجوم على مدينة رفح، التي تضم معظم النازحين من الحرب، وكلها تقود إلى نتيجة حتمية: أن التهور هو السائد، وأنه أصبح السياسة المفضلة لدى نتنياهو لتوسيع نطاق الحرب والهروب من المشاكل نحو مشاكل أكبر منها.
نتنياهو يؤمن بإعادة توجيه الوسائل العسكرية بالكامل لتحقيق أهداف سياسية
تقول صحيفة Haaretz الإسرائيلية إن كل هذه الأحداث، من الناحية الاستراتيجية، لا تحقق شيئاً لإسرائيل، وهي أيضاً تُظهر الخلل الأساسي خلال الأشهر الستة الماضية بخصوص غزة، والعقد الماضي بخصوص إيران: غياب كامل للاستراتيجية وإعادة توجيه الوسائل العسكرية بالكامل لتحقيق أهداف سياسية.
وقال نتنياهو عن هجوم رفح في جنوب غزة: "لن يتحقق النصر الكامل دون عملية في رفح، وسنحدد موعداً لها". وليس واضحاً إن كان هذا التصريح همهمة رجل مضطرب مرتبك منفصل عن الواقع، أو دجال مغرور، أو سياسي يائس يحاول كسب الوقت باسترضاء شركائه المتطرفين في التحالف الذين هددوه. أو ربما كان تصريحاً استشرافياً من رجل له مصلحة قوية في إطالة أمد الحرب إلى أجل غير مسمى، ويخطط في الواقع لعملية في رفح خلال شهر أو شهرين.
وتبدو أحدث تصريحاته الملتوية عن مواصلة الحرب وكأنها مزيج بين الجنرال كيرتس ليماي في الحرب العالمية الثانية، والجنرال وليام ويستمورلاند حين تولى قيادة القوات الأمريكية في فيتنام من عام 1964 إلى عام 1968 كما تقول هآرتس.
فكان الأول يحب القصف، وقصف طوكيو عام 1945 وكوريا الشمالية عامي 1950 و1951 بكميات ضخمة من القنابل الحارقة، وحينها دعا ليماي إلى استخدام الأسلحة النووية، وربما على الصين أيضاً. ولجأ ويستمورلاند إلى حرب استنزاف تقوم على "أعداد الجثث" في فيتنام، ثم تجاهل كل المعلومات الاستخبارية، وحاول إقناع أمريكا بأن النصر وشيك.
نتنياهو والوعود العسكرية الكاذبة لتحقيق أهداف شخصية
لكن نتنياهو ليس قائداً عسكرياً، ففي الظاهر هو رئيس وزراء مكلف بوضع استراتيجية، وليس تقديم وعود عسكرية كاذبة لها دوافع سياسية، سواء عن رفح أو تدمير إيران. ويعود هذا بالطبع إلى غياب الاستراتيجية والأهداف السياسية الواضحة.
يقول كارل فون كلاوزفيتز في كتابه "عن الحرب" الذي صدر عام 1832: "كلما ازدادت السياسة طموحاً وقوة تصبح الحرب كذلك. ومن المعروف جيداً بطبيعة الحال أن الحرب تنشأ من السياسة، أي التفاعل بين الحكومات والشعوب. ونرى أن الحرب في الأساس امتداد للعلاقات السياسية، ولو كانت الحرب أحد مكونات السياسة فالسياسة هي التي تملي طبيعة الحرب. وبينما تصبح السياسة أكثر طموحاً وقوة، كذلك تصبح طبيعة الحرب. فالسياسة إذاً هي القوة الموجهة، والحرب مجرد أداة، وليس العكس".
