يمثل موقف الصين من الحرب على غزة "صدمة" لإسرائيل، فما هي الأسباب؟ ولماذا غيرت بكين موقفها من تل أبيب هذه المرة؟
صحيفة Haaretz الإسرائيلية نشرت تقريراً عنوانه: "لماذا تقف الصين إلى صف الفلسطينيين في الحرب مع إسرائيل؟"، رصد الشعور بالدهشة الذي اجتاح إسرائيل في الأيام التي تلت عملية طوفان الأقصى 7 أكتوبر/تشرين الأول.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على العملية العسكرية الشاملة، التي بدأت فجر ذلك اليوم، رداً على "الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني". ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسر العشرات من جنود من جيش الاحتلال والمستوطنين وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
إسرائيل وموقف الصين من الحرب على غزة
وصفت "هآرتس" موقف الصين من الحرب على غزة بأنه "عدائي تجاه إسرائيل"، فقد سلَّطت وسائل الإعلام الصينية الضوء على معاناة الفلسطينيين في قطاع غزة، مع إدانة التصرفات الإسرائيلية، إلى جانب الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار.
كما انعكس دعم الصين المؤكد للفلسطينيين خلال الحرب في زيارة وفد من عدد من وزراء خارجية الدول العربية، بمن في ذلك وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي، إلى بكين في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني. ويبدو أنَّ الصينيين بدأوا أيضاً في الآونة الأخيرة في وضع عقبات بيروقراطية على استيراد الإسرائيليين للمكونات الإلكترونية التي يمكن استخدامها لأغراض عسكرية.
والأحد 7 يناير/كانون الثاني 2024، ذكر موقع جلوبز الإخباري المالي الإسرائيلي أن شركة الشحن الصينية كوسكو علقت عمليات الشحن إلى إسرائيل، بحسب رويترز. وجاء التقرير، الذي لم يتضمن تفاصيل عن أسباب القرار، في وقت تعطلت فيه الممرات الملاحية في البحر الأحمر بسبب الهجمات التي تشنها جماعة الحوثي اليمنية المتحالفة مع إيران. وامتنعت مكاتب كوسكو في إسرائيل عن التعليق. بينما قال مسؤولو موانئ في إسرائيل لرويترز إنهم يتحققون من التقرير.
لماذا تشعر إسرائيل بـ"الدهشة"؟
ما يؤجج من مشاعر الدهشة في إسرائيل إزاء نهج الصين الأخير هو تناقضه مع موقف بكين السابق، الذي كان عنوانه "التحفظ". فعلى الرغم من تاريخها خلال حقبة الحرب الباردة في دعم منظمة التحرير الفلسطينية، تمسكت الصين في العقود الأخيرة بنبرة محايدة إلى حد كبير بشأن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، بهدف الحفاظ على علاقات جيدة مع جميع دول المنطقة.
وفي تقرير لمعهد دراسات الأمن القومي لعام 2021، وصف الدكتور غيداليا أفترمان، من المركز متعدد التخصصات في جامعة رايخمان، سياسة الصين في الشرق الأوسط حتى عام 2012 بأنها "حذرة للغاية وضيقة النطاق". ورغم أن السياسة الصينية صارت أنشط في عهد الرئيس شي جين بينغ، إلا أنها ظلت تتسم بمحاولة الحفاظ على صورة البلاد باعتبارها دولة غير منحازة وبراغماتية نسبياً.
إذاً ما الذي تغير؟ ترى "هآرتس" أن الإجابة تكمن في طموحات الصين العالمية الواسعة وفي مواجهتها المستمرة منذ سنوات مع الولايات المتحدة، وهما عنصران متداخلان. وتتجسد خطط الرئيس شي الطموحة في المشروع الضخم المعروف باسم "مبادرة الحزام والطريق"، التي يشار إليها أحياناً باسم "طريق الحرير الجديد".
ففي هذا الإطار، تعمل الصين على تطوير مشروعات البنية التحتية الضخمة التي تشمل بناء السكك الحديدية والطرق السريعة والموانئ من أجل ربط الصين بأجزاء من أوروبا وآسيا وأفريقيا. ويمثل هذا جزءاً من محاولة بكين المذهلة لتشكيل عمليات العولمة على صورتها الخاصة، وهو طموح يضعها على مسار تصادم مباشر مع الولايات المتحدة.
والواقع أن العلاقات بين بكين وواشنطن باتت تتسم بالتوتر البالغ ودخلت مرحلة أقرب للصراع. ففي مقال نُشِر مؤخراً في صحيفة China Daily الحكومية، وُصِفَت العلاقات الأمريكية الصينية بأنها في حالة من "التوتر الشديد"، ووُصِف سلوك واشنطن بأنه "استفزازي للغاية"، بحسب "هآرتس".
ومن بين الأخطاء الأخرى، يشير المقال إلى دعم واشنطن لتايوان، التي تعتبرها الصين إقليماً صينياً انفصالياً، ودعم حركة الاحتجاج في هونغ كونغ، وتعزيز انضمام الدول الواقعة في المحيطين الهادئ والهندي لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهي المناطق التي تعتبرها الصين منطقة نفوذها، وتهدف إلى "خنق صناعة التكنولوجيا الفائقة الصينية" عن طريق فرض حظر على تصدير الرقائق الإلكترونية المتقدمة إلى الصين.
وورد ذكر الحرب الإسرائيلية على غزة مرتين في مقال الصحيفة الصينية، بطريقة بدت غير متناسقة لكن بمصطلحات جديرة بالملاحظة. وبالتالي، يرى المقال أن تورط الولايات المتحدة في حربي أوكرانيا وغزة (المذكورين بالتزامن في المقال) يدفع الصين للانخراط ويُغرِّقها في المستنقعات الداخلية لدول أخرى؛ وهو إضعاف يشير حتماً إلى صعود قوة الصين.
