ضمت شوارع العاصمة الجزائرية أماكن شاهدة على عمليات فدائية ضد المستعمر الفرنسي خلال ثورة التحرير، أبرزها ما نفذته نساء جزائريات اقتحمن جموع المستعمرين دون خوف لكي تحيا الجزائر حرة ومستقلة.
ووضعت مجموعة من الفدائيات قنابل يدوية في ثلاث مقاهٍ كان يرتادها المستعمرون الفرنسيون وسط العاصمة الجزائرية، ما أدى إلى سقوط مجموعة من القتلى والجرحى في صفوف المستعمر.
ورغم أهمية هذه الأماكن، فإن عديداً من الجزائريين لا يعلمون مدى رمزيتها، وضرورة الاعتناء بالمحال الموزعة على 3 شوارع رئيسة ببلدية الجزائر الوسطى في قلب العاصمة الجزائرية التي شهدت إحدى ملاحم التحرير المعروفة بمعركة الجزائر.
61 سنة كاملة مرت على استقلال الجزائر صاحبها تخليد أسماء النسوة الثوريات اللواتي نفذن عمليات فدائية وسط تجمع المستوطنين بعدما نقشت على جدران المحال التي أضحت ملكيتها لجزائريين.
"عربي بوست" زار هذه الأماكن وسط الجزائر، بمناسبة يوم الشهيد، ونقل وضعها في الوقت الحالي بعدما عملت السلطات العمومية على ترميمها وجعلها أماكن يقصدها الجزائريون من أجل تناول وجبة غذاء أو شرب كوب قهوة.
3 عمليات للفدائيات خلال ثورة التحرير
كان الجو ماطراً لما تنقلنا إلى مقهى ميلك بار الواقع بساحة الأمير عبد القادر الجزائري في شارع العربي بن مهيدي (ساحة بيجو بشارع ديزلي سابقاً)، وهو المحل المحاذي لنصب الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة.
مقهى ميلك بار شهد يوم 30 سبتمبر/أيلول 1956 وتحديداً عند الساعة الـ18 و35 دقيقة، عملية فدائية نوعية خطط لها ثوار الجزائر من أجل ضرب الاستعمار الفرنسي بعدما عملت قواته على قتل الجزائريين الأبرياء في كل مكان انتقاماً من ثورة الجزائريين.
وكانت العملية التي نفذتها الفدائية زهرة ظريف، قد أسفرت عن مقتل 3 أشخاص مع إصابة 60 شخصاً بجروح متفاوتة الخطورة مباشرة بعد انفجار قنبلة يدوية وضعتها بمحل ميلك بار الذي كان يختص بصنع آيس كريم.
وغير بعيد عن الجامعة المركزية يوجد مقهى كافتيريا، وهو بدوره شهد عملية فدائية يوم 26 يناير/كانون الثاني 1957 عند الساعة الـ17 و30 دقيقة، تسببت بإصابات عديدة وسط الأوروبيين الذين كانوا داخل المقهى "كافتيريا".
ونُفذت العملية من قبل الفدائية فضيلة عطية بعدما وضعت عبوة ناسفة في المقهى، تحديداً تحت مقعد بغرفة خلفية، حيث خلفت إصابات بالجملة بين الأوروبيين الذين ارتادوا المقهى مع تسجيل أضرار مادية كبيرة.
ويوجد المحل الذي تحول إلى مطعم يهتم بالأكل التقليدي الجزائري ويحمل اسم "المائدة الجزائرية"، في شارع ديدوش مراد بالقرب من الجامعة المركزية (شارع ميشلي سابقاً).
وبين هلع وخوف المعمرين من أي انهيارات مرتقبة لسطح المقهى، سمع دوي انفجار ضخم على بعد أمتار من العملية الأولى، نفذت عملية أخرى داخل مطعم كان يسمى في تلك الحقبة "كوك هاردي"، من قبل الفدائية جميلة بوعزة.
ويوجد المطعم الذي انفجرت داخله قنبلة وضعت تحت طاولة وسط شرفة زجاجية، في شارع عبد الكريم خطابي (شارع شارل بيقي سابقاً) بالقرب من محطة مترو الجزائر حالياً (محطة تافورة-البريد المركزي).
وتسببت العملية الثانية بهلاك 3 معمرين فرنسيين كانوا داخل المطعم مع إصابات مختلفة لأشخاص آخرين بجروح متفاوتة الخطورة، إضافة إلى أضرار مادية أصابت المطعم جراء قنبلة الفدائية التي كانت إيذاناً باستمرار الثورة ضد المستعمر الفرنسي الغاشم.
عنصر "المفاجأة" قوة العمليات الفدائية
وللتوسع أكثر في الموضوع، تواصل "عربي بوست" مع الخبير الأمني، أحمد ميزاب، الذي يلفت إلى أن العمليات الفدائية للنساء الجزائريات المسجلة إبان حرب التحرير في عديد من الولايات، كانت ضمن الرؤية الاستراتيجية والتخطيط لثورة التحرير؛ نظراً إلى توافر عنصر المفاجأة في العمليات الفدائية.
