قبيل اللقاء بين وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هذا الأسبوع، أبدى مسؤولون أمريكيون وعرب قدراً من التفاؤل الحذر بشأن ردِّ حركة حماس على مقترح الهدنة الذي قدمه لها الوسطاء لتهدئة الحرب في قطاع غزة. ولكن لم تكد تمضي بضع ساعات على لقاء نتنياهو وبلينكن، إلا وأظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي عزماً أكبر على مخالفة هذا التفاؤل، ومخاطبة جمهوره اليميني بكلام حماسي يستجلب تأييده، ما أصاب البيت الأبيض بحالة من التذمر والغضب.
جولات مكوكية فاشلة.. نتنياهو يثير توتر الأمريكيين مجدداً
تقول صحيفة The New York Times الأمريكية إنه بدلاً من أن يظهر نتنياهو إلى جانب وزير الخارجية الأمريكي بعد لقائهما يوم الأربعاء 7 فبراير/شباط -كما هو معتاد في مثل هذه الزيارات- استبق نتنياهو المؤتمر، واستنكر في اجتماعه المنفرد مع الصحفيين الردَّ الفلسطيني الذي عدَّه الأمريكيون مدخلاً محتملاً لحلِّ تفاوضي.
وقال نتنياهو: "إن الاستسلام لمطالب حماس السخيفة -التي سمعناها للتو- لن يؤدي إلى تحرير (الرهائن)، ولن يقودنا إلا إلى مذبحة أخرى". ومع ذلك، قدم بلينكن في المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد وقت قصير تقييمه الخاص، والأكثر توازناً بكثير من رأي نتنياهو، لعرضِ حماس، وقال وزير الخارجية الأمريكي إن العرض "وإن كان يحتوي على بنود لا يمكن الموافقة عليها مطلقاً"، "فإنه يترك أيضاً فسحة تُتيح التوصل إلى اتفاق"، حسب تعبيره.
اختتم بلينكن يوم الخميس 8 فبراير/شباط زيارته الخامسة إلى الشرق الأوسط خلال أربعة أشهر من بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وكان من الواضح في ختام الزيارة أن العلاقات بين نتنياهو وإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن باتت مشحونة بالتوترات. وقد أثار ذلك أسئلة عن طول المدة المتوقعة من أجل التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب الجارية في غزة.
قال بلينكن قبيل زيارته إنه يسعى لتمهيد الطريق أمام هدنة في غزة، وإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين، ثم الشروع في عملية سلام أوسع في المنطقة. لكن يبدو أن وزير الخارجية الأمريكية قابلَ عقبات في زيارته، ومن أبرزها الضغوط السياسية الداخلية الكبيرة التي تواجه رئيس الوزراء الإسرائيلي.
حاول بلينكن أن يقنع نتنياهو بأن الولايات المتحدة، ومعها الحلفاء العرب، سيقدمون لإسرائيل حوافز كبيرة من أجل التوصل إلى اتفاق سلام. وتشمل هذه الحوافز الانفتاح على المساعدة في إعادة بناء غزة، واحتمال إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين إسرائيل والسعودية، وذلك إذا وافق الإسرائيليون على التفاوض في عملية تؤدي إلى الاعتراف بدولةٍ فلسطينية وتفضي إلى حكم فلسطيني في قطاع غزة.
ولكن الواضح أنه ما دام نتنياهو يُعطي الأولوية لإرضاء جمهوره في المفاوضات مع حماس، فإن ذلك سيزيد من الضغوط على الزعماء العرب الذين لا ينفك استياءهم يتزايد بسبب ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في غزة.
ومع ذلك، قال بلينكن: "سيكون الأمر متروكاً للإسرائيليين ليقرروا ما يريدون فعله، ومتى يريدون ذلك، وكيف يريدون ذلك"، و"لن يتخذ أحد هذه القرارات نيابةً عنهم. وكل ما يمكننا فعله هو أن نبيِّن الاحتمالات، والخيارات، وما يمكن أن يكون عليه المستقبل، ومقارنته بالبديل. والبديل الظاهر لنا الآن هو حلقة لا نهاية لها من العنف والدمار واليأس". لكن، وعلى الرغم مما عرضه بلينكن من مكاسب محتملة لاتفاق السلام، فقد بدا نتنياهو عازماً على المضي قدماً في طريق الحرب.
هآرتس: رصيد نتنياهو ينفد لدى البيت الأبيض
وفي السياق نفسه، قالت صحيفة Haaretz الإسرائيلية إن زيارة بلينكن كشفت عن عمق خلافات الإدارة الأمريكية مع نتنياهو، وقلة ثقتها به، ونفاد صبرها عليه. وذهبت الصحيفة إلى أن الخلاف في التوجه بين رئيس الوزراء وواشنطن ليس مجرد نزاع سياسي، بل هو صراع بين رؤية الحكومة الإسرائيلية ومصالح الولايات المتحدة.
