الآن، وقد دخلت الحرب في قطاع غزة شهرها الثالث، يبدو أن السعي لتسوية غزة بالأرض، والذي تسبب في دمار غير مسبوق للناس والبنية التحتية والموائل، لا يمكن وقفه، وهو ما يعزز آراء كثير من الخبراء بأن ما يجري هي جريمة إبادة جماعية، وسط دلائل على استخدام إسرائيل لأساليب مروعة لتنفيذ هذه الإبادة الجماعية بهدف القضاء على وجود الفلسطينيين كشعب وجماعة إثنية قائمة.
لم تنجح الضغوط الأمريكية الحقيقية في الحد من الخسائر في صفوف المدنيين، ولا خطاب الدول العربية -التي لم تتمكن حتى من الاتفاق على إجراءات مشتركة، مثل حظر النفط أو القطع المؤقت للعلاقات الدبلوماسية الرسمية- في وقف أو حتى تخفيف حدة وحشية العدوان الإسرائيلي على غزة. وأثبتت قرارات الأمم المتحدة والاحتجاجات العالمية الحاشدة أيضاً عدم فاعليتها، حسبما ورد في تقرير موقع Middle East Eye البريطاني.
قد يبدو الأمر غير قابل للتصديق، ولكن مصير الملايين من الفلسطينيين سيظل يقرره رجلان فقط: رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والرئيس الأمريكي جو بايدن.
أعلنت إسرائيل أن حملتها ستستمر لعدة أشهر أخرى، وربما دون فترات هدنة إضافية. وبعيداً عن وقف تصعيد الهجوم أو ضمان عدد أقل بكثير من القتلى المدنيين -مثلما دفعت الولايات المتحدة من أجل ذلك، لكن ليس بسبب القلق على حياة الفلسطينيين بقدر ما بسبب المخاوف من حرب إقليمية أوسع نطاقاً والإضرار بالدعم الدولي لواشنطن وتل أبيب- بدلاً من ذلك، قامت إسرائيل بتصعيد هجماتها منذ الهدنة القصيرة التي تم التوصل إليها في نوفمبر/تشرين الثاني.
مما لا شك فيه أن إسرائيل قد ارتكبت بالفعل سلسلة من جرائم الحرب. وهذا ليس مفاجئاً بالنسبة لدولة عملت على مدى عقود من الزمن على مواصلة هذه العادة وتطويرها، بل هو أمر أقل مفاجأةً حين نتذكر أن إسرائيل تأسست على التطهير العرقي، حسب وصف الموقع البريطاني.
كانت جرائم الحرب، والتمييز ضد غير اليهود، وازدراء القانون الدولي، أجزاء رئيسية من الحمض النووي لإسرائيل منذ إنشائها في عام 1948، وحتى قبل ذلك، إذا تذكرنا الجماعات شبه العسكرية الصهيونية مثل الإرغون والهاغاناه. ولكن يدور الآن جدل حول ما إذا كانت مجازر إسرائيل قد وصلت إلى مستوى الإبادة الجماعية بالمعنى القانوني للمصطلح.
هناك العديد من المفاهيم الخاطئة الشائعة حول ماهية الإبادة الجماعية، وأهمها هو أنه لكي تُوصَف الفظائع بذلك، يجب أن تصل إلى حجم ومستوى المحرقة أو إبادة شعب أو مجموعة بأكملها تقريباً. وليس هذا هو الحال هنا.
ما هو تعريف الإبادة الجماعية؟
وفقاً للمادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية، تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية المرتكبة بقصد تدمير جماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، كلياً أو جزئياً: قتل أفراد الجماعة، والتسبب في أذى جسدي أو نفسي خطير لهم، إلحاق ظروف معيشية تهدف إلى تدمير الجماعة، وفرض تدابير تهدف إلى منع الولادات، ونقل الأطفال قسراً إلى مجموعة أخرى.
إن تصرفات إسرائيل في غزة وعواقبها المروعة على جميع السكان المدنيين، إلى جانب التصريحات المتكررة لمسؤولي الدولة الإسرائيلية التي تشير بقوة إلى نية متعمدة للقضاء على أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين أو على الأقل إيذائهم، لا تترك مجالاً للشك في أننا وصلنا بالفعل إلى هذا الحد منذ فترة طويلة. وقد وصف العديد من المسؤولين والصحفيين وأفراد المجتمع المدني هذه الظاهرة علناً بأنها إبادة جماعية.
ورغم بعض التحفظات، يبدو أن هناك إجماعاً بدأ ينشأ بين الأكاديميين، وعلماء القانون، بل وحتى المدعين العامين السابقين في المحكمة الجنائية الدولية، الذين يستطيعون بكل تأكيد الاعتراف بالإبادة الجماعية عندما تتكشف أمام أعينهم.
لقد علمنا التاريخ أن هناك طرقاً عديدة لإبادة مجموعة من الأشخاص أو استنزاف السكان. لكن حملة الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل، والمستمرة منذ عام 1948، تتميز بعدة خصائص: طبيعتها الدائمة، والتنوع بين الإبادة الجماعية "البطيئة" وموجات المذابح الوحشية، ومجموعة غنية من أساليب القتل الجماعي، وفقاً لما ورد في الموقع البريطاني.
