تعد المعالم الأثرية والتاريخية في محافظة مأرب (شمال شرق اليمن)، مصدر جذب للزوار في شهر رمضان، حيث يرتادها اليمنيون القاطنون في هذه المحافظة ومحافظات أخرى، للاستئناس بجوارها، واستكشاف الحضارة التي كانت سائدة في قرون غابرة.
من بين هذه المعالم آثار أوام وبرآن" اللذان يحظيان بأهمية تاريخية، وقيمة ثقافية، في هذه المدينة، التي كانت قد شهدت أقدم الحضارات في تاريخ اليمن، والعالم، وهي "مملكة سبأ".
لعل الاهتمام بزيارتها في الشهر الفضيل، يعود إلى ذكر ملكة مملكة سبأ في القرآن الكريم، على الرغم من الجدل التاريخي المرتبط بمملكة سبأ، إن كانت قد قامت على أرض مأرب في اليمن أم إثيوبيا.
أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "يونيسكو" في يناير/كانون الثاني 2023، معالم مملكة سبأ في مدينة مأرب، على قائمة التراث العالمي والتراث العالمي المعرض للخطر.
اعتبرت هذه الخطوة أنها "إنجاز كبير يُعدّ شاهداً على عمق وأصالة وعالمية القيم الحضارية التي مثلتها مملكة سبأ القديمة، بما تحتويه من أهمية عالمية استثنائية، وتقديراً من أعلى هيئة ثقافية عالمية لتاريخ اليمن، وحضارته القديمة"، وفق ما ذكره بيان عن البعثة اليمنية لدى اليونسكو حينها.
تشمل هذه المعالم "مدينة مأرب القديمة، وسد مأرب القديم، بملاحقه، ومعبدا أوام وبرآن، ومدينة صرواح ومعبدها".
معبد برآن
قال مبخوت مهتم، مدير مكتب الآثار بمأرب، وأستاذ الآثار في جامعتي صنعاء ومأرب، إن معبد برآن، يُعدّ الموقع الأثري الثالث أهمية بين آثار اليمن، بعد معبدي أوام وحرونم".
أضاف مهتم لـ"عربي بوست"، أن معبد برآن يقع على بعد 1400 متر إلى الشمال الغربي من محرم بلقيس (واحدة من ملكات سبأ)، وهو معبد سبئي كرّس لإله القمر "إلمقه"، ويُعرف محلياً بـ"العمايد".
ظل المعبد حتى عام 1988، تغطيه كثبان الرمال المحيطة به، إلى أن كشفت عن تفاصيله المدفونة تحت الرمال نتائج التنقيب الأثري، فوجد أنه يتألف من وحدات معمارية مختلفة، أهمها "قدس الأقداس"، والفناء الأمامي وملحقاتهما، مثل "السور الكبير المبني من الطوب، والمنشآت التابعة له".
مدير مكتب الآثار في مدينة مأرب، تابع: "تطورت العناصر المعمارية لمعبد برآن في حقب زمنية مختلفة، منذ مطلع الألف الأولى قبل الميلاد"، مشيراً إلى أن المعبد مكوّن "من وحدة معمارية متناسقة، يتقابل فيها المدخل الرئيس والساحة، مع المدرج العالي، بشكل يوحي بالجمال وعظمة المنجز".
لفت كذلك إلى أن معبد برآن، شهد عملية ترميم واسعة، وعلى مدى 4 مواسم متتالية، ابتداءً من عام 1997م إلى 2000، من قبل المعهد الألماني للآثار.
بهذا أصبح المعبد مهيأً لاستقبال السياح، مؤكداً الأكاديمي اليمني، أن بناء هذا المعبد مرّ بمرحلتين أساسيتين، الأولى: "من نهاية الألف الثانية حتى بداية الألف الأولى قبل الميلاد"، والثانية: "بدأت عام 850 قبل الميلاد".
أضاف أن معبد برآن صمم على "شكل مربع"، وله مساحة مكشوفة تتوسطها البئر المقدسة، وحوض ماء حجري يصل إليه الماء بواسطة مصب من فم الثور المقدس.
فيما "القاعة محاطة بعدد من الجدران من الشمال والغرب والجنوب، وينتصب أمام الجدار الغربي عدد من المقاعد المرمرية، وتوجد 12 درجاً تؤدي إلى 6 أعمدة بقي منها 5، والسادس مكسور، وكلها ذات تيجان مزخرفة بالمكعبات".
بحسب المسؤول الحكومي، فإن العمود الواحد يزن 17 طناً و350 كغم، ويبلغ طوله 12 متراً وسمكه 80×60 سم.
