تشهد الهيئات الحكومية المصرية حالة من الارتباك؛ جراء القرارات التي اتخذها مجلس الوزراء أخيراً، وترتبط بتأجيل تنفيذ المشروعات المدرجة بالخطة خلال العام السابق أو العام الجاري، وعدم البدء في أي مشروعات جديدة في العام الحالي.
ولم تحدد الحكومة المصرية ماهية المشروعات التي لن يتم استكمالها أو سيتم تعطيل العمل بها، وهو ما أحدث مزيداً من الارتباك في ظل عدم وضوح الرؤية بشأن العديد من المشروعات القومية التي يعمل بها ملايين العمال والموظفين ويتم تقديرهم وفقاً لأرقام غير رسمية بـ12 مليون موظف.
وقررت الحكومة المصرية عدم البدء في أية مشروعات جديدة في العام الحالي، وإعطاء الأولوية لاستكمال المشروعات المكتملة بنسبة 70% أو أكثر والمتوقع تنفيذها خلال السنة المالية 2023-2024 وذلك في ضوء الالتزام بالتوجيهات الخاصة بترشيد الإنفاق وخفض سقف الدين الخارجي.
ويكون الاستثناء من أحكام هذا القرار بموافقة رئيس مجلس الوزراء، بناءً على عرض وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، بعد دراستها للمبررات الضرورية والملحة التي تعرضها الجهات المخاطبة بأحكامه.
"عربي بوست" خلال هذا التقرير تواصل مع مصادر حكومية وأخرى تشتغل بالقطاع الخاص الذين لهم تعاقدات مع جهات حكومية، للتعرف على المشروعات التي تم سيتم تأجيل تنفيذها.
ما هي المشروعات التي تم توقيفها؟
كشف مصدر حكومي لـ"عربي بوست" أن قطاع الإنشاءات يعد الأكثر تضرراً من قرارات الحكومة التقشفية، وأن مجموعة من المشروعات التي تتعلق بتطوير البنية التحتية سيتم تعليقها بسبب ارتفاع قيمة الدولار.
وأضاف المصدر نفسه أن أبرز هذه المشروعات مشروع حياة كريمة الذي سيتوقف مؤقتاً عند المرحلة الأولى، وأن الحكومة تنوي تأجيل المرحلة الثانية التي كان من المقرر أن تبدأ في النصف الأول من هذا العام، لحين دراسة أوضاع الموازنة العامة الجديدة للدولة.
وأكد المصدر أن توقف مشروع حياة كريمة يرتبط بصعوبات تواجهها مصر لتوصيل الغاز الطبيعي إلى القرى والنجوع، في ظل مواجهتها مشكلات في ضخ كميات أكبر مع أزمة الطاقة العالمية.
كما أن الدولة حسب المصدر نفسه تسعى لتصدير الغاز المسال إلى الخارج للحصول على الدولار في ظل الأزمة الاقتصادية، وكشف المصدر عن أن الحكومة تجري مشاورات حول إمكانية استئناف العمل بالمشروع دون توصيل الغاز إلى المناطق المقررة.
وأكد أن قطاع النقل يعد أيضاً من القطاعات الأكثر تأثراً بخطة التقشف، تحديداً الخط الخامس من مترو أنفاق القاهرة الذي تم إلغاؤه بشكل كامل، والذي كانت الحكومة تنوي تسليمه بشكل كامل إلى رجال أعمال، لكن لم يحظَ الطرح بموافقة واسعة في أوساط المستثمرين.
مشيراً إلى أن مشروع الأتوبيس الترددي الذي جرى اعتماده بديلاً للخط الخامس أيضاً لن يتم استكماله مع اتخاذ قرار بوقف استيراد أتوبيسات ترددية جديدة، وأضحى المشروع مهدداً بالإلغاء في حال أثبت عدم جدواه الاقتصادية.
وشدد على أن الحكومة أيضاً قررت وقف استيراد عربات نقل السكك الحديدية، وتنوي الاعتماد على المصانع المحلية في تصنيعها، لكن ذلك من المتوقع أن يستغرق عدة سنوات؛ وهو ما يشير إلى أن عمليات تطوير السكة الحديد ستتوقف أيضاً.
وحسب المتحدث فإن الحكومة المصرية حاولت إلغاء صفقات جرارات القطاع، لكنها اصطدمت بشروط جزائية ضخمة، وقررت استكمال استيراد باقي الجرارات المتفق عليها، إلى جانب استمرار شركة سيمنس الألمانية في تطوير إشارات السكك الحديدية.
تعويض الحكومة المصرية للعاملين
وتعمل الحكومة المصرية في الوقت الحالي على رصد أعداد الموظفين العاملين في المشروعات القومية للتعرف على انعكاسات ذلك على مؤشرات البطالة في ظل مطالب دولية بضرورة تعويض هؤلاء الذين أضحوا بين ليلة وضحاها دون فرصة عمل.
