ستشهد أجواء أوكرانيا واحدةً من أكثر المعارك الجوية إثارة منذ عقود بين مقاتلة غربية قديمة لكنَّها قوية للغاية، وواحدة من أكثر المقاتلات الروسية تقدماً، المعركة بين مقاتلة إف-16 (F-16 Fighting Falcon) ومقاتلة سو-35 (Sukhoi-35).
وسيكون ذلك أكبر من مجرد صدام بين مقاتلات كما تقول مجلة Popular Mechanics الأمريكية، إذ ستكون معركة فلسفات بين المفهوم الروسي للمقاتلات المُطوَّرة من أجل القتال الجوي، في مقابل المفهوم الغربي للمقاتلات النفاثة الماهرة بنفس القدر في القتال جو-جو وجو-أرض.
وهي أيضاً معركة بين القديم والجديد، فمقاتلات F-16 التي ستحصل عليها أوكرانيا من دول أوروبية صُمِّمَت في السبعينيات، ولو أنَّها خضعت لتطويرات مكثفة على مدار السنوات.
مع ذلك، سيكون من دواعي سرور أوكرانيا، التي هي في أمس الحاجة لاستبدال أسطولها المتضائل من مقاتلتي سوخوي Su-27 وميغ MiG-29 اللتين تعودان للحقبة السوفييتية، الحصول على 45 أو أكثر من مقاتلات إف-16 المستعملة من بلجيكا والدنمارك وهولندا والنرويج، التي بدورها تستبدل مقاتلاتها من هذا الطراز بأخرى من طراز إف-35.
ويخضع الطيارون الأوكرانيون حالياً للتدريب في الولايات المتحدة وبلدان أخرى، وقد تُحلِّق أولى طائرات إف-16 التي يقودها طيارون أوكرانيون هذا الصيف.
بالأرقام.. مقاتلة إف-16 في مواجهة مقاتلة سو-35
قامت مقاتلة سوخوي-35 بأولى مشاركاتها القتالية خلال التدخل الروسي في سوريا عام 2016. لكنَّ الحرب في أوكرانيا تمثل الانطلاقة الحقيقية للمقاتلة سو-35 في مواجهة خصم مُسلَّح بمقاتلات حديثة وصواريخ مضادة للطائرات.
والمقارنة بين إف-16 وسو-35 ليست سهلة، فطائرة إف-16 هي مقاتلة تنتمي للجيل الرابع، ودخلت الخدمة في أواخر السبعينيات، جنباً إلى جنب مع مقاتلتي Su-27 وMiG-29 السوفييتيتين. وتُعتَبَر سو-35 جزءاً من مقاتلات الجيل 4.5، وهي مقاتلات جيل رابع مُطوَّرة جرى تقديمها في أواخر التسعينيات، وتشمل مقاتلات مثل تايفون Typhoon، والرافال Rafale، وميغ-35.
وقدَّم سلاح الجو الروسي أداءً سيئاً رغم التفوق العددي والتكنولوجي في أوكرانيا، لكنَّ الضربات الجوية الأخيرة باستخدام القنابل الانزلاقية دمرت الدفاعات الأوكرانية.
المقاتلة إف-16 "الأفعى" وسو-35 "حامية الجناح"
جرى تصميم المقاتلة إف-16 (التي يشيع تسميتها بـ"الأفعى") نتيجة الإحراج. فخلال حرب فيتنام فشلت أقوى دولة في العالم في سحق القوة الجوية الصغيرة لشمال فيتنام. وكان السبب هو أنَّ الجيش الأمريكي كان يستخدم طائرات مثل F-4 Phantom، وهي مقاتلة قوية لكنَّها ثقيلة وكانت مُصمَّمة في الأساس لاعتراض القاذفات السوفييتية وليس القتال الجوي القريب (Dogfighting) مع مقاتلات الميغ الرشيقة.