وفي اللحظة الراهنة، تقوم إسرائيل بالجمع بشكل منهجي وممنهج بين كل أساليب الموت هذه، ما يؤدي إلى نتائج مروعة. يمكن تحديد ما لا يقل عن ثمانية أساليب للإبادة الجماعية تقاربت في رد فعل الدولة على هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الذي شنته حماس، المحظورة كمنظمة إرهابية في المملكة المتحدة ودول أخرى.
ويبدو أن إسرائيل اغتنمت هذه الفرصة لنقل الإبادة الجماعية البطيئة إلى مستوى جديد كلياً من الوحشية.
التقنيات الثماني لعملية الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل بحق أهل غزة:
1. قتلهم: اقصفوا الفلسطينيين عشوائياً (هنا، قد يكون لاهتمام وسائل الإعلام، والضغوط التي يمارسها الحلفاء مثل الولايات المتحدة، والاحتجاجات الدولية، تأثير معين في كبح جماح إسرائيل). ورغم تأكيدات إسرائيل بأنها تتخذ تدابير لحماية المدنيين، فإن الحقائق على الأرض تظهر خلاف ذلك، حيث يشكل غير المقاتلين الجزء الأكبر من الضحايا. وقد استُهدِفَت المدارس والمستشفيات والمباني السكنية بشكل مباشر.
2. تجويعهم: يجري ذلك من خلال حصار إمدادات الغذاء والمياه. مرة أخرى، هذا ليس بالأمر الجديد. كان ذلك منذ فترة طويلة جزءاً من سياسة إسرائيلية منسقة ومنظمة لحرمان الفلسطينيين حتى من أهم الموارد الأساسية للحياة، وهي المياه، ولكن وصل لمستوى غير مسبوق في حرب غزة الحالية.
3. تجريدهم من الرعاية الطبية: تعمل إسرائيل على مفاقمة عدد الضحايا من خلال تدمير البنية التحتية الطبية، بما في ذلك المستشفيات، وبالتالي ضمان أن العديد ممن كان من الممكن إنقاذهم سيموتون بدلاً من ذلك متأثرين بإصابات لم تُعالَج.
4. العمل على انتشار المرض بين الفلسطينيين: أدى انهيار البنية التحتية الطبية، إلى جانب الظروف المعيشية الكارثية، إلى انتشار الأمراض، ما يهدد بموجة كبيرة أخرى من الوفيات، (، وهي واحدة من أكثر جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بشاعة ووضوحاً في الحرب الحالية).
5. إنهاكهم من خلال عمليات الإخلاء القسري: استناداً إلى الإبادة الجماعية للأرمن، تستخدم إسرائيل الآن إعادة التوطين القسري، أولاً من شمال غزة إلى الجنوب، ثم داخل الجنوب، لإجبار الأشخاص المنهكين والمصابين في كثير من الأحيان على الانتقال من "منطقة آمنة" مزعومة إلى أخرى. وقد قسمت خريطة شبكية نشرتها إسرائيل جنوب غزة إلى مئات من القطع الصغيرة، حيث يضطر الناس إلى التنقل بينها في وقت قصير لتجنب القصف.
6. تدمير البيوت: ما يحدث في غزة هو إبادة بيئية حقيقية. إن حجم الدمار البيئي، من خلال كل شيء، بدءاً من التلوث الدائم إلى الذخيرة العسكرية، هائل ويمكن أن يؤثر على الأجيال القادمة، (وتدمير البيوت يهدف إلى جعل عودة الغزاويين إلى منازلهم مستحيلة).
7. تفتيت مجتمعهم وروابطهم: أدى التدمير المنهجي للهياكل الحكومية والإدارية بحجة محاربة حماس إلى قلب المجتمع الفلسطيني رأساً على عقب. ومن خلال تهجير غالبية سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، تقطع إسرائيل روابطهم الاجتماعية، ومن غير الواضح كيف سيتمكنون من إعادة إنشاء مجتمع في المستقبل، خاصة وأن إسرائيل حاولت ربط جميع المدنيين بحماس وتعتزم الحفاظ على سيطرتها على المنطقة ومواردها في المستقبل المنظور.
8. كسر معنويات الشعب الفلسطيني: على مدى عقود، استخدمت إسرائيل الحرب النفسية لتعزيز الشعور باليأس والعجز بين السكان. وقد كان هذا فعالاً للغاية بين الفئات الأكثر ضعفاً: أطفال غزة، الذين عانى الكثير منهم من الاكتئاب الشديد والأفكار الانتحارية حتى قبل الهجوم الحالي. وبما أن إسرائيل تجعل من المستحيل تقريباً علاجهم، فإن معظمهم سيعانون من صدمة طويلة الأمد.
إن الأساليب الثمانية المذكورة أعلاه كلها أشكال من العقاب الجماعي، ومن المحتم أن تستمر عواقبها لجيل كامل على الأقل، حتى لو انتهت الحرب اليوم.