استخدمت الولايات المتحدة حق النقض 3 مرات لمنع وقف عدوان إسرائيل على غزة، فما الذي تغيَّر في الموقف الأمريكي، حيث طرحت واشنطن مشروع قرار يدعو إلى "هدنة فورية"؟
"أخيراً الولايات المتحدة تدعم وقف إطلاق النار، لكن الاختلافات الدقيقة في صياغة مشروع القرار الأممي تظهر أن واشنطن تسير على حبل مشدود"، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية، يرصد الاختلافات الدقيقة في الصياغة، وكيف أنها تكشف عن بعض التغيير في موقف إدارة جو بايدن الحليف الاستراتيجي لإسرائيل.
أمريكا وقرار في مجلس الأمن بشأن غزة
ينص مشروع القرار الأمريكي، الذي اطلعت عليه رويترز، على "وقف فوري ومستدام لإطلاق النار" لمدة ستة أسابيع تقريباً من شأنه أن يوفر الحماية للمدنيين ويسمح بإيصال المساعدات الإنسانية، كما يدعم الجهود الدولية الهادفة لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين والإفراج عن فلسطينيين معتقلين في السجون الإسرائيلية.
يمثل مشروع القرار الأمريكي هذا تغييراً في موقف واشنطن، لكنه تغيير "محسوب"، إذ يحافظ على الربط بين وقف إطلاق النار وبين إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لدى فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، وبشكل أساسي حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، مع تخفيف حدة هذا الربط والتركيز أكثر على الوقف الفوري للأعمال العدائية كأولوية، بحسب تقرير الغارديان.
ويركز مشروع القرار الأمريكي أيضاً على إعطاء الأولوية للمفاوضات بشأن صفقة تبادل الأسرى، وهي المفاوضات التي عادت لتكتسب زخماً إضافياً في الأيام الأخيرة، ويسافر مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز ومدير الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) ديفيد برنياع إلى الدوحة الجمعة 22 مارس/آذار لاستكمال تلك المفاوضات مع الوسطاء القطريين والمصريين.
من الفيتو للدعوة لهدنة فورية؟
في البداية كانت إدارة جو بايدن ترفض بشكل مطلق مجرد استخدام مصطلح "وقف إطلاق النار"، واستخدمت حق النقض (الفيتو) 3 مرات لمنع صدور أي قرار من مجلس الأمن الدولي يدعو إلى وقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
كانت آخر مرة تستخدم فيها واشنطن حق النقض يوم 20 فبراير/شباط الماضي ضد مشروع قرار تقدمت به الجزائر لمجلس الأمن يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة. وفي ذلك الوقت، أصرت ليندا توماس غرينفيلد، مندوبة أمريكا الدائمة لدى الأمم المتحدة، على أن أي وقف غير مشروط لإطلاق النار قد يعرقل مفاوضات صفقة تبادل الأسرى، التي صوّرتها واشنطن على أنها أفضل الطرق لوقف إطلاق نار مستدام.
وتقدمت بعثة أمريكا الأممية بنص معدل لمشروع القرار الجزائري ينص على أن "مجلس الأمن يؤكد على دعمه لوقف مؤقت لإطلاق النار في غزة حينما يصبح ذلك قابلاً للتطبيق، وعلى أساس صيغة اتفاق تؤدي إلى إطلاق سراح جميع الرهائن".
الآن وبعد مرور شهر كامل، ماذا حدث؟ لم يتم التوصل لصفقة تبادل للأسرى، ووصل الوضع في غزة إلى حالة من الكارثة المطلقة؛ إذ استشهد أكثر من 32 ألف فلسطيني أغلبهم من المدنيين، وسط تحذيرات متصاعدة من احتمال حدوث مجاعة في غزة تتسبب فيها إسرائيل بشكل يراه أغلب العالم متعمداً.
