في ظل تصاعد التوترات الدولية والمنافسة في امتلاك أسلحة الردع بين القوى الكبرى، تحتل الأسلحة فرط الصوتية موقعاً متقدماً في سباق التسلح بين قوى مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها من أكثر منظومات الصواريخ تطوراً وتأثيراً على موازين الردع. هذه الأسلحة، التي تتحرك بسرعات تفوق 5 أضعاف سرعة الصوت وتتمتع بقدرة عالية على المناورة، تُعد كابوساً لأنظمة الدفاع الجوي التقليدية، وتمنح الدول المالكة لها قدرة على توجيه ضربات سريعة ودقيقة يصعب اعتراضها أو التنبؤ بمسارها.
في هذا السياق، تسعى الولايات المتحدة إلى تضييق الفجوة مع كل من الصين وروسيا، اللتين سبقتا واشنطن في إدخال صواريخ فرط صوتية إلى الخدمة الفعلية بوقت طويل. وكشفت الولايات المتحدة مؤخراً عن صاروخ "دارك إيجل" "Dark Eagle" أو "النسر الأسود" بوصفه حجر الزاوية في الجهود الأمريكية لاستعادة التفوق أو على الأقل تحقيق توازن في هذا المجال. فبعد سنوات من التأخير والاختبارات المعقدة، بدأت تتكشف تفاصيل أوضح عن قدرات هذا الصاروخ ومداه، وطبيعته التدميرية، والدور الذي يُنتظر أن يلعبه في العقيدة العسكرية الأمريكية خلال السنوات المقبلة.
ما هو صاروخ "دارك إيجل" فرط الصوتي الأمريكي؟
بحسب ما هو متاح من معلومات حوله، يعد هذا الصاروخ أول سلاح فرط صوتي حقيقي مُقرر استخدامه في الخطوط الأمامية للقوات الأمريكية. ينتمي هذا السلاح إلى فئة الصواريخ فرط الصوتية من نوع "التعزيز ثم الانزلاق" (Boost-Glide)، وهي تختلف عن الصواريخ الباليستية التقليدية من حيث المسار وآلية الطيران.
و"دارك إيجل" هو الاسم غير الرسمي لصاروخ "الضربة فرط الصوتية بعيدة المدى" (Long-Range Hypersonic Weapon – LRHW)، وهو نظام صاروخي أرض–أرض متوسط المدى تطوره القوات البرية الأمريكية، وتعتمد البحرية الأمريكية نفس تصميم الصاروخ للإطلاق من البحر ضمن نظام سلاح " الضربة السريعة التقليدية متوسطة المدى" (IRCPS).
يتكون هذا الصاروخ من معزز صاروخي كبير يعمل بالوقود الصلب، يحمل في مقدمته جسماً انزلاقياً غير مزود بمحرك يُعرف باسم "الجسم الانزلاقي الفرط صوتي المشترك" (Common Hypersonic Glide Body – C-HGB).

بعد الإطلاق، يدفع المعزز الصاروخي هذا الجسم إلى ارتفاع عالٍ وسرعة هائلة، ثم ينفصل عنه، ليبدأ الجسم الانزلاقي بالتحليق داخل الغلاف الجوي بسرعات فرط صوتية، مع قدرة على تغيير المسار والمناورة حتى لحظة إصابة الهدف.
بحسب الجيش الأمريكي فإن صاروخ "دارك إيجل" النسخة التجريبية الأولى، كانت مصممة لضرب الأهداف على مسافات تصل إلى (2735 كيلومترًا) أثناء السفر بسرعات أكبر من ماخ 5، أو خمسة أضعاف سرعة الصوت. ويشتمل كل نظام فيه على أربعة قاذفات يمكنها إطلاق ما مجموعه ثمانية صواريخ، مما يُمكّنه من إغراق الأهداف ذات القيمة العالية أو الحساسة للوقت في البيئات المتنازع عليها.
وتقول مجلة TWZ الأمريكية إن خطورة "دارك إيجل" تكمن في مزيج من السرعة والمناورة. فالصواريخ الباليستية التقليدية تتبع مساراً شبه ثابت ويمكن رصدها مبكراً عبر الأقمار الصناعية وأنظمة الإنذار المبكر. أما الجسم الانزلاقي الفرط صوتي، فيحلق على ارتفاعات أقل نسبياً، ويغير مساره بشكل غير متوقع، ما يجعل اعتراضه مهمة شديدة الصعوبة حتى لأكثر أنظمة الدفاع الجوي تقدماً.
