جاء أنتوني بلينكن إلى المنطقة هذه المرة حاملاً أهدافاً متعددة، لكن هل يمتلك أدوات لتنفيذها؟ الإجابة لدى إسرائيل التي تمتلك أجندة مناقضة لما تريده إدارة جو بايدن.
"بخطط ضخمة وجعبة فارغة" جاء وزير الخارجية الأمريكي إلى المنطقة، هذا ما رصده تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية، يلقي الضوء على الرسالة التي جاء بها بلينكن إلى الشرق الأوسط، ومدى احتمالات استجابة إسرائيل لتلك الرسالة.
كان بلينكن قد زار المنطقة في جولته الرابعة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في زيارات مكوكية تشمل تركيا والأردن وقطر والإمارات والسعودية ومصر ثم إسرائيل، التي يصلها مساء الإثنين 8 يناير/كانون الثاني ويلتقي مسؤوليها الثلاثاء.
ماذا تريد أمريكا الآن؟
شرع بلينكن في هذه الرحلة المكثفة نيابة عن رئيسه، جو بايدن، لمحاولة الترويج لحل الدولتين، كما أعرب الرئيس الأمريكي في مقاله بصحيفة The Washington Post في نوفمبر/تشرين الثاني.
لكن قبل تحقيق هذه الرؤية الرائعة التي ستجلب السلام العالمي، يتعين على بلينكن أن يمر عبر مسار من العقبات، التي تبدو في الوقت الحالي مستحيلة التغلب عليها. وأينما ذهب في المنطقة حتى الآن، فقد سمع رسالة تكاد تكون موحدة، وهي أنَّ الولايات المتحدة عليها الضغط على إسرائيل لحملها على وقف إطلاق النار.
ليس وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار لأسباب إنسانية، من النوع المقصود في صفقة تبادل الرهائن والأسرى، بل وقف كامل لإطلاق النار، على أن تبدأ بعده المفاوضات السياسية. لكن في هذا الطريق – الذي يوجد فيه وحدة رأي بين زعماء الدول العربية وتركيا – هناك علامتا استفهام لا يملك هؤلاء الزعماء إجابة عليهما؛ وهي التفاوض مع من؟ وحول ماذا؟
كانت إسرائيل قد شنَّت منذ عملية "طوفان الأقصى" العسكرية يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول قصفاً جوياً وبحرياً على قطاع غزة تبعه اجتياح بري، معلنةً عن هدفين رئيسيين هما: تدمير المقاومة، وتحرير الأسرى بالقوة العسكرية.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على العملية العسكرية الشاملة، التي بدأت فجر ذلك اليوم، رداً على "الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني". ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسر العشرات من جنود من جيش الاحتلال والمستوطنين وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
الدكتور عبد العزيز بن صقر، مدير مركز الخليج للأبحاث، قال في مقال نشرته صحيفة الشرق الأوسط السعودية يوم الأحد 7 يناير/كانون الثاني، إنَّه "على الولايات المتحدة أن تتعامل مع المرض وليس العرض"، في إشارة إلى الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. ويرى أنَّ "مرض المنطقة يتمثل في عدم حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً يقوم على أساس السلام الشامل، وهو الحل الذي طرحته المبادرة العربية للسلام".
تتمثل أهداف بلينكن من جولته في المنطقة في مناقشة الوضع في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية، ويسعى وزير الخارجية الأمريكي لإقناع زعماء الدول العربية وتركيا بالمشاركة في الحل والتعاون من أجل التوصل إليه، بحسب تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال عنوانه "أمريكا وشركاؤها في الشرق الأوسط يبدأون محادثات ما بعد الحرب على غزة". كما يسعى بلينكن لمنع اتساع نطاق الحرب في غزة.
الوضع في غزة.. الأسئلة الصعبة
أعرب بلينكن للرئيس التركي رجب طيب أردوغان صراحةً عن الرفض الأمريكي لأن تكون حماس طرفاً في أية مفاوضات، سواء المفاوضات السياسية أو بشأن الحلول التالية لانتهاء الحرب. لكنه عرض على أردوغان أن يكون شريكاً في دعم هيئة فلسطينية أخرى توافق على تولي إدارة غزة. وبحسب دبلوماسي تركي تحدث لصحيفة Haaretz، طالب بلينكن أردوغان بإبعاد أعضاء حماس الذين ما زالوا في تركيا، لبناء علاقات أوثق مع السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس، بل تحقق مما إذا كانت تركيا مستعدة للانضمام لتحالف من الدول التي ستشارك في إعادة إعمار غزة بعد الحرب.
بحسب المصدر التركي، تساءل أردوغان عمّا إذا كان بلينكن حصل على موافقة إسرائيلية على إدارة جهة فلسطينية لقطاع غزة؟ وإلا، فما الذي تنوي واشنطن فعله لإجبار إسرائيل على الموافقة على الإدارة الفلسطينية لغزة؟ وكان هذا نفس السؤال الذي سمعه من نظيره الأردني أيمن الصفدي، ثم من الملك عبد الله، الزعيم العربي الأكثر شعوراً بالقلق في ذلك الوقت خوفاً من أن تخطط إسرائيل إلى تنفيذ عملية نقل للسكان الفلسطينيين نحو الأردن.