على أن نتنياهو فعل العكس من أجل منفعة سياسية، ولغياب رؤية متماسكة. والشيء المشترك بين عمليتي الاغتيال أنهما كانا بدافع الانتقام ولأسباب رمزية، على أن قيمتها ضئيلة، وادعى نتنياهو أنه (ووزير دفاعه) ليس لديهما أي فكرة عن اغتيال أبناء هنية، وقال مسؤولون مجهولون إن "عقيداً هو من أصدر الأمر بتنفيذها". وهذا ليس مثالاً على تفويض سلطة، ولكن على الخلل في هيكل القيادة والسيطرة، فلا يُنتظر من عقيد أن يدرس الآثار المترتبة على العواقب الأكبر لإجراء كهذا.
وإلى جانب اغتيال الجنرال في الحرس الثوري محمد رضا زاهدي وخمسة آخرين في مبنى تابع للسفارة الإيرانية في دمشق، فالحدثان ينطويان على احتمالات تصعيد كبيرة، والعمليتان تتطلبان تحليل التكلفة والعائد على أساس الفوائد الملموسة والتكاليف غير الملموسة، ومن المشكوك فيه أنه تم العمل بهذا المبدأ التخطيطي البسيط.
نتنياهو يريد لنطاق الحرب أن يتسع للخروج من مأزقه
ويعتبر الرد الإيراني على إسرائيل، ليلة الأحد 14 أبريل/نيسان، على اغتيال زاهدي ورفاقه، الأول من نوعه الذي تنفذه طهران من أراضيها وليس عبر الحلفاء، حيث يقول مسؤولون إسرائيليون إن إيران أطلقت 185 طائرة بدون طيار، و36 صاروخ كروز، و110 صواريخ أرض أرض، على "إسرائيل".
وقال كبير المتحدثين العسكريين الإسرائيليين إن إسرائيل اعترضت معظم الطائرات بدون طيار، وصواريخ كروز، والصواريخ الباليستية التي أطلقتها إيران "ببعض المساعدة" من حلفائها.
فيما قال مسؤولون أمريكيون إن الأضرار التي لحقت بإسرائيل وفق التقييم الأولي محدودة نسبياً، نظراً لحجم الهجوم، مشيرة إلى أن معظم عمليات الإطلاق كانت من إيران، وأن جزءاً صغيراً منها من اليمن والعراق. وقال الجيش الأمريكي إنه أسقط بعض الطائرات بدون طيار والصواريخ التي أطلقتها إيران على إسرائيل، في حين أكد حلفاء آخرون دعمهم لتل أبيب، أو تعهدوا بالمساعدة في الدفاع عنها.
ويعد تأكيد الرئيس الأمريكي جو بايدن المتكرر بالوقوف إلى جانب إسرائيل في حالة نشوب مواجهة مفتوحة مع إيران، وكذلك تأكيد وزير الدفاع لويد أوستن، تعبيراً عن دعم هائل. وقد أعرب بايدن عن هذا الدعم مبكراً، في خطابه الذي ألقاه في 10 أكتوبر/تشرين الأول، حين حذر علناً بشكل قاطع "إياكم". فقد حذر إيران (وحزب الله) بشكل غير مباشر وضمني من التصعيد، وأتبع ذلك بإرسال مجموعتين هجوميتين من حاملات الطائرات إلى البحر المتوسط.
أما هذه المرة، فإرسال بايدن رئيس القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال مايكل كوريلا، إلى إسرائيل، لأغراض "تنسيق"، قد يكون تعبيراً عن انعدام الثقة في قدرة إسرائيل على اتخاذ قرارات حكيمة.
فحين تفشل لسنوات في صياغة سياسة مع إيران تتعدى التصريحات الرنانة وأجراس الإنذار التي تصم الآذان، وحين ترفض تحديد الخطوط العريضة لاستراتيجية ما بعد الحرب في غزة، فجودة قراراتك ودوافعك ستصبح موضع شك لا محالة. وربما يكون الاستنتاج أن التهور، وليس الحكمة، هو السياسة السائدة في إسرائيل، كما تقول صحيفة هآرتس.