لهذا السبب، يُنظر إلى "دارك إيجل" كسلاح مثالي لضرب أهداف عالية القيمة ومحصنة، مثل:
- أنظمة الدفاع الجوي بعيدة المدى
- مراكز القيادة والسيطرة
- منشآت الاتصالات العسكرية
- شبكات الرادار والإنذار المبكر
- قواعد عسكرية حساسة في عمق أراضي الخصم
An initial view of this morning's Long Range Hypersonic Weapon (LRHW) / Dark Eagle system test launch from Cape Canaveral's pad SLC-46. This is a joint Army-Navy hypersonic weapon land & sea deployment. Will add a thread this afternoon with more details & different camera angle. pic.twitter.com/xBi21RiXFF
— JohnCn (@JConcilus) December 12, 2024
لحطة إطلاق تجريبي لنظام صاروخ فرط صوتي بعيد المدى (LRHW) / "دارك إيجل" من قبل الجيش الأمريكي.
قادر على تهديد الصين وروسيا وإيران.. ما مواصفات صاروخ "دارك إيجل"؟
في تقرير حديث لموقع TheWarZone العسكري الأمريكي فقد كشف عن معلومات جديدة حول نظام سلاح المركبة الانزلاقية فائقة السرعة "دارك إيجل" بعيدة المدى، وذلك من خلال جولة وزير الدفاع الأمريكي هيغسيث الأخيرة في ترسانة ريدستون بولاية ألاباما، التي أعلن فيها أن هذه المنشأة ستكون المقر الجديد لقيادة الفضاء الأمريكية (SPACECOM).
خلال عرضٍ لأنظمة صواريخ الجيش، صرّح الفريق في الجيش الأمريكي فرانسيسكو لوزانو، مدير قسم الصواريخ فرط الصوتية والطاقة الموجهة والفضاء والاستحواذ السريع، لهيغسيث بأن مدى صاروخ "دارك إيجل" الفعلي يبلغ 3500 كيلومتر. كما حضر الحدث ممثلون عن وسائل الإعلام، وتمّ توثيق هذه التفاصيل بالفيديو من قبل وسائل الإعلام.
وأشار الفريق فرانسيسكو لوزانو إلى أن الصاروخ فرط الصوتي الأمريكي "دارك إيجل يستطيع ضرب بر الصين الرئيسي من قاعدة غوام". كما ذكر أنه "قادر على ضرب موسكو من لندن وطهران من قاعدة العديد في قطر"، وتعكس هذه التصريحات البعد الاستراتيجي الأمريكي للسلاح والرسائل المقصودة منه لكل من روسيا والصين وطهران.

أما الرأس الحربي، فهو صغير نسبياً ويزن أقل من 30 رطلاً. وتعتمد فاعليته التدميرية بدرجة أساسية على الطاقة الحركية الهائلة الناتجة عن السرعة، وليس على كتلة متفجرات كبيرة. ومع ذلك، أُشير إلى أن الرأس الحربي قد يتضمن شحنة تفجيرية وتشظية محدودة لتعطيل الأهداف الأقل تحصيناً.
لماذا تأخرت الولايات المتحدة في الكشف عن هذا الصاروخ؟
تتولى شركة "دينيتكس" الأمريكية تصنيع الجسم الانزلاقي للصاروخ "دارك إيجل"، في حين تقوم شركة "لوكهيد مارتن" ببناء المعزز الصاروخي وتجميع الصاروخ ومنصات الإطلاق، حيث منح الجيش الأمريكي العام الماضي "لوكهيد مارتن" عقدًا بقيمة 756 مليون دولار تعزيز قدرات السلاح الفرط صوتي الأرضي بعيد المدى (دارك إيجل).
ويعتمد تصميم الجسم الانزلاقي على إرث طويل من الأبحاث الأمريكية، تعود جذوره إلى برامج "السلاح الفرط صوتي المتقدم" التي أجراها الجيش الأمريكي في مطلع العقد الماضي، بل وإلى تجارب أقدم أجرتها مختبرات "سانديا" منذ ثمانينيات القرن العشرين.
بمعنى آخر، "دارك إيجل" ليس قفزة مفاجئة، بل ثمرة عقود من البحث والتجارب التي واجهت تحديات تقنية كبيرة، أبرزها التحكم في الطيران بسرعات هائلة، وتحمل الحرارة الشديدة الناتجة عن الاحتكاك مع الغلاف الجوي، بحسب مجلة TWZ.
وخضع الجسم الانزلاقي المشترك لاختبارات ناجحة في أعوام 2017 و2020، ثم في يونيو وديسمبر 2024. وفي أحد أبرز الاختبارات، أُطلق الصاروخ من هاواي وقطع أكثر من 2000 ميل ليصيب هدفه في جزر مارشال، في تجربة وُصفت بأنها "اختبار كامل من الإطلاق إلى الإصابة".