وكانت النتيجة هي ظهور واحدة من أكثر المقاتلات الحديثة إنتاجاً، والتي أُنتِجَ منها أكثر من 4600 نسخة منذ عام 1976، وتستخدمها 25 دولة والعدد في ازدياد. وقد شهدت أيضاً المشاركة في عمليات قتالية أكثر من معظم المقاتلات الحالية، خصوصاً من جانب سلاحي الجو الأمريكي والإسرائيلي.
يبلغ طول "الأفعى" نحو 50 قدماً (15.2 متر تقريباً)، وتبلغ المسافة بين جناحيها 33 قدماً (10 أمتار تقريباً)، وتزن نحو 10 أطنان. ويمكنها بلوغ سرعة 2 ماخ (ضعف سرعة الصوت)، وهي ذات قدرة عالية على المناورة، ومُسلَّحة بمدفع عيار 20 ملم بالإضافة إلى 11 نقطة تعليق لحمل الأسلحة وخزانات الوقود الخارجية القابلة للإسقاط، إلى جانب أجهزة للتشويش على الرادارات وتحديد الأهداف الأرضية للذخائر دقيقة التوجيه.
وسيعتمد التسليح الدقيق لمقاتلات إف-16 الأوكرانية على ماهية الذخائر التي ستوافق الولايات المتحدة وأوروبا على إرسالها، لكنَّ المقاتلة قوية بنفس القدر في مهام القتال جو-جو وجو-أرض. فإلى جانب صواريخ AIM-120 متوسطة المُوجَّهة بالرادار وصواريخ AIM-9 Sidewinder المُوجَّهة بالتتبع الحراري للهدف، يمكن للمقاتلة أيضاً حمل قنابل JDAM الانزلاقية وصواريخ HARM المضادة للرادارات، وربما كذلك صواريخ أوروبية طويلة المدى مثل صواريخ Storm Shadow البريطانية. وتُعَد صواريخ AIM-120 (المعروفة أيضاً باسم AMRAAM) ذات أهمية خاصة لأنَّها تملك تقنية "أطلق وانس" التي تجعل الصاروخ يتتبّع الهدف تلقائياً.
لكنَّ التنوع في كل الأمور يعني قدرة أقل على فعل أي أمر من هذه الأمور. يقول برين تانيهيل، الطيار السابق في البحرية الأمريكية: "يمكنك استخدام إف-16 في مهام جو-جو، لكنَّها لن تكون بجودة المقاتلة إف-15. ويمكنك استخدامها لمهام الدعم الجوي القريب، لكنَّها لن تكون بجودة المقاتلة A-10. ويمكنك استخدامها للقيام بالهجوم الأرضي، لكنَّها لن تكون بجودة المقاتلة F-15E Strike Eagle… إنَّها طائرة جيدة للقيام بكل شيء تقريباً، لكنَّها ليست الأفضل في أي شيء".
أمَّا المقاتلة سو-35 فلها تاريخ معقد، فهي تنحدر من المقاتلة سو-27 التي ظهرت في أواخر السبعينيات (الاسم الكودي لها لدى الناتو هو "Flanker" أو حامية الجناح)، وهي طائرة تفوق جوي مُصممة لقتال جو-جو، وكان الهدف منها أن تكون الرد السوفييتي على مقاتلة إف-15.
جرى تصميم سو-35 في مطلع الثمانينيات لتكون نسخة أكثر قدرة على المناورة من المقاتلة سو-27 Flanker (لذلك تُعرَف باسم "Flanker-E" أو "Super Flanker"). وبعدما اختبر مصنع الطائرات الروسي "سوخوي" نماذج أولية متنوعة في العهدين السوفييتي والروسي، تبلورت مقاتلة سو-35 بشكلها الحالي في مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين باعتبارها نسخة مُحسَّنة من سو-27 وذات بعض القدرات في قتال جو-أرض تجعلها أقرب للمقاتلة القاذفة مثل إف-16.