إذ تواصل وزارة العمل المصرية عمليات حصر جديدة للعمالة غير المنتظمة في المشروعات القومية ومشروعات حياة كريمة والقرى الأكثر احتياجاً بمحافظة الوادي الجديد.
وأضافت وزارة العمل، في بيان لها، أنَّه جرى استئناف عمليات تسجيل العمالة غير المنتظمة؛ تمهيداً للبدء في تسجيلها على قاعدة البيانات العامة بوزارة العمل، والتي أنشأتها الوزارة لرعاية وحماية العمالة غير المنتظمة اجتماعياً وصحياً وتأمينياً بصفة دورية.
وحسب وزارة العمل المصرية، سيتم صرف منح للعمالة غير المنتظمة في حالات استثنائية وفي المناسبات والأعياد لتوفير الأمان لها ولأسرها من مخاطر العمل المختلفة.
مشروعات البناء سيطالها التقشف
ويؤكد مصدر حكومي آخر أن مشروعات البناء والتشييد ستأخذ في التباطؤ خلال السنوات المقبلة، وأن حاجة الحكومة إلى مكونات دولارية ضخمة لتسليم عقارات مجهزة وشاملة تحتاج إلى فاتورة استيرادية مرتفعة بفعل دخول صناعات عديدة.
ومن بين هذه الصناعات يقول المتحدث أسلاك الكهرباء والنحاس وغيرها، وهو يدفع نحو مراجعة خطط إنشاء المدن الجديدة، والأمر ذاته سوف ينعكس على طروحات وزارة الإسكان للوحدات السكنية مع إتاحة فرصة أكبر لدخول القطاع الخاص.
ولفت إلى أن مشروعات الجسور والكباري تخضع أيضاً للمراجعة ولن يتم تنفيذ إلا المشروعات بالمناطق التي بحاجة لإحيائها، لكن ليس من المتوقع أن يتم إنشاء جسور كبيرة كما حدث سابقاً نتيجة لوجود تكدسات مرورية مثلاً.
كما أن المحاور الكبيرة على النيل ذات التكلفة الباهظة لن يتم تنفيذها، وهناك قناعة بضرورة التنازل عن جزء من مشروعات البنية التحتية للتخفيف عن الموازنة العامة للدولة.
وارتفع عجز الموازنة لمصر خلال النصف الأول من العام الحالي إلى 4.95% من الناتج المحلي مقابل 4% خلال الفترة نفسها من العام الماضي، وتستهدف موازنة العام المالي الحالي إنفاق 590 مليار جنيه على الاستثمارات الحكومية.
وتتضمن الخطة الاقتصادية والاجتماعية للعام المالي الحالي استثمارات كلية بنحو 1.8 تريليون جنيه تقوم الحكومة وجهاتها التابعة بتنفيذ نحو 63.6% منها، والنسبة المتبقية استثمارات خاصة، وستتم مراعاة عدد من الاستثناءات، منها، الجهات التي تجاوزت نسبة الإتاحة بها 50%.
ووافق مجلس الوزراء المصري على مشروع قرار لترشيد الإنفاق الاستثماري وفق ضوابط منها خفض تمويل الخزانة العامة بالخطة الاستثمارية للسنة المالية الحالية بنسبة 15%.
وقال مجلس الوزراء إن الضوابط تتضمن أيضاً تأجيل تنفيذ المشروعات المدرجة بالخطة خلال العام السابق أو العام الجاري، وذلك بحظر إبرام أية تعاقدات على تلك المشروعات سواء بالأمر المباشر أو المناقصات العامة حتى نهاية السنة المالية الحالية.
شبح الإغلاق يخيم على شركات المقاولات
وبحسب مصدر مطلع بإحدى شركات الإنشاءات التي لديها تعاقدات مع وزارة النقل المصرية، فإن المتضرر الأول من سياسة التقشف الحكومية تبقى شركات القطاع الخاص التي لديها شراكات مع جهات حكومية ولم يتم استكمالها أو لديها مستحقات مالية ولم يتم صرفها.
وأضاف المصدر أنه في حال قررت الحكومة توقيف تنفيذ هذه المشاريع من المتوقع أن تنشب أزمة كبيرة بين شركات القطاع الخاص والجهات الحكومية قد يكون مصيرها القضاء للحصول على المستحقات المتأخرة.
وقال المتحدث إن الحكومة أوقفت تحديد قيمة المشروعات الجديدة قبل ثلاثة أشهر حينما تعرضت أسعار الصرف للتذبذب المستمر، وهو موقف مشترك مع أصحاب الشركات الذين رأوا ضرورة الانتظار لحين استقرار سعر الصرف أولاً خشية من تعرض شركاتهم لمزيد من الخسائر.
