ترامب يخنق مادورو.. ماذا نعرف عن الحصار النفطي الذي يفرضه الأمريكيون على فنزويلا؟ 

تم النشر: 2025/12/18 الساعة 13:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/12/18 الساعة 13:55 بتوقيت غرينتش
المخدرات ذريعة أم غنيمة النفط؟ ماذا يريد ترامب حقاً من كاراكاس؟ - تعبيرية (عربي بوست)

منذ عودته إلى البيت الأبيض، قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فتح واحد من أكثر ملفات السياسة الخارجية الأمريكية حساسية في نصف الكرة الغربي: فنزويلا. لكن هذه المرة، لم تقتصر المواجهة على العقوبات الاقتصادية أو التصريحات النارية والهجمات اللفظية من ترامب على خصمه مادورو، بل اتخذت شكلاً أكثر مباشرة وخطورة، تمثّل في تحشيد عسكري أمريكي غير مسبوق في منطقة الكاريبي، وهجمات صاروخية قاتلة على قوارب فنزويلية، واعتراض ناقلات في عرض البحر، وحصار فعلي لصادرات النفط الفنزويلية.

يقدَّم ترامب هذا التصعيد في العلن بوصفه جزءاً من "الحرب على المخدرات" وملاحقة العصابات الفنزويلية زاعماً ارتباطها بنظام الزعيم نيكولاس مادورو. غير أن كثافة التركيز الأمريكي على النفط، وتكرار تصريحات ترامب ومساعديه حول "استعادة الحقوق النفطية الأمريكية"، يفتح الباب أمام سؤال مركزي: هل المخدرات مجرد غطاء؟ وهل الهدف الحقيقي لترامب هو نفط فنزويلا، أم إسقاط النظام، أم الاثنين معاً؟

واشنطن تحصار كاراكاس.. ماذا نعرف عن الحصار النفطي الذي فرضه ترامب على فنزويلا؟

أعلن ترامب يوم الثلاثاء 16 ديسمبر 2025 أن "حكومة مادورو الاشتراكية الثورية منظمة إرهابية أجنبية، وتعهد بفرض "حصار كامل وشامل على ناقلات النفط الخاضعة للعقوبات الأمريكية والمتجهة إلى فنزويلا أو منها". ولفرض ذلك الحصار، أشار ترامب إلى السفن الحربية الأمريكية في منطقة البحر الكاريبي، واصفاً الانتشار بأنه "أكبر أسطول تم تجميعه على الإطلاق في تاريخ أمريكا الجنوبية".

وجاءت خطوة ترامب الأخيرة في أعقاب غارة شنتها القوات الأمريكية لاقتحام والاستيلاء على ناقلة نفط قبالة الساحل الفنزويلي تحمل نفطاً بقيمة حوالي 100 مليون دولار، وكان جزء منها مخصصاً لحليف مادورو، كوبا، بحسب ما أفادت مصادر لصحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية.

استولت الولايات المتحدة على ناقلة نفط تُدعى "سكيبر" في منطقة البحر الكاريبي الأسبوع الماضي – البحرية الأمريكية

وتشير تقديرات الصحيفة إلى أن ربع القوات البحرية الأمريكية العاملة تتواجد حالياً في منطقة البحر الكاريبي. وقد فجّرت القوات الأمريكية أكثر من 20 زورقاً سريعاً تزعم واشنطن أنها تُستخدم لتهريب المخدرات، كما حلّقت قاذفات ومقاتلات فوق السواحل الفنزويلية.

وتقول مجلة بوليتيكو الأمريكية، إن الحصار النفطي الذي فرضته إدارة ترامب لا يشبه العقوبات التقليدية التي تعتمد على القوانين والقيود المالية فقط، بل هو حصار ميداني فعلي، تُنفّذه القوات الأمريكية عبر اعتراض ناقلات النفط قبالة السواحل الفنزويلية، واحتجاز شحناتها، والتلويح بتوسيع هذه العمليات.

الهدف المعلن، وفق مصادر في الإدارة الأمريكية، هو خنق مصادر تمويل نظام مادورو، والتي تُختزل في ثلاثة محاور: تهريب النفط، تهريب المخدرات، وتجارة الذهب غير المشروعة. وتعتقد الإدارة أن ضرب هذه الموارد معاً سيجعل بقاء النظام مستحيلاً.

لكن بوليتيكو تشير بوضوح إلى أن الاستراتيجية الحالية تقوم على الضغط التدريجي، لا على ضربة واحدة حاسمة. فترامب، الذي لوّح مراراً بالخيار العسكري، يبدو هذه المرة ميالاً إلى رفع سقف التهديدات خطوة خطوة، إلى درجة تجعل التراجع السياسي صعباً، سواء له أو لمادورو.