وتتقزَّم إف-16 أمام سو-35، إذ يبلغ طول Su-35 نحو 72 قدماً (22 متراً تقريباً) وتبلغ المسافة بين جناحيها 50 قدماً (15.2 متر تقريباً)، وهي أكبر بنحو 50% من F-16. وتزن المقاتلة أكثر من 18 طناً، أي ضعف حجم "الأفعى" تقريباً. وهي مُسلَّحة بمدفع من عيار 30 ملم، بالإضافة إلى 12 نقطة تعليق قادرة على إطلاق مجموعة من ذخائر جو-جو وجو-أرض. وما يثير قلق أوكرانيا والغرب على وجه الخصوص هو صواريخها من طراز R-37 وR-77 جو-جو بعيدة المدى والمُوجَّهة بالرادار، وهي من نوعية صواريخ "أطلق وانس" التي يمكنها إسقاط الطائرات الأوكرانية من خارج مدى صواريخ جو-جو الأوكرانية.
نظرة أعمق.. من تتغلب على الأخرى؟
هنالك العديد من الطرازات لمقاتلة إف-16، بما في ذلك "بلوكات" مختلفة من أفاعي سلاح الجو الأمريكي، فضلاً عن بعض الطرازات المخصصة لبلدان مثل إسرائيل. وأحدث الطرازات هي F-16 بلوك 70، المزود برادار المسح الإلكتروني النشط APG-83، ومحرك مُطوَّر، وخزانات وقود امتثالية.
لكنَّ طائرات إف-16 الدنماركية والهولندية التي جرى التعهُّد بمنحها لأوكرانيا هي طرازات تعود إلى حقبة الحرب الباردة، وهي طائرات أوروبية من طراز F-16A وF-16B تعود لأواخر السبعينات وجرت ترقيتها في منتصف التسعينيات بخصائص مثل الملاحة بنظام تحديد المواقع العالمي GPS والقدرة على إطلاق صواريخ AIM-120.
مقاتلة سو-35 ذات قدرة أكبر على المناورة
في العادة تكون المركبة الأصغر أكثر قدرة على المناورة من المركبة الأكبر، لكن في المقاتلات النفاثة الأمر ليس بتلك السهولة. فهنالك العديد من العوامل التقنية، مثل حمولة الجناحين (الأفضلية لـF-16)، ومعدل الدفع إلى الوزن من أجل التسارع السريع (الأفضلية لـSu-35).
غير أنَّ اللافت هو أنَّ المقاتلة سو-35 تُعتَبَر "فائقة المناورة"، إلى حدٍّ كبير بسبب استخدامها نظام "توجيه الدفع"، والذي يستخدم فوهات قابلة للتوجيه من أجل توجيه قوة دفع المحرك. لا توجد هذه القدرة إلا في عدد قليل من الطائرات، بما في ذلك المقاتلة F-22، وتستخدمها مقاتلة سو-35 لأداء "مناورة الكوبرا" المذهلة، حيث يُبطّئ الطيار السرعة فجأة ويقف على ذيل الطائرة، ما يجبر طائرة العدو خلفها على تجاوز الهدف.
وفي حين أنَّ مناورة الكوبرا مثيرة للإعجاب في الاستعراضات الجوية، فإنَّها تحرم الطائرة من السرعة والطاقة، وهو أمر سيئ في النزالات الجوية، لكنَّ المشكلة الحقيقية هي أنَّه في حين أنَّ المناورة كانت مشكلة في الحرب العالمية الثانية أو حرب فيتنام، فإنَّها ليست عاملاً رئيسياً في القتال الجوي الحديث. والاتجاه الحالي هو أن تعمل المقاتلات الحديثة باعتبارها قناصات جوية تُسقِط ضحيتها وهي مُتخفّية بصواريخ جو-جو بعيدة المدى لا يرصدها العدو إلى أن يفوت الأوان.