يكشف المصدر لـ"عربي بوست" أن مشروعات العاصمة الإدارية ستشهد مزيداً من التباطؤ مع الاكتفاء بإنهاء المشروعات السكنية الخاصة بموظفي الوزارات وكذلك استكمال بناء الأراضي التي جرى بيعها للقطاع الخاص والتي تنوي الاستمرار في عمليات البناء.
وأشار المتحدث إلى أن مشروعات الحكومة نحو تطوير الأراضي الصحراوية الشاسعة حول محطة الضبعة النووية أيضاً ستتوقف.
يعتقد المصدر أن شركات المقاولات المحلية ستواجه خطر الإغلاق في حال نفذت الحكومة خطتها التقشفية، تحديداً التي تعتمد بالأساس على مشروعاتها في الداخل المصري، لأنها سوف تصطدم بمأزق تخصيص مبالغ ضخمة لعملية الإنشاءات دون أن يتم تنفيذها على الأرض.
وقال إن الشركات الخاصة أصلاً تعاني من مشكلات تأخر المستحقات، كما أن إرجاء المشروعات سيؤدي إلى زيادة قيمتها بنسب مطردة نتيجة لتراجع قيمة الجنيه وعدم استقرار سعر العملة؛ وهو ما يفاقم من خسائرها.
المشروعات القومية دون دراسة جدوى
وتشير تقديرات الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء إلى خسائر القطاع في حدود 40 مليار جنيه (بسبب إجراءات خفض الإنفاق العام على المشروعات القومية، لضمان استقرار عمل الشركات الخاصة صدق الرئيس عبد الفتاح السيسي، نهاية العام الماضي على تعديلات قانونية تسمح بصرف تعويضات للمقاولين الذين تكبدوا خسائر في مشروعات الدولة بسبب الإصلاحات الاقتصادية الأخيرة، ومددت الحكومة مواعيد تسليم المشروعات الحكومية الجارية لمدة شهرين).
وبلغت التكلفة الإجمالية للمشروعات القومية للدولة المصرية، بحسب ما أعلنه الرئيس عبد الفتاح السيسي، 400 مليار دولار، ويناهز هذا الرقم حجم إيرادات الدولة المصرية طوال 9 سنوات.
وبلغ إجمالي إيرادات الدولة خلال تلك الفترة بحسب تقارير حكومية حوالي 7 تريليونات و584 ملياراً و70 مليون جنيه، حيث بلغت الإيرادات في العام المالي 2013/2014 456.8 مليار جنيه، بينما بلغت 1365 مليار جنيه في عام 2021/2022.
ويشير خبير اقتصادي إلى أن الحكومة المصرية جادة في تطبيق خطة التقشف، وأنها تطبقها بشكل أقل التزاماً منذ بداية العام الماضي، لكنها الآن مرغمة على ذلك بفعل شروط صندوق النقد الدولي الذي يهدف لتخفيف الضغط على الموازنة العامة للدولة.
ويسعى صندوق النقد الدولي إلى ضمان التزام الحكومة المصرية بالوفاء بالتزاماتها بشأن سداد الديون وتستهدف استدامة القدرة على السداد أولاً قبل الحديث عن مشروعات التنمية التي تأتي في مرتبة ثانية أو ثالثة بهذا التوقيت.
ويضيف المصدر لـ"عربي بوست" أن جهات حكومية تمارس أدواراً رقابية على مشروعات مختلفة للتأكد من الالتزام بقرارات التقشف، وأن مجلس الوزراء المصري سيكون شاهداً خلال الفترة المقبلة على عقد مزيد من الاجتماعات للتعرف على المشكلات والمعوقات التي تطرأ أثناء تنفيذ خطة التقشف تحديداً فيما يتعلق بالاتفاقيات المبرمة مع شركات القطاع الخاص، موضحاً أنه ليس من المتوقع الاتفاق على أي مشروعات جديدة حتى نهاية العام الجاري.
ويؤكد أن الحكومة ستعود لتصويب رؤيتها بعد أن أقدمت على تنفيذ العديد من المشروعات القومية دون دراسة جدوى كافية، والآن سيكون هناك لجان اقتصادية مهمتها دراسة جدوى شاملة لأي مشروع جديد قد يتم تنفيذه خلال الفترة المقبلة الأولوية ستكون للموافقة على المشروعات الخدمية ذات التكلفة القديمة.
وأشار إلى أن المأزق الحالي الذي يواجه الحكومة بشأن مشروعات حياة كريمة، لأن كثيراً من المناطق التي بدأ فيها العمل لا بد من الانتهاء بها حتى تصلح للسكن، وهو ما سيقود لتنفيذ فقط الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والصرف الصحي دون استكمال باقي مجالات المشروع.