هل المخدرات مبرر حقيقي لهذا الهجوم والحصار النفطي؟

تُجمع صحيفتي نيويورك تايمز وفاينانشيال تايمز على أن تبرير الحرب على المخدرات يبدو هشّاً عند التدقيق. ففنزويلا ليست منتجاً رئيسياً للمخدرات، ومعظم الكوكايين الذي يمر عبر أراضيها يتجه إلى أوروبا، لا إلى الولايات المتحدة. كما أن دورها في تجارة المخدرات أقل بكثير من دول أخرى في المنطقة.

هذا التناقض أضعف السردية الرسمية الأمريكية، لا سيما مع لجوء ترامب إلى مصادرة شحنات النفط واحتجاز الناقلات، وهو إجراء يصعب تبريره قانونياً على أساس مكافحة المخدرات وحدها، بحسب ما أشار خبراء لصحيفة نيويورك تايمز.

ولخص ريتشارد هاس، الرئيس السابق لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، هذا الإشكال بقوله إن المبررات المطروحة من قبل إدارة ترامب: المخدرات، الهجرة، أو الأمن القومي، لا تصمد وحدها، بينما يبقى النفط هو العامل الوحيد الذي يفسر حجم التصعيد.

وتمتلك فنزويلا أكبر احتياطيات نفطية مؤكدة في العالم، تُقدّر بنحو 303 مليارات برميل أي نحو 17% من الاحتياطي العالمي المؤكد. غير أن هذه الثروة الهائلة لا تنعكس على مستوى الإنتاج الفعلي، الذي يُعد اليوم متواضعا مقارنة بحجم الاحتياطيات. ولعل هذا التباين بين الاحتياطيات وحجم الإنتاج يضع فنزويلا في صلب الاهتمام الأميركي.

وفق نيويورك تايمز، فإن الوصول إلى احتياطيات فنزويلا النفطية الهائلة يُعد أولوية مركزية داخل إدارة ترامب. وترامب نفسه لم يُخفِ رغبته في "أخذ النفط" في أكثر من مناسبة، سواء في سياق حديثه عن سوريا أو العراق أو ليبيا، أو في تصريحاته المباشرة حول فنزويلا، حين قال إن الشركات الأمريكية "طُردت" من فنزويلا وإن الولايات المتحدة "تريد استعادة نفطها".

وقال ترامب في خطاب ألقاه أمام الجمهوريين في ولاية كارولاينا الشمالية عام 2023: "عندما غادرت (الولاية الأولى)، كانت فنزويلا على وشك الانهيار. كنا سنستولي عليها، وكنا سنحصل على كل ذلك النفط، وكان سيصبح على مقربة منا".

وذهبت تصريحات ستيفن ميلر، نائب رئيس الأركان الأمريكي، إلى أبعد من ذلك، حين تحدث عن النفط الفنزويلي بوصفه "ثروة أمريكية مسروقة"، في إشارة صريحة إلى التأميم الذي بدأ في السبعينيات وتكرّس في عهد هوغو تشافيز.

وكتب ميلر في منشور على موقع X : "لقد ساهم العرق الأمريكي والإبداع والكدح في إنشاء صناعة النفط في فنزويلا. وكان الاستيلاء الاستبدادي عليها أكبر عملية سرقة مسجلة للثروة والممتلكات الأمريكية. ثم استُخدمت هذه الأصول المنهوبة لتمويل الإرهاب وإغراق شوارعنا بالقتلة والمرتزقة والمخدرات."

وكانت الشركات الأمريكية حاضرة بقوة في قطاع النفط والغاز الفنزويليين حتى سبعينيات القرن الماضي. في ذلك العقد، وضع القادة الفنزويليون القطاعين تحت سيطرة الدولة، مؤسسين شركة النفط الفنزويلية PDVSA، في خطوة مثّلت علامة فارقة في الحركات الديمقراطية والقومية في البلاد. وقد كرّس الزعيم الراحل هوغو تشافيز، هذا الأمر في الدستور بعد توليه السلطة عام 1999.

وما يغري ترامب بالنفط الفنزويلي، هو التصريحات المتكررة لماريا كورينا ماتشادو، زعيمة المعارضة الفنزويلية المدعومة أمريكياً، والحائزة على جائزة نوبل للسلام مؤخراً. ففي كلمة لها خلال مؤتمر أعمال في ميامي حضره مسؤولون تنفيذيون وسياسيون أمريكيون، بمن فيهم الرئيس ترامب، قالت ماريا في خطاب عبر البث المباشر عن النفط الفنزويلي: "أنا أتحدث عن فرصة بقيمة 1.7 تريليون دولار".