يحيط بساحة معبد برآن المقدسة، وفقاً للأكاديمي اليمني، "سور مبني من اللبِن (الطين) وله أبراج، ويقع باب المعبد في الجهة الشمالية".
معبد أوام وحرم بلقيس
أما معبد أوام، فأكد مسؤول الآثار في مأرب، أنه هو ذاته "حرم بلقيس"، وجرى تسميته شعبياً بمعبد أوام، كما ورد في نقوش المسند "ثهوان بعل أوام".
يقع معبد أوام على مسافة 10 كلم في الضاحية الجنوبية من مدينة مأرب، عاصمة مملكة سبأ، التي وصفها بـ"عمود التاريخ اليمني القديم"، وكانت تتحكم بطرق التجارة القديمة، وفق قوله.
ذكر أستاذ الآثار أيضاً، أن معبد أوام كان مكاناً مقدساً تمارس فيه العبادات، وتقام فيه الشعائر وأهمها الحج.
وقال إن شكله البيضاوي يوحي بأنه مخصص لعملية الطواف، وتقديم القرابين، إلى بداية النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي.
تابع أن "المعلومات العملية تدل على أن هذا المعبد قد شُيّد لأول مرة في القرن الخامس عشر قبل الميلاد"، ولا يستبعد الباحثون تاريخاً أقدم من ذلك لإنشائه.
أوضح مبخوت مهتم، أن "معبد أوام" يتكون من سور مبني بالأحجار المهندمة من الصخور الكلسية، يبلغ طولها حوالي 7 و52 سنتيمتراً بسماكة تتراوح من 3 إلى 5 أمتار، يتوسطه فناء بطول 52 متراً، وعرض 24 متراً، وضعت فيه 8 أعمدة.
أما المدخل لهذا المعبد، فيقع في الجهة الشمالية الشرقية من السور.
وقال إن معبد أوام، كما تشير المصادر التاريخية والأثرية، المعبد الرئيسي للإله "إلمقه" وهو "إله الدولة" وكان يُعرف أيضاً بـ"إله القمر".
بيّن الأكاديمي اليمني في الآثار، أن المعبد يحتل مكانة مميزة بين بقية معابد "الإله إلمقه" في اليمن القديم، متابعاً قوله: "كان الناس يحجون إليه من مختلف أنحاء الجزيرة العربية".
يتميز معبد أوام، وفقاً للمتحدث ذاته، بكثير من المميزات المعمارية والهندسية، فضلاً عن مكانته الدينية في تلك الحقبة، إذ يحتوي على "أكبر مكتبة تاريخية من النقوش اليمنية القديمة ذات المجالات السياسية والدينية، وغيرها".
أكد مدير مكتب الآثار في مدينة مأرب، أن "معبد أوام" لا يزال يحمل الكثير من الأسرار العلمية تحت كثبان الرمال التي ما زالت تغطي مجمل القطاعات المعمارية فيه، التي بعد الكشف عنها ستغير في الكثير من الحقائق العلمية فيما يخص تاريخ اليمن القديم خصوصاً، والعرب بشكل عام، وفق قوله.
"أهم وأكبر المعابد"
من جانبه، قال الخبير والأكاديمي اليمني في الآثار، علي مبارك بن طعيمان، إن معبد أوام يُعدّ "أحد أهم وأكبر المعابد في الجزيرة العربية على الإطلاق".
تابع في حديثه لـ"عربي بوست"، أن "هذا المعبد سبق تقديس موقعه قبل بنائه، بمعنى أنه بني على أرض مقدسة، واسمه أوام".
أضاف أن هذه التسمية جاءت من الإيواء والمأوى والملجأ، وهو المعبد الوحيد الذي تعود بدايات تأسيسه إلى نهاية الألف الثانية قبل الميلاد، ويقع على الضفة الجنوبية من واحة مأرب، المعروفة بالجنة الجنوبية التي وردت في الكتابات القديمة باسم (أبين).
"سور بيضاوي"
أشار الخبير اليمني في الآثار، إلى أنه جرى بناء المعبد على الطراز المعماري المميز، حيث "يتألف من سور بيضاوي الشكل، وله بوابة من الاتجاه الشمالي، وهي البوابة التي فتحت في فترة متأخرة من القرون الميلادية الأولى".
في الجهة الشرقية من المعبد من السور البيضاوي، تقع "قاعة الأعمدة الضخمة مستطيلة الشكل، متشكلة من الداخل بالعديد من الزخارف، ممثلة على شكل نوافذ في الجدران الداخلية".
أفاد الأكاديمي بن طعيمان، أن هناك بوابتين ضخمتين فتحتا في قاعة الأعمدة، الأولى هي البوابة المعروفة باسم بوابة "الملك علهان نهفان"، وتعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد.
