أصبح التمويه والاختفاء العسكري أداة أساسية في الحرب الحديثة، فما هي أساسيات تلك الصناعة التي تكلف مليارات الدولارات؟ وما أبرز أساليب التخفي التي تعتمدها الجيوش الحديثة؟
مجلة Popular Mechanics الأمريكية نشرت تقريراً يلقي الضوء على أساسيات التمويه والاختفاء العسكري وكيفية تحرك القوات في ساحة الحرب دون أن يتم كشفهم.
بشكل عام، لا يحسن البشر كثيراً التماهي في محيطهم. وبعد أن تجاوز العالم أساليب القتال الوحشية التي غلب الاعتماد عليها في القرن العشرين، وخوض الحروب في العراء بتشكيلات خطية من صفوف الجنود المنتظمة للفتك ببعضها بعضاً، أصبح التمويه أداة لا غنى عنها في القتال الحديث.
وقد تطور هذا الأمر ليصبح صناعة بمليارات الدولارات تهدف إلى تعزيز قدرة الجنود على التخفي في ساحة المعركة، وإمداد الجيوش بميزةٍ تكتيكية كبيرة في ميدان الحرب.
ما هو التمويه العسكري؟
التمويه العسكري هو أسلوب تخفّ يتضمن استخدام اللون والملمس والإضاءة بهدف تطويع البيئة المحيطة والتماهي معها. ويُعرفه الرقيب مايكل بيزا، مدرب القناصة في لواء الفرسان 316 بالجيش الأمريكي، لمجلة Popular Mechanics الأمريكية، بأنه "أي من الأساليب التي تُستخدم لجعلِ المرء غير قابل للتمييز في البيئة المحيطة، أو مندمجاً فيها. وليس الغرض من الأمر أن تبدو مثل شجيرة أو شجرة، وإنما السعي للامتزاج فيما حولك كأنك لا تختلف عنه في شيء".
والتمويه مفهوم متعدد الأركان، فهو لا يقتصر على الزي القتالي أو بذلات الغيلي (ghillie suits) المموهة التي يرتديها القناصة. ولا شك أن الغطاء وأدوات الاستخفاء من العوامل المهمة في التمويه، لكن الأمر يتجاوز ما تراه العين.
يوفر "الغطاء" الحماية الجسدية من الرصاص والمقذوفات وغير ذلك، وتشمل أدواته الاختباء خلف حاجز أو صخرة أو جدار خرساني أو حتى شجرة. أما تقنيات "التمويه"، فيمكن تقسيمها إلى ثلاث ركائز مختلفة: بصرية، وحركية، وصوتية.
الركيزة البصرية
ربما يبدو التمويه مجرد عملية استخفاء بصرية. وهذا جزء أساسي من الأمر، ولكن الواقع أن الأمر أكثر تعقيداً من ذلك، فاستقصاء الهدف إحدى اللبِنات الأساسية في خطوات التمويه، وكذلك العثور على الأشياء الشاذة عن محيطك.
يقول الرقيب بيزا: "في المحيط المشجَّر مثلاً، نجد أنواعاً مختلفة من الأشجار الصنوبرية، وشجيرات مورقة، والعشب، وأشياء من هذا القبيل. ويمكن أن تكون علامة التنبيه إشارة هينة الشأن على شيء شاذ عن محيطك، مثل شجرة مقطوعة، أو لحاء مفقود، فترسل حينها معلومة بذلك إلى موقعك [العسكري]. وإذا رأيت شيئاً خارجاً عن المألوف، فإنك تمعن الترصد في تلك المنطقة، وتتحرى البحث عن مزيد من الأمور الشاذة عن المحيط".
وينتمي التمويه إلى أساليب الهجوم أكثر من انتمائه إلى أساليب الدفاع، إلا أنه يمثل كذلك ميزة كبيرة الشأن عند التحرك تحت رادار الخصم. ومدار التمويه هو إزالة أي أثر مخالف لك عن محيطك. وأهون أنماط التمويه هي المتصلة بالزي القتالي. ويعتمد التمويه في الزي القتالي الحالي للجيش الأمريكي على نمط يسمى "العقرب"، وهو نمط يُعرف رسمياً باسم "نمط التمويه العملياتي"، وتستخدمه قوات المشاة الأمريكية منذ عام 2015، ويوفر مزيج ألوان الزي فيه قدرة معتبرة على التخفي.
يمكن تقسيم أنماط التمويه المرتبطة بالزي القتالي إلى ثلاث فئات مختلفة، أولاها يعتمد على الخطوط، والثانية على البقع، والثالثة على مزيج منهما. ويتفوق الزي المخطط في البيئات الصنوبرية، التي تشمل الغابات التي تتكون في معظمها من النباتات الصنوبرية، وتكون أوراقها أشبه بالإبر، مثل الصنوبر.
أما زي التمويه المبقع، فيكثر الاعتماد عليه في البيئات التي تتسم بأوراقها الخضراء مختلفة الأشكال، وتتساقط عن أشجارها الأوراق في الشتاء، وتتباين أحوالها بتغيُّر الفصول. ويستخدم الجيش الأمريكي زياً يمزج بين الخطوط والبقع لتوفير التمويه في مختلف البيئات.
وطلاء الوجه من الأدوات المهمة في تمويه الصورة الظلية البشرية. ويقول الرقيب بيزا: "التمويه يسعى إلى إخفاء الانحناءات الطبيعية للوجه، وجعلِه على مستوى واحد"، والغاية من ذلك هي تلبية الركن الأساسي من التمويه، وهي إزالة العمق والتدرج عن صورتك المرئية. وأول خطوة في استخدام الطلاء للتمويه هي تظليل المواضع البارزة في الوجه، مثل الخدين والأنف وحواف الحاجب، وفي الوقت ذاته تفتيح الفجوات، مثل الشفاه والعينين (الجفون) والأذنين، لإزالة الظلال عنها. وينبغي الانتباه إلى أن الطلاء غالباً ما يذوب في الأجواء الحارة.