وخلال لقاءات بلينكن مع قادة قطر والإمارات، وما هو متوقع أيضاً في السعودية ومصر، من الآمن الافتراض أنَّ هذا سيكون السؤال الذي سيأتي في محور المحادثات معهم؛ لأنه حتى لو أراد زعماء الدول العربية المشاركة في إدارة غزة أو الاستثمار في إعادة تأهيلها -وهو ما لا يريدونه- فطالما ليست هناك موافقة إسرائيلية حول كيفية إدارة غزة، وطالما ظلت الولايات المتحدة غير راغبة أو قادرة على فرض نفوذها على إسرائيل، فليس هناك ما يمكن الحديث عنه، بحسب هآرتس.
لكن الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو ترفض الحديث في مسألة الإدارة المستقبلية لغزة، وبالتالي تسعى واشنطن لانتهاج سياسة نزع الفتيل ومنع انفجار الأوضاع. ومن خلال صداقتها في المنطقة، أرسلت تحذيرات وحتى تهديدات لإيران، خشية أن تسمح للاشتباكات الحدودية بين إسرائيل وحزب الله بالتحول إلى حرب شاملة. وتمارس قوة محسوبة -تقتصر على رد الفعل- ضد الحوثيين في البحر الأحمر، وتدفع إسرائيل للسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة بكميات أكبر، وهي المساعدات التي لا تزال بعيدة عن تلبية احتياجات حوالي مليوني نازح في القطاع، كما تطالب واشنطن إسرائيل بالتحرك "بحزم" ضد المستوطنين الذين يرتكبون جرائم متواصلة بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية.
إسرائيل.. العقبة الكبرى
النتيجة في هذا المشهد هي أنَّ القوة الأكبر في العالم تعمل كقوة شرطة محلية تتعامل مع كل قطاع على حدة ـ لبنان، وغزة، والبحر الأحمرـ بدلاً من التعامل مع المهمة الاستراتيجية التي تستطيع إنجازها، بل يتعين عليها ذلك، بحسب هآرتس.
ويترتب على ذلك عاقبتان فوريتان وخطيرتان: الأولى هي أنَّ ذلك يُولِّد لدى إسرائيل شعوراً بعدم الحاجة إلى التخطيط لمرحلة ما بعد الحرب، ولا حتى ظاهرياً، ويزيل الحاجة إلى تحديد أهداف الحرب وعدم الاكتفاء بالشعارات، مثل "القضاء على حماس" و"إزالة التهديد الأمني عن سكان مستوطنة عطاف وشمال إسرائيل"، أو إعادة الأسرى، وهو الهدف الذي يبدو اليوم أبعد بكثير، كما ترى الصحيفة العبرية.
ومن وجهة نظر الدول العربية التي يُطلَب منها حشد قواها لتنفيذ الحل، فإنَّ الولايات المتحدة تعطي إسرائيل ترخيصاً لإدارة حالة حرب دائمة تبني تراكمات من التهديد المتزايد، وتنتج بالفعل تكاليف اقتصادية باهظة؛ بالإضافة إلى الخوف من اضطراب شعبي يمكن أن يهز استقرارها السياسي.
أما العاقبة الثانية، فتتعلق بمكانة الولايات المتحدة في المنطقة. وقد حذر الدكتور عبد العزيز بن صقر، في مقاله بالشرق الأوسط، "على واشنطن أن تدرك أنها ليست اللاعب الوحيد في المنطقة، وأنَّ مصالحها ليست محصورة في أمن إسرائيل فقط، وعليها أن تحافظ على علاقاتها مع السعودية ودول الخليج في إطار من المصداقية والمصالح المتبادلة والشراكة المثمرة من دون إذعان أو فرض إرادات، وعليها التيقن بأنَّ دول المنطقة تعرف مصالحها وتستطيع حمايتها، وهي قادرة على التعامل مع جميع القوى في العالم في إطار من الانفتاح المتزن".
يوضح بن صقر، الذي يعكس موقف القيادة السعودية، صراحةً أنَّ دولاً أخرى مثل الصين وروسيا وإيران تشارك في المنافسة الإقليمية، وتسعى كل منها إلى تثبيت وتعميق قبضتها الاستراتيجية في المنطقة.
وعندما تفشل واشنطن في صياغة ولو حل تكتيكي للحرب في غزة، فإنها في الوقت نفسه تقلب الموازين لصالح إيران، التي صارت دولة محور أساسية بسبب سيطرتها على تحركات حزب الله والميليشيات الشيعية في العراق والحوثيين في اليمن. ومن وجهة نظر دول المنطقة، وبفضل قدرة إيران على تشكيل تحالف من التنظيمات التي تعمل بالوكالة وبالتنسيق مع بعضها، فإنها تُملي أيضاً السياسات في الدول التي تعمل فيها هذه التنظيمات.
في المقابل، لم تتمكن الولايات المتحدة حتى الآن من حشد تحالف لضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر، ولا تتمتع بمكانة قريبة من وضع إيران عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الجبهة اللبنانية، إضافة إلى أنَّ وجودها في العراق يعتمد على حسن نية حكومة مرتبطة بكل الطرق بالقيادة في إيران، تقول هآرتس.
وفي هذا التنافس على المكانة الإقليمية، بل العالم، تحتاج واشنطن إلى صورة المُنتصِر أكثر من إسرائيل. وضرورة إنتاج مثل هذه الصورة جعلت واشنطن تعتمد على تحركات إسرائيل العسكرية والسياسية.
الخلاصة هنا هي أن بلينكن تنتظره الآن مهمة رئيسية واحدة، وهي تقويض الاحتمال أن يجبر هذا الاعتماد واشنطن على الانخراط مباشرةً في الساحة الإقليمية، لكن ليس من المؤكد أنَّ وزير الخارجية الأمريكي يحمل في جعبته الإمدادات اللازمة لتحقيق هذا الهدف، بحسب الصحيفة العبرية.