ويؤكد ميزاب أن العمليات+ لا سيما تلك المنفذة في العاصمة الجزائرية- كان لها أثر سلبي على العدو، وأدت إلى ضغط نفسي عليه، ونقلت مسار المعارك والمواجهة إلى داخل مراكز وجود الاحتلال.
ويشير المتحدث، إلى أن الهدف سواء في تنفيذ الإعدامات بحق الخونة (الحركى) أو العمليات الفدائية كان في إطار استهداف جيش الاستعمار، أو بضرب مواقع تمركز الفرنسيين في المدن لاسيما الكبرى منها.
ويضيف في السياق: "في مؤتمر الصومام الذي كان في محطته عملية تقييم وتنظيم مسار ثورة التحرير وفي الوقت نفسه كان له أهمية كبيرة بالنسبة لتأطير العمليات الفدائية التي كانت ضمن مخرجات مؤتمر الصومام".
ويشدد ميزاب على أن الفدائي يعد عنصراً مكلَّفاً بتنفيذ عمليات هجومية في مراكز محددة، ومن المواصفات التي يتميز بها الفدائي هدوء الطبع، وقلة الكلام، وكتمان الأسرار، وهو شخص مدني يعيش وسط المعمرين.
إسهام كبير في استقلال الجزائر
يوضح متحدث "عربي بوست" أن العمليات الفدائية ساهمت كثيراً في نجاح ثورة التحرير عن طريق الضغط النفسي على الاستعمار الغاشم، ويواصل في السياق : "لا ننسى أن الفدائيين كانوا يتلقون تدريباً مع تكوين عسكري خاص من أجل تنفيذ العمليات المكلفين بها باقتدار".
ويقول ميزاب إن "للفدائي أهمية استراتيجية في نقل وتكثيف العمل، فالفدائي داخل المدن باعتباره ناقلاً للقضية الوطنية، والدليل على ذلك انتقال العمل الفدائي من الجزائر إلى الأراضي الفرنسية حيث كانت العمليات الفدائية ناجحة".
ويبرز الخبير الأمني أن "الفدائي إبان الثورة ضد الاستعمار الفرنسي ساهم بشكل كبير جداً في رسم صورة متكاملة لتحقيق أهداف ثورة التحرير المباركة".
ولدى تطرقه إلى أهمية هذه العمليات وسط الحرب الضروس التي اشتعلت بين الثوار الجزائريين وقوات الاحتلال الفرنسي، لفت محدثنا إلى أن عمليات فدائية كبيرة نفذت مثلاً في مدن جزائرية وداخل الأراضي الفرنسية.
ويجزم ميزاب بأنه "لولا العمل الفدائي لأخذ الثوار وقتاً أطول لاستعادة السيادة الوطنية، لذلك نحن نتحدث عن أن العمل الفدائي كان ضمن الرؤية الاستراتيجية لثورة التحرير".
دحض مزاعم فرنسا وإسماع صوت الثورة
وبغية الوقوف على حيثيات هذه العمليات التي هزت المحتل، تواصلنا مع الأستاذ المحاضر في التاريخ الحديث والمعاصر محفوظ عاشور، الذي يوضح أن معركة الجزائر التي دارت رحاها ما بين عام 1956 إلى منتصف عام 1957، جاءت ضمن إستراتيجية دحض مزاعم الإدارة الفرنسية ولإسماع صوت الثورة التحريرية.
ويضيف عاشور في اتصال هاتفي مع "عربي بوست"، أن "الاستعمار الفرنسي كان يتهم الثوار الجزائريين بأنهم مجموعة قطاع طرق ينفذون عملياتهم تحت جنح الظلام ويعودون للجبال"، وهو ما استوجب الرد وإثبات شمولية الثورة التحريرية لكل ربوع التراب الوطني، فتقرر تكليف الشهيد العربي بن مهيدي بإنشاء خلايا فدائية بالجزائر العاصمة التي تم تحديدها كمنطقة مستقلة.
وتستمد الفكرة جذورها من إستراتيجية زيغود يوسف في هجومات الشمال القسنطيني 20 أغسطس/آب 1955، التي عرفت التفافاً شعبياً ومكنت من فك الحصار المفروض على منطقة الأوراس ومحاولة خنق الثورة.
كما تهدف "معركة الجزائر" إلى إسماع صوت القضية الجزائرية لما في العاصمة من تمثيليات دبلوماسية وصحافة، من شأنها التمكين لتدويل القضية.
ودعمت عدة ظروف تلك الاستراتيجية، بحسب توضيح الأستاذ محفوظ عاشور، على غرار الإرهاب الفرنسي والأوروبي المسلط على الجزائريين بمساعدة من قوات الأمن، ومنها جريمة تفجير قنبلة من طرف معمرين بالقصبة والتي راح ضحيتها جزائريون من مختلف الأعمار، والإعدامات المقررة من طرف سلطة الاحتلال في حق الثورة وأولها الإعدام بالمقصلة في حق أحمد زبانة وعبد القادر فراج بسجن سركاجي، انتقاماً من الثوار.
