"ابتزاز أوروبا اقتصادياً" هكذا يمكن وصف العلاقة بين أمريكا وأوروبا، بعدما ورطت واشنطن الأوروبيين في عداء مع الصين وروسيا، من خلال محاولة تقسيم العالم إلى فسطاطين أحدهما غربي بقيادتها.
ولقد استطاع بايدن أن يفعل ذلك بمهارة واضحة.
فعندما انتخب الرئيس بايدن أعلن بأن "أمريكا قد عادت" في عام 2021، وهذا حظي بترحيب المسؤولين الأوروبيين، الذين كانوا متحمسين لتجاوز مشكلاتهم التجارية مع إدارة ترامب،
ولكن بدلاً من سلك مسار معاكس للسياسات التي حرّكت نظرة دونالد ترامب الحمائية، جاء بايدن ليطور الكثير من تلك السياسات، (ويرسخها)، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
السياسات الاقتصادية الأمريكية تهدد مصالح الأوروبيين ولهذه الأسباب لا يستطيعون التصدي لها
أصبحت لدى العديد من الأوروبيين قناعة بأن السياسات الاقتصادية الأمريكية قد انحرفت بعيداً عن مصالحهم، بغض النظر عن هوية الفائز في مباراة العودة المتوقعة بين بايدن وترامب. حيث قال أحد الدبلوماسيين الأوروبيين: "لقد انتهى شهر العسل".
ويتساءل الدبلوماسيون والمسؤولون الأوروبيون عما إذا كان بإمكان الكتلة الاعتماد على الولايات المتحدة للاستمرار في دعم نظام التجارة القائمة على القواعد -أم هل يواجهون احتمالية نشوب صراع اقتصادي بين الحلفاء القدامى.
إذ أفادت مصادر مطلعة على المحادثات بأن وزير التجارة الخارجية الفرنسي أوليفييه بيشت قال لممثلة التجارة الأمريكية كاثرين تاي، خلال زيارةٍ إلى واشنطن الشهر الماضي: "نحن زوجان عجوزان، ولدينا مشكلاتنا. لكن يجب أن نكون حريصين على إدارة خلافاتنا التجارية".
وسيتعيّن على الرئيس الأمريكي التالي أن يجتاز سيلاً من النقاشات الاقتصادية الشائكة حتى يحافظ على سلامة ذلك الزواج. حيث تستطيع كل قضية من تلك القضايا أن تثير مشاحنات دبلوماسية، أو تعريفات جمركية، أو غيرها من قيود التجارة التي ستضعف الوحدة الاقتصادية بين الولايات المتحدة وبين أوروبا. ومن المحتمل أن تكون المخاوف بشأن عدوانية موسكو وقوة الصين الاقتصادية هي سبب تردد أوروبا -حتى الآن- عن الوقوف بقوةٍ أكبر في وجه الولايات المتحدة، التي يُنظر إليها باعتبارها أقوى زعماء الغرب.
بايدن احتضن الناتو وعزز العداء لروسيا والصين ولكن يناهض التجارة الحرة
سارع بايدن إلى إعادة احتضان حلف الناتو بعد توليه المنصب في 2021، وهلّل لتوسعة الحلف بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا في العام التالي. وأسفر التزامه بأمن أوروبا عن منح الزعماء الأمل في أن الولايات المتحدة قد غيّرت سياستها.
لكن خيبة الأمل أصابت هؤلاء الزعماء عندما أدركوا أن بايدن يشارك ترامب في جزءٍ من رؤيته للعالم، وذلك في ما يتعلق بالاقتصاد الدولي. إذ صوّر الرئيس ومستشاروه التجارة العالمية بلا قيود على أنها تهديد للأمن القومي، محذرين من أنها فرّغت القاعدة الصناعية الأمريكية وأضرت بالعمالة الأمريكية، كما سمحت للصين بالهيمنة على الصناعات المهمة.
ورفض إلغاء التعريفات الجمركية على الصلب والألومنيوم القادمين من أوروبا
تمثّل أحد الاختبارات المبكرة بالنسبة لإدارة بايدن في كيفية التعامل مع التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب على الصلب والألومنيوم الأوروبيين. إذ علّق الرئيس العمل بتلك التعريفات بعد توليه المنصب. لكنه لم يلغِ الرسوم المفروضة على المعادن بشكل دائم، بل فرض رسوماً أكثر تواضعاً كبّدت مصدّري المعادن الأوروبيين مئات الملايين من الدولارات العام الماضي.
وقد سعى زعماء أوروبا لإقناع بايدن بإلغاء التعريفات مراراً. ففي أكتوبر/تشرين الأول، توجّهت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مع رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل ومسؤولين آخرين من الاتحاد الأوروبي إلى واشنطن لحضور اجتماع قمة، حيث كانوا يأملون إنهاء هذه القضية.