لكن رغم هذه النجاحات، واجه البرنامج تأخيرات ملحوظة. فقد كان من المخطط أن يدخل "دارك إيجل" الخدمة مع الجيش الأمريكي في عام 2023، لكن مشكلات تقنية، إلى جانب إخفاقات في بعض الاختبارات، أدت إلى تأجيل الجدول الزمني. كما تعرضت النسخة البحرية لاضطرابات مشابهة، خاصة بعد فشل اختبار في عام 2022 قبل إعادة تحقيق النجاح في أواخر 2024.
تعتزم البحرية الأمريكية استخدام نفس البنية الصاروخية ضمن برنامج "الضربة التقليدية السريعة متوسطة المدى" (IRCPS). ومن المقرر نشر الصاروخ على مدمرات "زوموالت" الشبحية اعتباراً من عام 2025، ثم على غواصات "فرجينيا بلوك 5" بدءاً من عام 2028.
وكانت هناك خطط سابقة لنشره على غواصات "أوهايو" المعدلة، لكن هذه الخطط أُلغيت بسبب تأخيرات التمويل وقرب خروج هذه الغواصات من الخدمة، ما يعكس التعقيدات التي تحيط بدمج سلاح جديد بهذا الحجم في منصات قائمة.
وأثارت تقارير للبنتاغون في السنوات الأخيرة تساؤلات حول مستوى الفتك الفعلي للسلاح، خاصة في ظل محدودية الاختبارات على أهداف "تمثيلية" لظروف القتال الحقيقي. وقد دفع ذلك إلى إجراء اختبارات إضافية للرأس الحربي بشكل مستقل عن الصاروخ.
كما يواجه البرنامج تحدياً آخر يتمثل في وتيرة الإنتاج. فبحسب تصريحات رسمية، يتم حالياً إنتاج صاروخ واحد شهرياً، مع طموح لرفع المعدل إلى صاروخين شهرياً. ويرى بعض المحللين أن "دارك إيجل" قد يتحول إلى سلاح "نخبوي" مرتفع الكلفة ومحدود العدد، ما قد يقلل من تأثيره في صراع طويل الأمد.
أمريكا تسابق الزمن للحاق بالصين وروسيا
تأتي أهمية امتلاك واشنطن لصاروخ "دارك إيجل" في سياق أوسع، يتمثل في سباق عالمي على الأسلحة فرط الصوتية. فقد استثمرت الصين وروسيا مبكراً وبشكل مكثف في هذا المجال، ونجحتا في إدخال صواريخ فرط صوتية إلى الخدمة العملياتية، ما منح كلتيهما أفضلية زمنية وتقنية.
في المقابل، تأخرت الولايات المتحدة بسبب تعقيدات بيروقراطية وتغير الأولويات الدفاعية بعد الحرب الباردة. على مدار أكثر من 60 عاماً، استثمرت الولايات المتحدة مليارات الدولارات في عشرات البرامج لتطوير نسختها الخاصة من هذه التكنولوجيا. وقد انتهت تلك الجهود إما بالفشل وإما أنها أُلغِيَت قبل أن تُتاح لها فرصة النجاح.
وتقول صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية إن الأسلحة التي تفوق سرعة الصوت، والتي تملكها قوى مثل الصين أو روسيا، لديها القدرة على تغيير التوازن الاستراتيجي العالمي الذي لطالما دعم سياسة الدفاع الأمريكية.
وفي حين أن الجيش الأمريكي ربما لا يزال هو الأقوى في العالم، فإن الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت يمكن أن تساعد الخصم في تحدي هذا التفوق من خلال التهرب من أنظمة الإنذار المبكر الأمريكية المصممة لاكتشاف الهجمات على أمريكا الشمالية، أو ضرب الأصول البحرية الأمريكية، وضمن ذلك حاملات الطائرات، وكذلك القواعد الرئيسية في الخارج.
وحتى السفن الحربية الأمريكية الأكثر تقدماً في بحر الصين الجنوبي يمكن أن تعجز عن الدفاع ضد أي هجوم يفوق سرعة الصوت. ويمكن للصواريخ الباليستية أن تسافر بسرعات تفوق سرعة الصوت، لكنها تتبع مسار طيران يمكن التنبؤ به، مما يسهل اعتراضها قبل إصابة الهدف. ويمكن لصواريخ كروز، مثل صواريخ توماهوك الأمريكية، المناورة، لكن معظمها يتحرك ببطء أكبر، تحت سرعة الصوت.
واليوم، يُنظر إلى صاروخ "دارك إيجل" فرط الصوتي الأمريكي باعتباره محاولة أمريكية لسد الفجوة مع الصين وروسيا، واستعادة جزء من الردع الاستراتيجي في مواجهة منافسين باتوا يمتلكون أدوات هجومية يصعب تحييدها.