سو-35 قناصة أفضل
لسوء حظ أوكرانيا فإنَّ المقاتلة سو-35 فتاكة في القتال الجوي خارج مدى الرؤية وكذلك في النزالات الجوية القريبة. فأولاً قد ترصد المقاتلة سو-35 المقاتلة إف-16 قبل أن ترصدها الأخيرة، إذ تفيد شركة Tikhomirov المُصنِّعة لرادار Ibris-E الموجود بالمقاتلة الروسية بأنَّه يمكنه رصد الأهداف الجوية على بعد يصل إلى 400 كم، بالرغم من كونه أقل تطوراً من رادارات المسح الإلكتروني النشطة المُستخدَمة في العديد من المقاتلات الغربية، بما في ذلك أحدث نماذج F-16 بلوك 70 و72.
غير أنَّ أوكرانيا لن تحصل على مقاتلات إف-16 مزودة بتلك الرادارات. بل ستحصل على طرازات مزودة برادار يوفر مسحاً أبطأ وفي اتجاه واحد فقط في المرة الواحدة، وليس مسحاً في اتجاهات متعددة في الوقت نفسه.
وتملك سو-35 -على الورق- صواريخ أفضل. إذ يُقدَّر نطاق رصد الهدف لدى الصاروخ R-37 بـ400 كيلومتر، في حين يبلغ النطاق لدى صاروخ R-77-1 نحو 110 كيلومترات. وهذه الصواريخ ذات التتبع النشط التي تعمل بتقنية "أطلق وانس" تنطلق نحو حرم الهدف، ثُمَّ تستخدم نظام التوجيه بالرادار الموجود على متنها لتتبعه حتى إصابته.
تُعَد فاعلية هذه الصواريخ عند هذه المديات البعيدة للغاية موضع تشكيك، لكنَّ Su-35 كانت فتاكة في مواجهة المقاتلات الأوكرانية الأقدم.
وقد وافقت الولايات المتحدة على تزويد مقاتلات إف-16 الأوكرانية بصواريخ AIM-120 جو-جو المتقدمة متوسطة المدى. ويُقدَّر مدى آخر نسخة من الصاروخ AIM-120D بنحو 100 ميل (161 كم تقريباً)، وهو ما من شأنه أن يتجاوز مدى الصاروخ R-77 لكن ليس R-37. وقالت الحكومة الأوكرانية، في سبتمبر/أيلول 2023، إنَّ صواريخها من طراز AMRAAM ستملك مدى بين 160 إلى 180 كم، وهو ما يشير إلى الإصدار AIM-120D.
الخلاصة
ستعتمد نتيجة النزال الصاروخي بعيد المدى بين مقاتلتي إف-16 وسو-35 على الكثير من العوامل، بما في ذلك جودة أجهزة التشويش والفخاخ الجوية، والتنسيق بين هذه المقاتلات والرادارات والصواريخ الأرضية، وكذلك التنسيق بين مقاتلات S-35 وطائرات الرادار الروسية الجوية A50.
وفي الغالب سيكون لدى مقاتلات إف-16 قدرات شبكات اتصال متطورة تتفوق على S-35 بفضل تزويدها برابط بيانات Link 16، المتوافق مع معايير حلف شمال الأطلسي (الناتو). وسيجعل ذلك تنسيق "الأفاعي" مع المنصات الجوية والأرضية الأخرى أكثر سهولة.
وقال تانيهيل: "ربما يكتشف الروس بالطريقة الصعبة مدى جودة الجمع بين رابط البيانات وصواريخ AMRAAM". وبالنسبة لروسيا، فإنَّ التهديد الذي تُشكِّله مقاتلات سو-35 سيُبقي مقاتلات إف-16 تحت السيطرة. وقد ينتهي النزال بين اثنتين من أقوى المقاتلات في العالم إلى طريق مسدود.