ومع تزايد الإدانة العالمية للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تسعى الولايات المتحدة جاهدة لتجنب الاتهام بالتواطؤ في تلك الكارثة الإنسانية في القطاع، ويبدو أن النسخة الأمريكية السابقة (نسخة فبراير/شباط) من مشروع قرار وقف إطلاق النار كما لو أنها بمثابة دليل على التواطؤ، في ظل مماطلة إسرائيل في التوصل إلى اتفاق.
لذلك جاءت صيغة مشروع القرار الجديد، الذي وزعته البعثة الأمريكية الخميس 21 مارس/آذار، لتؤكد على "أهمية الوقف الفوري والمستدام لإطلاق النار بهدف حماية المدنيين من الجانبين والسماح بتوصيل المساعدات الإنسانية الأساسية وتخفيف المعاناة الإنسانية، ولتحقيق هذه الأهداف يدعم (مجلس الأمن) بشكل لا لبس فيه الجهود الدبلوماسية الدولية الجارية لضمان وقف إطلاق النار وإطلاق سراح باقي الرهائن".
هذه الصياغة بلا شك تستخدم لغة أقوى، مثل "الوقف الفوري لإطلاق النار"، كما أن الربط بين الهدنة وصفقة الرهائن لم يعد مباشراً وحاداً كما كان من قبل. "لتحقيق هذه الأهداف" مصطلح يحمل قدراً من الغموض، فليس محدداً هنا إذا ما كان اتفاق الأسرى أمراً جوهرياً (لوقف إطلاق النار) أم أنه "عامل مساعد" لضمان التوصل إلى هدنة.
الضغوط على المقاومة
يعكس هذا الاختلاف في الصياغة الحبل المشدود الذي تسير عليه الولايات المتحدة في محاولة البحث عن استعادة ولو جزء من مصداقيتها المفقودة ومعها دورها القيادي على المسرح الدولي، وبصفة خاصة في الأمم المتحدة، حيث الدور القيادي الأمريكي لتحديات غير مسبوقة من الصين وروسيا.
لذلك يمثل مشروع القرار الأمريكي إمساكاً للعصا من المنتصف، فالمشروع لا يطالب بوقف لإطلاق النار لكنه ببساطة "يؤكد على حتمية وقف إطلاق النار". وفي الوقت نفسه، تواصل واشنطن الضغط على حماس كي تقبل بصفقة محدودة تشمل إطلاق سراح 40 أسيراً إسرائيلياً من النساء وكبار السن مقابل وقف إطلاق النار لمدة 6 أسابيع.
وفي إطار هذه الضغوط، تأتي تصريحات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الذي يزور المنطقة حالياً للمرة السادسة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهي التصريحات التي بذل فيها جهوداً لافتة كي يربط بين وقف إطلاق النار وبين صفقة الأسرى.
إذ قال بلينكن الخميس في القاهرة إنه يعتقد أن المحادثات التي تتوسط فيها الولايات المتحدة وقطر ومصر لا يزال من الممكن أن تقود إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس. وتتمحور المفاوضات الجارية في قطر حول هدنة لنحو ستة أسابيع تتيح إطلاق سراح 40 رهينة إسرائيلية مقابل الإفراج عن مئات الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية، مما يمهد الطريق أمام إدخال المزيد من المساعدات لقطاع غزة.
وقال بلينكن: "المفاوضون يواصلون العمل. الفجوات تضيق ونحن نواصل الضغط من أجل التوصل إلى اتفاق في الدوحة. لا يزال هناك عمل صعب للوصول إلى هذه النقطة. لكنني ما زلت أعتقد أن هذا ممكن".
وتتمثل النقطة الشائكة الرئيسية في أن حماس تقول إنها لن تطلق سراح الرهائن إلا في إطار اتفاق من شأنه أن ينهي الحرب، فيما تقول إسرائيل إنها ستناقش فقط هدنة مؤقتة. وقال مسؤول فلسطيني مطلع على جهود الوساطة، طلب عدم نشر اسمه، لرويترز إن حماس تبدي مرونة. وقال المسؤول إن إسرائيل "تواصل المماطلة؛ لأنها لا تريد الالتزام بإنهاء الحرب على غزة".