وسلطت كورينا الضوء على احتياطيات فنزويلا الهائلة من النفط والغاز قائلةً أمام ترامب: "سنفتح جميع القطاعات في البلاد، من التنقيب والإنتاج إلى النقل والتكرير والتسويق، أمام جميع الشركات"، فضلاً عن مواردها المعدنية وبنيتها التحتية للطاقة. وقد ظلّت رسالة كورينا ثابتة منذ مطلع هذا العام، حين تفاخرت بـ"الإمكانات اللامحدودة" لبلادها أمام الشركات الأمريكية في بودكاست استضافه نجل الرئيس الأكبر، دونالد ترامب الابن.

وتحدثت ماريا مراراً عن كيفية إعادة تشكيل قطاع النفط في حال توليها السلطة. وقالت في حديث مصور في يونيو/حزيران الماضي مع مجلس الأمريكتين، وهو مجموعة أعمال في نيويورك، إنها ستنفذ "عملية خصخصة" وستنشئ وكالة وطنية لفتح القطاع أمام الاستثمار الخاص. وأضافت أن الهدف هو أن تنتج فنزويلا حوالي ثلاثة ملايين برميل من النفط يومياً خلال عشر سنوات، أي ثلاثة أضعاف معدل الإنتاج الحالي.

لماذا الصين في قلب المعادلة؟

لا يمكن فهم الحصار النفطي دون إدراك البعد الجيوسياسي المتعلق بالصين. فبحسب خبراء نقلت عنهم نيويورك تايمز، لا توجد دولة تمتلك نفوذاً في قطاع النفط الفنزويلي أكثر من بكين، التي تستحوذ على نحو 80% من صادرات فنزويلا النفطية حالياً.

من منظور إدارة ترامب، فإن إخراج الصين من فنزويلا لا يقل أهمية عن إسقاط مادورو نفسه. فالصراع هنا لا يدور فقط حول النفط، بل حول النفوذ في نصف الكرة الغربي، ومنع الصين من ترسيخ موطئ قدم استراتيجي قرب الولايات المتحدة.

ولهذا السبب، دعمت الإدارة الأمريكية شخصيات معارضة مثل ماريا كورينا ماتشادو، التي تعهدت علناً بفتح قطاع النفط أمام الشركات الأمريكية، وخصخصته، وتقليص الدور الصيني والروسي.

وتُعدّ شركة النفط الوطنية الصينية (CNPC)، وهي شركة مملوكة للدولة تُقيم مشاريع مشتركة مع شركة النفط الفنزويلية (PDVSA)، أكبر شركة أجنبية تستثمر وتُدير عمليات في قطاع النفط الفنزويلي. إلا أنها اتخذت منذ عام 2019 دورًا أقل نشاطًا في فنزويلا تجنبًا لانتهاك العقوبات الأمريكية. وفي العام الماضي، وقّعت شركة صينية خاصة، هي شركة تشاينا كونكورد ريسورسز، عقدًا لمدة 20 عامًا مع شركة PDVSA لاستثمار أكثر من مليار دولار لتطوير حقول النفط الفنزويلية.

وقبل نحو عام، تفاوض المسؤولون الأمريكيون مع مادورو بشأن ترتيبات محتملة لإخراج شركات النفط الصينية والروسية من فنزويلا وفتح دور أكبر للشركات الأمريكية. وقلّصت الصين استثماراتها المباشرة في الصناعة الفنزويلية خلال السنوات الأخيرة. وأفاد مسؤولون أمريكيون بأن مادورو أبدى اهتماماً بجذب المزيد من الاستثمارات الأمريكية، إلا أنه ظل مصراً على البقاء في السلطة، ما أدى إلى توقف المحادثات.

هل يريد ترامب الاستحواذ على النفط فقط أم إسقاط النظام؟

بحسب نيويورك تايمز، فالانقسام داخل الإدارة الأمريكية واضح. فهناك تيار، يقوده وزير الخارجية ماركو روبيو، يرى أن مادورو لا يمكن الوثوق به، وأن أي اتفاق نفطي معه سيكون مؤقتاً، وبالتالي فإن إسقاطه هو الطريق الوحيد لضمان مصالح واشنطن.

في المقابل، جرت محاولات تفاوض سرية مع مادورو، قادها مبعوثون أمريكيون، عرض خلالها فتح قطاع النفط أمام الشركات الأمريكية مقابل تخفيف الضغط. لكن ترامب، بحسب المصادر، رفض هذه العروض، مقتنعاً بأن مادورو يماطل لكسب الوقت.