أما البوابة الأخيرة، فهي بوابة "الملك عمدن بين يهقبض"، وهي ضخمة، وفتحت في القرن الأول الميلادي، وفق المصدر ذاته.
من أبرز سمات وخصائص معبد أوام، قال خبير الآثار اليمني إنه يتصل بطريق عرف باسم "مسبأ أوام"، يربط ما بين مدينة مأرب القديمة عاصمة مملكة سبأ وما بين معبد أوام بطول حوالي 4 كم، وهو طريق كان يتم فيه دخول الحجيج من المدينة إلى المعبد في شهر ذي أبهي، من كل عام، الذي يقابله شهر ذي الحجة في الفترة الحالية.
أضاف أن هذا الطريق كان يتم تنصيب الملوك عليه، وذهابهم من المدينة إلى المعبد.
بحسب بن طعيمان، فإن هناك مقبرة للمعبد، خصصت لكبار رجال الدولة والدين، وتعرف بـ"المقبرة المقدسة".
"أهم المعابد القديمة"
أما معبد برآن، فأكد الخبير والأكاديمي بن طعيمان، أنه يمثل أحد أهم المعابد القديمة في واحة مأرب المعروفة بـ"أرض الجنتين".
يقع المعبد على بعد 3.5 كلم إلى الجهة الجنوبية من مدينة مأرب، وعلى الضفة الجنوبية من وادي ذنه، الذي أقيم عليه سد مأرب.
قال كذلك إن معبد برآن يقع ضمن أراضي الجنة الجنوبية المعروفة باسم "أبين"، وعلى مقربة من معبد أوام على بعد نحو كيلومتر واحد.
يضم معبد برآن "6 أعمدة" هي الأطول بين معابد الجزيرة العربية بشكل عام.
لفت أيضاً الأستاذ المشارك في جامعتي صنعاء والملك سعود، إلى أن المعبد يتميز بوجود الطاولات الحجرية التي كانت تقام عليها ولائم تقديم القرابين "للإله إلمقه" الإله الرئيس عند السبئيين.
كما أنه يحوي بئراً مقدسة عرفت باسم "نبط"، وفق الأكاديمي بن طعيمان، إذ تقع البئر شمال غرب منصة الأعمدة، ولها أكثر من حوض ووضع فيها ميزاب على شكل رأس ثور (أنبوب يحمل ماء المطر كانت تزين بوجوه وحشية لإخافة الأرواح الشريرة بحسب بعض المعتقدات).
آثار أوام وبرآن.. "مقصد ومتنفس خلال رمضان"
من جهته، قال الصحفي والناشط اليمني، محمد حفيظ، لـ"عربي بوست"، إن المواقع التاريخية في مأرب، مقصد ووجهة سياحية خاصة لدى الشباب من النازحين والسكان خلال نهار رمضان.
أضاف أن الزوار "يقضون وقتاً خلال النهار في رحلة اكتشاف لأول مرة أو تشبع لمرة أخرى للمكان، من خلال زيارتهم إلى مواقع مثل معبدي أوام وبرآن، وهما الموقعان الأشهر تاريخياً في محافظة مأرب واليمن عموماً".
عن الموقعين أيضاً، أكد أنهما يُعدّان متنفساً ومزاراً مهماً للجميع، بما فيهم زوّار محافظة مأرب من المحافظات الأخرى، ومقصداً أول في جدولهم المعرفي.
بحسب الصحفي اليمني، فإنه في هذه الأيام من رمضان، تشهد تلك المواقع زيارات واسعة من الناس، وإنه بشكل ملحوظ تتزايد تلك الزيارات في تلك المواقع رغم انعدام الخدمات، ومواقع الاستظلال والاستراحة.
لكنه قال إنها تظل مواقع مكشوفة، تتمتع بلمسة الطبيعة، كما تركتها أيادي من بناها.
أشار كذلك إلى أنه في ظل وجود كثيف للشباب والنازحين بمحافظة مأرب التي تواجه شحاً كبيراً في المتنفسات العامة، تصبح المواقع التاريخية والأثرية مقصد الزوّار، ومتنفساً لقضاء الأوقات خارج زحام المدينة.
لفت إلى أن هذه الزيارات وارتياد تلك المواقع التاريخية، تمنح الشباب اليمني والأجيال "معايشة تاريخهم، وفهمه، واكتشاف حضارتهم السابقة، ومراحل تطورها عبر العصور".
يشار إلى أن اليمن يزخر بمخزون حضاري ثري، ومعالم أثرية عريقة، إلا أنه عاجز عن تحويل المخزون الحضاري والثقافي إلى مصدر جذب للسياحة، بسبب الحرب المستمرة فيه منذ 2014، والأزمات السياسية والاقتصادية.