بايدن يضغط على إسرائيل
لكن نص مشروع القرار الأمريكي يفسح المجال أمام واشنطن في حال فشلت المفاوضات بشأن صفقة الأسرى، وهو ما يضع ضغوطاً أكبر على إسرائيل؛ لكي تقبل بهدنة الأسابيع الستة المعروضة حالياً، وأن تغير موقفها من إدخال المساعدات وتكف عن التعنت، بحسب تقرير الغارديان.
وتعكس التصريحات العلنية للمسؤولين الأمريكيين مؤخراً ضيق صدر إدارة بايدن مع حكومة إسرائيل برئاسة بنيامين نتنياهو، كما فعل زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ السيناتور اليهودي الديمقراطي تشاك شومر الأسبوع الماضي.
كان شومر قد شن هجوماً حاداً على بنيامين نتنياهو ووصفه بأنه "عقبة أمام السلام"، مطالباً بحكومة جديدة في إسرائيل، وهو ما مثل صدمة وزلزالاً سياسياً كون شومر أكبر مسؤول أمريكي يهودي منتخب وأحد أشرس المدافعين عن إسرائيل، بل تربطه علاقة قوية للغاية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه.
كما قالت سامانثا باور، مسؤولة الإغاثة الأمريكية، إن إسرائيل وحدها تتحمل المسؤولية الرئيسية عن أي مجاعة في غزة إذا لم تغير موقفها من دخول المساعدات.
وعلى مدى أسابيع، حاول بلينكن وليندا توماس غرينفيلد وسامانثا باور إقناع الرئيس بايدن للدعوة لوقف إطلاق النار مباشرة، لكنه كان يضع كل تركيزه على صفقة الرهائن، خوفاً من الضرر الذي قد يتسبب فيه نتنياهو في عام الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
كان رئيس مجلس النواب، الجمهوري مايك جونسون، قد أعلن الخميس أنه ينوي توجيه الدعوة لنتنياهو كي يوجه خطاباً أمام جلسة مشتركة لمجلسي النواب والشيوخ (الكونغرس). كانت آخر مرة حدث فيها هذا الأمر عام 2015، وبناء على دعوة من رئيس جمهوري أيضاً لمجلس النواب، وجاء نتنياهو بالفعل إلى الكونغرس وألقى خطاباً وجَّه فيه انتقادات لاذعة لإدارة الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما (كان بايدن نائب الرئيس) بسبب الاتفاق النووي مع إيران.
ويخشى بايدن الآن من أن يصوره نتنياهو على أنه رئيس أمريكي "يتساهل" مع أعداء إسرائيل (أو كما يصفهم رئيس الوزراء المتهم بالفساد وخيانة الأمانة وتلقي الرشوة بأنهم إرهابيون)، وهو تكتيك لن يتردد نتنياهو في توظيفه كي يلقي باللوم على الولايات المتحدة في الفشل في القضاء على حماس.
وينبع قلق بايدن من ارتفاع وتيرة المعارضة السياسية الداخلية لموقفه من الحرب المستمرة منذ أكثر من 5 أشهر ونصف، وبصفة خاصة الموقف الداعم لإسرائيل بشكل مطلق.
على أية حال، من المقرر أن يصوّت مجلس الأمن على مشروع القرار الأمريكي مساء الجمعة، ولاعتماده يحتاج إلى موافقة تسعة أعضاء على الأقل وعدم استخدام حق النقض من قبل أي من الدول الخمس دائمة العضوية وهي: الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا والصين، كما أصدر قادة الاتحاد الأوروبي، الخميس، دعوة لوقف فوري لإطلاق النار في غزة.
الخلاصة هنا هي أن واشنطن، التي تحمي إسرائيل في الأمم المتحدة، بدأت تعمل بشكل تدريجي على ممارسة المزيد من الضغوط على حليفتها الراسخة، ويعكس طرح مشروع قرار بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مزيداً من التشدد من جانب إدارة بايدن في هذا الاتجاه.