ومما يسهم أيضاً في التوترات الأمريكية – الصينية، إدانة الولايات المتحدة لبكين بسبب قمعها لأقلية الإيغور المسلمة في مقاطعة شينغيانغ، الذي يتضمن حبس أكثر من مليون شخص في معسكرات العمل. وفي السنوات الأخيرة، تبنت السلطات الصينية أيضاً سياسة متشددة تجاه المسلمين في أجزاء أخرى من البلاد أيضاً. وهدمت المساجد وغيرها من المباني ذات الطراز الشرق أوسطي على نطاق واسع، بحجة أنها تعكس النفوذ الديني الأجنبي. وعلى النقيض مما قد يتوقعه البعض، فإن الصينيين حساسون للغاية تجاه ما يعتبرونه انتقاداً لشؤونهم الداخلية.
الصين وأمريكا
في هذا السياق، تنظر الصين إلى الدعم الأمريكي لحرب إسرائيل على غزة على أنها فرصة للرد على خطاب واشنطن الانتقادي تجاه الصين، مثل قرار وزارة الخارجية الأمريكية في عام 2021 بأن الصين مذنبة بارتكاب "إبادة جماعية" في شينغيانغ. ومن الأمثلة على ذلك تغريدة أصدرتها السفارة الصينية في باريس، تضمنت صورة للمناظر الطبيعية الحضرية المزروعة في شينغيانغ، جنباً إلى جنب مع صورة للدمار الذي أحدثته إسرائيل في غزة.
وتزعم صحيفة هآرتس أن بث صور الدمار في قطاع غزة والتقارير حول العدوان الإسرائيلي المستمر هناك يساعد في صرف انتباه العالم عن الوضع الكئيب للإيغور.
إضافة إلى ذلك، ترى الصحيفة الإسرائيلية أن موقف الصين الحالي يعد مكافأة لحلفائها المسلمين في الشرق الأوسط على دعمهم السابق؛ فعلى سبيل المثال، لم تنتقد إيران ولا المملكة العربية السعودية الصين على الرغم من معاملتها القاسية للإيغور وغيرهم من المسلمين. وفي عام 2019، وقعت عدد من الدول الإسلامية على رسالة تشيد بالصين على "إنجازاتها في مجال حقوق الإنسان".
وبخلاف المنافسة مع الولايات المتحدة، تعكس تحركات الصين حضورها المتنامي في الشرق الأوسط في الأعوام الأخيرة. ويتجلى ذلك، على سبيل المثال، في التحالفات الاستراتيجية والاقتصادية مع دول إقليمية مختلفة، وأبرزها إيران. وكان هناك أيضاً نشاطٌ متزايدٌ في دور الوساطة الدبلوماسية الصيني في الآونة الأخيرة. على سبيل المثال، اضطلعت الصين بدور مهم في إحياء العلاقات الرسمية بين إيران والمملكة العربية السعودية في شهر مارس/آذار الماضي.
وفي اجتماع وزاري لمنتدى التعاون الصيني والعربي في عام 2018، أعلن الرئيس شي أن الدول العربية حليفة طبيعية لمبادرة الحزام والطريق، ووعد باستثمارات وقروض صينية في المنطقة تصل قيمتها إلى 23 مليار دولار. وفي الواقع، تشارك الصين حالياً في العديد من المشروعات الكبيرة في المنطقة، بما في ذلك خط السكك الحديدية السريع من الصين إلى إيران، وخط السكك الحديدية من مكة إلى المدينة المنورة، وإصلاح قناة السويس.
وتصدَّرت إسرائيل أيضاً عناوين الأخبار في هذا السياق. ففي السنوات الأخيرة، شاركت الشركات الصينية في مشروعات البنية التحتية المختلفة في إسرائيل، مثل بناء خط القطار الكهربائي الخفيف في تل أبيب والميناء الجنوبي الجديد المجاور لأسدود، وكذلك تشغيل ميناء حيفا الجديد، الذي استأجرته شركة SIPG التي تسيطر عليها الصين حتى عام 2046. وحدث ذلك على الرغم من الضغوط الأمريكية على إسرائيل، إذ ادعت واشنطن أنَّ الصين ستستغل وجودها في حيفا للتجسس على الأسطول الأمريكي السادس أثناء زياراته هناك.
لكن على الرغم من ذلك، تعتبر الصين عامةً التنافس مع الولايات المتحدة أهم من أية مبادرة. والحقيقة أن التوجه الصيني البارز المناهض لإسرائيل، وتبنيها لخطاب قريب من خطاب العالم العربي، يشكلان دليلاً واضحاً على محدودية التعاون بين إسرائيل والصين وتقارب العلاقات بين زعماء البلدين، بحسب "هآرتس".
وتعتزم الصين، تحت قيادة شي، استعادة وضعها الطبيعي باعتبارها قوة عظمى، وتشكيل مستقبل العولمة وفق الصورة التي تريدها. ولتحقيق هذه الغاية، تحتاج الصين إلى تعزيز قبضتها على مصادر الطاقة وتوسيع نفوذها عبر منطقة أوراسيا، من خلال بناء مشروعات البنية التحتية المختلفة، مثل خطوط السكك الحديدية والموانئ ومصافي التكرير. وحسبما ترى بكين، فإن أفضل فرصة لتحقيق هذه الأهداف هي من خلال تنمية علاقاتها مع الدول العربية وإيران. بينما إسرائيل، بولائها الواضح للولايات المتحدة، تقف ببساطة على الجانب الآخر من تلك المعادلة.