ولا شك أن الزي المخطط وطلاء الوجه من الأدوات الفعالة في التمويه، ولكن التمويه الناجم عنهما لا يضاهي أبداً قدرات الاستخفاء التي توفرها بذلات غيلي المموهة. ويقول الرقيب بيزا: "بذلات غيلي من أهم أدوات التمويه لدينا، فهي تساعد في إخفاء الخطوط والتقسيمات المحددة للصورة الظلية البشرية، فضلاً عن إزالة تدريجات الصورة المرئية الطبيعية".
وحين يخرج القناصون من مواقعهم وهم يرتدون بذلات غيلي المموهة، غالباً ما يبدون مثل الشجيرات أو غير ذلك من الأغطية المحاكية للبيئة المحيطة لمواقع التخفي. وقد شهدت بذلات التخفي تطورات كثيرة بمرور الوقت، وبعد أن كانت تُستخدم شبكة من أنسجة الخيش، صارت بذلات غيلي المموهة تعتمد على مواد أخف وزناً وأقل قابلية للاشتعال، وتوفر قدرة أكبر على التنفس.
ركيزة الحركة
مهما أحسن القناص اختيار موقع الاختباء، فإن أقل حركة قد تكشف عن مكانه في التو. لذا يحسب القناص كل خطوة له بعناية، فيدخل لتنفيذ مهمته، ويخرج بلا توانٍ ولا تردد. ومن أوائل الأمور التي يتعلمها طلاب دورات القنص في التدريبات، التموقع وتغطية مساحة لا بأس بها من الأرض دون أن يُكتشف مكانه. وإلى جانب مشية القناص، فهناك خمس تقنيات أخرى للحركة يستخدمها القناص في التخفي.
– الزحف المنخفض: وتُستخدم هذه التقنية حين تكاد تنعدم وسائل التغطية والإخفاء، ويتحرك فيها القناص بدفعِ أصابع قدميه والسحب بأطراف أصابعه. وهي التقنية الأبطأ والأكثر إرهاقاً في هذه التقنيات.
– الزحف المتوسط: وتستخدم هذه التقنية حين تكون وسائل تغطية الحركة قليلة أيضاً، لكن الحركة هنا أسرع قليلاً من الزحف المنخفض، وتختلف هذه التقنية عن الأولى في أن القناص يعمد فيها إلى ثني إحدى الساقين لزيادة قوة الدفع والتحكم في ركبته. ومن المهم أن يتجنب القناص تبديل الأرجل أثناء الحركة بهذه التقنية لكي يتحاشى بروز المؤخرة صعوداً وهبوطاً.
– الزحف العالي: ويُتيح هذا الأسلوب الركون إلى مواضع ارتكاز متعددة في وقت واحد، ويعتمد على رفع الجذع قليلاً باستخدام المرفق، للدفع مع الساقين. ويُسمح بالتبديل عند الدفع بالمرفقين، ويمكن للقناص أن يغير الساق التي يدفع بها إذا أصابه ألم أو تعب.
– زحف اليدين والركبتين: ولا تُستخدم هذه التقنية إلا إذا توفر قدر كافٍ من وسائل التغطية على حركة القناص، وإن كان لا بد أن تكون الحركة صامتة أيضاً. ويمكن هنا استخدام الركبتين واليدين. والأولى أن يضع القناص ركبته في المكان ذاته الذي رفعت عنه يديه للتو، لكي يتجنب تحريك أي شجيرة من موضعها.
– مشية القناص: وهذا هو الأسلوب الوحيد الذي لا يعتمد على الزحف بين تقنيات التمويه لدى القناص، ومع ذلك، فمشية القناص مشية جاثمة تعتمد على الانحناء. وتُستخدم حين يتوفر غطاء كافٍ للحركة، وتكون هناك حاجة إلى قطع مسافة كبيرة في وقت قصير. ومع ذلك، ينبغي التنبه إلى إخفاء الظلال وتجنب تحريك الشجيرات بالقدر الممكن. ويوضح الرقيب بيزا ذلك بالقول: "مشية العقب ثم الأصابع خطوة بخطوة تتيح الحركة على نحو وئيد ومتوازن".
وتعتمد جميع تقنيات الحركة على مقدار التغطية المتوفرة في محيط القناص، والسرعة التي ينبغي أن يتحرك بها. ومع ذلك، فإن التحرك بكفاءة من دون أن يُكتشف مكانك لا يتوقف على إخفاء أثرك المرئي فحسب، بل وتقليل أثرك الصوتي أيضاً.
ركيزة الصوت
أهون صوت يصدر عن القناص، ولو كانت الخشخشة الصادرة عن انكسار غصين في الأرض، يمكن أن يكشف عن موقعه. ويقول الرقيب بيزا: "يبذل القناص وسعه لإسكات أي شيء يحدث صوتاً أثناء الحركة، سواء أكان ذلك مُعداته، أم بذلته، أم غير ذلك".
ويشير بيزا إلى أن وضع القدم أمر بالغ الأهمية في إخماد الصوت الصادر عن القناص في مشيته؛ ومشية العقب ثم الأصابع تساعد في ذلك، وينبغي للقناص أن يحرص كذلك على توزيع وزنه على خطوتي قدمه، لا سيما حين يصعب تجنب الأغصان والعوائق المزعجة التي قد تعرض له أثناء الحركة.