وخلال المحادثات التي سبقت القمة، ضغط المسؤولون الأمريكيون على الاتحاد الأوروبي حتى يفرض تعريفات على المعادن الصينية كجزءٍ من صفقة مقترحة، في خطوةٍ يخشى بعض الأوروبيين أنها قد تنتهك قواعد منظمة التجارة العالمية. وفي الليلة التي سبقت اجتماعات البيت الأبيض، راجع دبلوماسيو الاتحاد الأوروبي البيان المشترك المقترح، الذي جاء نتيجةً لمفاوضات في اللحظات الأخيرة بين الولايات المتحدة وبين الذراع التنفيذية للكتلة. وبعد المراجعة، قال بعض الدبلوماسيين إن البيان أظهر وكأن الكتلة الأوروبية مستعدة لدعم تلك التعريفات كجزءٍ من الاتفاق النهائي.
وقال أحد الدبلوماسيين الأوروبيين: "لقد كان هناك وابل من الدول الأعضاء التي تساءلت: (ما هذا بحق الجحيم؟)".
بينما احتوى البيان الختامي للقمة على أربع جمل فقط حول القضية، وقال إن الجانبين سيواصلان المحادثات.
وقانون دعم السيارات الكهربائية يضر بأوروبا بشدة
في القمة نفسها، حاولت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تجاوز الإحباط المختمر نتيجة قانون خفض التضخم الخاص ببايدن. إذ أغرق التشريع صناعات الطاقة النظيفة بالإعفاءات الضريبية، في محاولةٍ تستهدف جذب الشركات الأجنبية لفتح مصانعها داخل الولايات المتحدة وشراء المواد محلياً. حيث ترمي أحكام هذا القانون بثقل قانون الضرائب الأمريكي وراء مطالبات ترامب للشركات بفتح مصانعها في الولايات المتحدة، وذلك عندما كان رئيساً للبلاد.
ورحّب قادة أوروبا بانضمام الولايات المتحدة إلى المعركة ضد تغير المناخ. لكنهم شعروا بالقلق من أن القانون ربما يعرّض صناعات الطاقة النظيفة الخاصة بهم للتهديد، ويجذب الاستثمارات بعيداً عن الاتحاد الأوروبي.
وخلال عشاء رسمي في البيت الأبيض بعد أشهر قليلة من توقيع بايدن على مشروع القانون، واجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السيناتور جو مانشين الذي كتب جزءاً كبيراً من القانون. وقال له ماكرون، بحسب مصادر مطلعة على المواجهة: "أنت تضر بلدي".
وفي وقت مبكر من العام الماضي، اشتكى المستشار الألماني أولاف شولتز لمانشين من أن الدعم الأمريكي يضر صناعة السيارات الألمانية. لكن مانشين رفض ذلك، وعرض على الزعيم الألماني من هاتفه نتيجة بحث تُظهر أن تعريفات السيارات الخاصة بالاتحاد الأوروبي أعلى من نظيرتها الأمريكية، بحسب مصدر مطلع على الحديث.
وقد تنشب بين الجانبين حرب للضرائب بسبب شركات التكنولوجيا الأمريكية
تفاوضت الولايات المتحدة -في عهد إدارتي ترامب وبايدن- وأوروبا مع زعماء العالم على القواعد الدولية لمنع التهرب الضريبي، والتي وافق عليها الاتحاد الأوروبي. ومن أجل فرض الحد الأدنى من الضرائب على الشركات متعددة الجنسيات، ربما تفرض الدول الأوروبية رسوماً جديدة على الشركات الأمريكية. بينما يهدد الجمهوريون في الكونغرس بفرض الضرائب على الشركات الأوروبية انتقاماً.
إذ قال السيناتور رون إستس: "في حال اختار الناس ذلك الطريق، فسوف نفتح صندوق باندورا ببساطة". وقد سافر هو وغيره من المشرعين الجمهوريين إلى باريس في سبتمبر/أيلول، لتحذير وزير المالية الفرنسي برونو لومير من إبرام تلك الصفقة. لكن لومير أعاد جدولة موعد الاجتماع، ثم قال إنه لا يستطيع الحديث إلى المجموعة، بحسب مصادر مطلعة على الاجتماع.
وإذا انهار الاتفاق الضريبي، فإن الأوروبيين يهددون بفرض ضرائب جديدة للخدمات الرقمية على شركات التقنية الأمريكية مقابل أعمالها داخل الاتحاد الأوروبي، وهي ضريبة أثارت غضب المسؤولين الأمريكيين.
بينما طرح ترامب خلال حملته الانتخابية فكرة فرض تعريفات جمركية بنسبة 10% على جميع الواردات. فيما قالت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد في مقابلة مع التلفزيون الفرنسي إن إعادة انتخاب ترامب ستكون "تهديداً واضحاً" لأوروبا، مستشهدةً بالتعريفات الجمركية ومهاجمة الرئيس السابق للناتو.
ويقول العديد من الأوروبيين إن أكثر ما يخشونه في انتخاب ترامب هو احتمالية تخلي الولايات المتحدة عن أوكرانيا، لتصبح بذلك القوات الروسية موجودةً على أعتاب حدودهم.
وأوضح إريك براتبيرغ من Atlantic Council: "سيؤدي انهيار العلاقة العابرة للمحيط الأطلسي إلى زيادة انقسام العالم، وتعزيز التحدي الاستبدادي للنظام العالمي القائم على القواعد من جانب روسيا والصين -بدرجةٍ متزايدة-".