النتيجة أن الهدفين -النفط وتغيير النظام – اندمجا في استراتيجية واحدة: خنق الاقتصاد النفطي الفنزويلي إلى درجة تدفع إما لانهيار النظام من الداخل، أو لتبرير تدخل عسكري مباشر.

وبدأت معالم هذا الخنق تظهر بالفعل، فاقتصاد فنزويلا يعتمد شبه كلي على النفط. ومع الحصار، باتت البلاد تواجه خطر توقف الصادرات خلال أيام بسبب محدودية قدرات التخزين ونقص المواد اللازمة لتخفيف الخام الثقيل، بحسب مصادر داخل شركة PDVSA نقلتها فاينانشيال تايمز.

وفي الداخل، تسارعت وتيرة تدهور العملة، وشحّت الدولارات، وتوقع اقتصاديون أن يتجاوز التضخم 500%. صحيح أن النظام لا يزال يمتلك مصادر دخل غير رسمية، مثل الذهب والتهريب، لكنها غير كافية لتعويض خسارة النفط.

لكن بالنسبة لاحتمالية انعكاس حصار النفط الفنزويلي على أسعار النفط العالمية، فنزويلا نفسها خرجت عملياً من دورها كلاعب مؤثر في سوق النفط منذ سنوات، لكن احتياطياتها تجعلها ورقة استراتيجية طويلة الأمد، لا سيما في صراع الطاقة العالمي.

وحتى الآن، لم يؤدِّ الحصار إلى قفزة حادة في الأسعار العالمية، بسبب وجود فائض نسبي في المعروض، وقدرة دول أخرى على التعويض. لكن أي تصعيد عسكري أو تعطيل طويل الأمد للإمدادات قد يغيّر هذا التوازن، خصوصاً إذا تزامن مع أزمات في مناطق إنتاج أخرى.

هل يستطيع مادورو الصمود أمام حصار ترامب وهجماته؟

تقول فاينانشيال تايمز إن مادورو واجه أزمات مشابهة في ولاية ترامب الأولى ونجا منها. لا يزال الجيش موالياً له، ولا يزال بعض النفط يتدفق، ولا تزال شركة شيفرون تعمل بترخيص خاص.

لكن الحصار الحالي أوسع وأخطر، ويُعد عملاً حربياً أكثر منه أداة ضغط اقتصادية. ومع ذلك، يشكك كثيرون من الخبراء في قدرة الضغط وحده على إسقاط النظام دون تدخل عسكري مباشر.

في النهاية، يبدو أن ترامب يسعى إلى أقصى قدر من الضغط بأقل قدر من المخاطر المباشرة، لكنه في الوقت نفسه يرفع سقف المواجهة إلى مستويات يصعب التراجع عنها. النفط هنا ليس مجرد مورد اقتصادي، بل أداة سياسية وجيوسياسية لإعادة تشكيل فنزويلا، وإضعاف الصين، وترسيخ الهيمنة الأمريكية في المنطقة.

السؤال لم يعد ما إذا كان مادورو سيصمد أياماً أو أشهراً، بل ما إذا كانت واشنطن مستعدة لتحمّل كلفة ما بعد السقوط، إن حدث. فالتاريخ القريب في العراق وليبيا يقدّم دروساً قاسية: إسقاط النظام أسهل بكثير من إدارة الفوضى التي تليه. وإن كان النفط هو الجائزة، فإن الطريق إليه يمر عبر حقل ألغام سياسي وعسكري قد يحرق المنطقة بأكملها، لا فنزويلا وحدها، بحسب إدوارد فيشمان، الخبير المتخصص السابق في العقوبات بوزارة الخارجية الأمريكية.

ويقول فيشمان وهو ومؤلف كتاب "نقاط الاختناق" ، الكتاب الذي يتناول العقوبات الاقتصادية، إن "الضغط العسكري هو المفتاح للإطاحة بمادورو". وقال: "إن تغيير الأنظمة ليس هدفاً قابلاً للتطبيق للعقوبات. هناك أمثلة قليلة جداً في التاريخ حيث أدى الضغط الاقتصادي السلمي إلى تغيير الأنظمة… ولكن عندما سعت الولايات المتحدة إلى استخدام القوة العسكرية لتغيير الأنظمة، سواء في أفغانستان أو العراق، فقد نجحت. الجزء الأصعب هو: هل يمكنك السيطرة على التداعيات بعد ذلك؟"، بحسب تعبيره.

تحميل المزيد