كما أن قوة قرار اللجوء إلى العمليات الفدائية هو تزامنها مع عدة خطوات داعمة، على رأسها إضراب الـ8 أيام الذي شرع فيه في 28 يناير/كانون الثاني 1957، ليجسد كل ذلك عملية الانتقال من الجبال إلى المدن.
وتشترط العملية عملاً خاصاً يتناسب وطبيعة المدن، وهو ما تم من خلال تشكيل خلايا فدائيين مدربين وبإشراك العنصر النسوي، لتعرف تلك الخلايا باسم "واضعي القنابل"، حيث يتم وضع قنابل في الأماكن التي يوجد فيها الجنود الفرنسيون والمعمرون.
وبرز خلال هذه العمليات الشهيد الطالب عبد الرحمن، بوصفه مهندساً لتلك القنابل، بعدما تخصص في دراسة الكيمياء، وتصفه المجاهدة جميلة بوحيرد بـ"الشهيد الذي حيّر المستعمر بعبقريته في صنع القنابل".
وخلال هذه العمليات برزت أسماء زهرة ظريف، وجميلة بوحيرد، وجميلة بوباشة وغيرهن ممن خضن غمار أزقة مدينة الجزائر حاملات سلالاً تحتضن قنابل تؤكد رفض استمرار عنجهية المحتل.
كما عرفت معركة الجزائر تنفيذ عمليات اغتيال ضد المعمرين الذين سبقوا أن نفذوا عمليات ضد الجزائريين، إضافة إلى عمليات ضد الحركى بصفتهم خونة.
ونجد أبرز تلك العمليات تحت مسؤولية الشهيد البطل العربي بن مهيدي وياسف سعدي، عملية (ميلك بار)، بشارع ديدوش، وعملية ملعب الأبيار التي نفذتها مجموعة السعيد تواتي.
وأثمرت هذه العمليات أهدافها، حيث كذبت مزاعم المحتل الذي اتهم جبهة التحرير بعدم التنظيم وأنها دون استراتيجية، في حين أن كل تعليماتها كانت بأهداف واضحة وبرنامج محدد مع تعليمات بعدم تعريض فئات الأطفال والكبار للخطر، عكس الجرائم الفرنسية التي انتهكت بنود اتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة، بخصوص الأسرى والمدنيين.
وفي ظل احتدام معركة الجزائر، أجبر هؤلاء الأبطال بخلاياهم قليلة العدد فرنسا القوة الاستعمارية على إقحام الفرقة العاشرة للمظليين لمواجهة "استراتيجية السلل"، وكان على رأسها جنرالات من أبرزهم السفاح ماسو.
وتمكنت العمليات الفدائية من تحقيق أهدافها من خلال ظهور قضايا جديدة على ساحة قضية التحرير الجزائرية مثل عمليات التعذيب التي كان لها صدى عالمي، وأبرزها قضية جميلة بوحيرد بعدما أبرزها محاميها جاك فيرجاس في كتابه الذي شاركه فيه جورج أرنو (من أجل جميلة بوحيرد).
إلى جانب لوحة الرسام العالمي بابلو بيكاسو لجميلة بوباشة، فأصبحت معركة الجزائر مثالاً لتدويل قضايا التحرر، ليجسدها المخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو في فيلمه (معركة الجزائر)، لا سيما أنه عرف مشاركة فاعلين في العمليات، على رأسهم أحد قادتها وهو ياسف سعدي.
أما بخصوص قوة التخطيط، فيكفي أنها مثلت استراتيجية عسكرية جديدة في حرب المدن تدرس ضمن المدارس الحربية.
132 سنة من النضال ضد المستعمر الفرنسي
نضال الجزائريين من أجل نيل الاستقلال أسفر عن تضحيات عديدة أبرزها سقوط مليون ونصف المليون شهيد خلال الثورة الجزائرية.
ويأتي هذا بعدما قررت ثلة من الشباب الجزائريين الثوار إشعال فتيل الحرب في كل ربوع الجزائر متحدّين الإمكانيات الفرنسية الهائلة، رغم أن قادة الجيش الفرنسي حاولوا استمالة الجزائريين بكل الطرق، بعد أن هجروا، قتلوا وأحرقوا قرى بأكملها.
ولا يعد هذا العدد من الشهداء الذين سقطوا في ميدان الشرف هو الوحيد، حيث تحدثت رئاسة الجمهورية يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول 2021، عن العدد الرسمي لضحايا الاستعمار الفرنسي للجزائر، خلال الفترة الممتدة من 1830، حتى حصول البلاد على استقلالها سنة 1962.
وبلغ عدد شهداء الجزائر الذين دافعوا عن بلادهم 5 ملايين و630 ألف شهيد، ضحوا بحياتهم منذ المقاومة الشجاعة ضد الاستعمار الفرنسي، وخلال الثورة التحريرية المجيدة.