ولذلك، فكلما تجاوز أعضاء الائتلاف الإسرائيلي الحاكم الحدود المسموحة، وتهجموا على الرئيس الأمريكي بالنقد والإساءة، فإنهم يخصمون أكثر فأكثر من رصيد الثقة المتهاوي برئيس الوزراء الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة، بحسب الصحيفة.
وأشارت الصحيفة الإسرائيلية إلى أنه في كل مرة يبدو فيها أن الولايات المتحدة قد ضاقت ذرعاً، وتحاول التوفيق بطريقة أو بأخرى بين دعمها عميق الجذور لإسرائيل من جهة، وقلة الثقة المتزايد بنتنياهو والاستياء منه من جهة أخرى، فيما تأتي زيارة أخرى لوزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن لتكشف أن الخلافات تتزايد، والثقة تتناقص، أي أن الأمور لا تتحسن، بل تتفاقم سوءاً.
ونقلت الصحيفة الإسرائيلية عن نائبين مؤيدين لإسرائيل في الكونغرس الأمريكي، أن "الإدارة الأمريكية على وشك اتخاذ قرار لا مفر منه"، لأنها ترى أن "المسار الذي اتخذته الأمور طوال 18 أسبوعاً لا يمكن أن يستمر، وأن نتنياهو لم يترك للإدارة أي خيار ولا مجال للمرونة. وبايدن يدفع ثمناً سياسياً لدعمه الكبير وغير المحدود لإسرائيل، وأن صبره وتسامحه قد بلغا حدَّهما الأقصى".
وذكرت الصحيفة الإسرائيلية أن زيارة بلينكن السابعة إلى إسرائيل منذ بداية الحرب كشفت بوضوحٍ فجٍّ عن اشتداد وطأة الخلافات في الرأي بين واشنطن وتل أبيب. وأول علامة على ذلك ظهرت في بيان بلينكن حين قال إن "تجريد الإسرائيليين من إنسانيتهم في 7 أكتوبر/تشرين الأول لا يعني التصريح بتجريد أناس آخرين من إنسانيتهم". وترى "هآرتس" أن تصريحات بلينكن تشير إلى عدم رضاه عن الدمار المتراكم الذي أحدثته إسرائيل في غزة، وارتفاع عدد الضحايا الفلسطينيين إلى أكثر من 27 ألف شهيد.
"تناقض جوهري مع مصالح الولايات المتحدة"
لم تتلق الولايات المتحدة حتى الآن رداً إسرائيلياً بشأن خطتها للتعامل مع قطاع غزة بعد الحرب، ولا استمعت لرأي سياسي متماسك منها بشأن الأمر. بل تجاهلت إسرائيل أو رفضت كل فكرة طرحتها الولايات المتحدة في هذا الأمر من دون الدخول في نقاش جدي بشأنها. وقد أوشكت الإدارة الأمريكية على الضيق ذرعاً بشعارات نتنياهو عن "النصر الكامل"، و"لن أسمح بأن تتحول (حماس ستان) في غزة إلى (فتح ستان)".
وقالت الصحيفة الإسرائيلية إن الخلافات الحالية ما انفكت تفضي إلى خلافات بشأن الجانبين على خطة الإدارة الأمريكية طويلة الأمد، والتي تسعى فيها إلى إنشاء بنية أمنية سياسية جديدة في الشرق الأوسط، وتكامل إقليمي جديد يتضمن التطبيع مع السعودية وقطر والبحرين، وترتيبات إقليمية أخرى لم يكشف عن تفاصيلها أو لم تكتمل بعد.
وترى "هآرتس" أن الإدارة الأمريكية أدركت أن نتنياهو يستغل أي تلميح منها عن الاعتراف بدولة فلسطينية لترويجِ روايته الكاذبة للأحداث داخل إسرائيل، وصرف الأنظار عن مسؤوليته عما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول، والزعم أن القضية حالياً هي مقاومته البطولية لمحاولة فرض دولة فلسطينية على إسرائيل.
ولا يزال نتنياهو يرى أنه من الممكن التوصل إلى اتفاق مع السعودية إذا دفع الأمريكيون الثمن الذي تريده الرياض، وأنه من الممكن تجاهل الفلسطينيين، وكأن السابع من أكتوبر/تشرين الأول لم يحدث قط. وفي المقابل، ترى الإدارة الأمريكية أن هذا لم يعد مجرد نزاع سياسي، بل تناقض جوهري مع مصالح الولايات المتحدة.