وسط تصاعد العدوان الإسرائيلي على الضفة الغربية وتعاظم اعتداءات المستوطنين لتصبح الأعلى منذ حوالي عقدين على القرى والمزارع والممتلكات، يتجدد السؤال حول القوى التي تغذي المشروع الاستيطاني وتمنحه القدرة على التمدد. فالعنف اليومي الذي يواجهه الفلسطينيون بشكل الأشكال والأنواع لا ينفصل عن منظومة تمويل واسعة ومتعددة المصادر، تعمل بصمت أحيانا وبصخب أحيانا أخرى، لتأمين استمرار الاحتلال وفرض واقع ديموغرافي إحلالي جديد بالقوة.
ويمتد هذا التمويل من مؤسسات حكومية إسرائيلية إلى شركات دولية كبرى وبنوك غربية، إضافة إلى منظمات يهودية وأفراد أثرياء يدعمون الاستيطان السرطاني بصورة مباشرة أو غير مباشرة. هذا التقرير يفتح ملف المال الذي يحرك عجلة الاستيطان، ويوضح من أين يأتي، وكيف يعمل، وما يترتب عليه من آثار خطيرة تطال حياة الفلسطينيين ومستقبل وجودهم على أرضهم.
منظومة التمويل الخفية للاستيطان.. شركات عالمية في دائرة الاتهام
مع تزايد الهجمات العسكرية الإسرائيلية واقتحامات المستوطنين اليومية في الضفة الغربية، تتعرض حياة الفلسطينيين وأراضيهم وممتلكاتهم لاعتداءات ممنهجة تهدف إلى التوسع وفرض السيطرة بالقوة، تحت حماية الجيش الإسرائيلي.
هذا الواقع يثير سؤالا محوريا حول مصادر التمويل التي تمكّن الجماعات الاستيطانية المسلحة من فرض وجودها، وتساعدها على مواصلة جريمة التوسع الاستيطاني التي انطلقت بعد احتلال الضفة في حرب الخامس من يونيو عام 1967. وعلى الرغم من أن الحكومات الإسرائيلية توفر ميزانيات مباشرة لبناء وحدات استيطانية، فإن تفاصيل التمويل الخارجي تبقى أقل ظهورا في وسائل الإعلام.
يشير تحقيق لوكالة الأناضول نشر حديثاً إلى أن معظم الحركات والجمعيات الاستيطانية تتجنب الإعلان عن ميزانياتها، بينما تكشف تقارير صحف إسرائيلية مثل "هآرتس" ومنظمات حقوقية محلية مثل "بتسليم" وأخرى دولية مثل "هيومن رايتس ووتش" جانبًا من مصادر دعمها.
وتواصل إسرائيل البناء الاستيطاني رغم قرارات الأمم المتحدة التي تعتبره غير قانوني ويقوض حل الدولتين. وفي 26 سبتمبر 2025، حدّثت المفوضية السامية لحقوق الإنسان قاعدة بيانات الشركات العاملة في المستوطنات، وأدرجت 158 شركة، منها 138 إسرائيلية و20 أجنبية من 10 دول، أبرزها الولايات المتحدة التي تتصدر بقائمة تضم ست شركات كبرى مثل Airbnb وBooking وExpedia وMotorola وRe/Max وTripAdvisor.
وتنشط الشركات الأجنبية في مجالات السياحة والعقارات والبناء والاتصالات والتعدين. كما تضم القائمة شركات إسبانية وفرنسية وبريطانية ودولا أخرى مثل لوكسمبورغ وألمانيا والبرتغال والصين وكندا.
حيث تضم القائمة أربع شركات إسبانية مرتبطة بمجالات البناء والبنية التحتية والسكك الحديدية هي: ACS، وCAF، وIneco، وSEMI.
وفي القائمة شركتان هندسيتان من فرنسا هما Egis وEgis Rail، إضافة إلى شركتين بريطانيتين هما Greenkote P.L.C وJCB، التي تُعرف بمعدّاتها الثقيلة المستخدمة في مشاريع البناء.
ووردت في القائمة أيضا شركة واحدة من كل من لوكسمبورغ (Altice International)، وهولندا (Booking.com B.V)، وألمانيا (Heidelberg Materials AG)، والبرتغال (Steconfer S.A)، والصين (Fosun International Ltd) وكندا (Metrontario Investments Ltd).

ما دور البنوك في تثبيت حركة الاستيطان؟
أظهر تقرير لـ"هيومن رايتس ووتش" الصادر في 28 مايو 2018 أن أكبر سبعة بنوك إسرائيلية تقدم خدمات مالية تسهم في توسيع المستوطنات، عبر تمويل مشاريع البناء والحصول على حقوق الملكية فيها، وتسهيل انتقال المستوطنين إلى هذه الوحدات. وتشمل هذه المصارف: هبوعليم، لئومي، ديسكونت، مزراحي تفحوت، البنك الدولي الأول لإسرائيل، الاتحاد الإسرائيلي، وبنك القدس.
وأوضحت المنظمة الدولية أن هذه المصارف تعمل على توسيع المستوطنات بالحصول على حقوق الملكية في مشاريع البناء الجديدة، ورعاية المشاريع حتى اكتمالها. وهذه البنوك السبعة هي: "هبوعليم"، "لئومي"، "ديسكونت"، "مزراحي تفحوت"، "البنك الدولي الأول لإسرائيل"، "الاتحاد الإسرائيلي"، و"القدس".
كما كشفت الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان أن أربعة بنوك وشركة تأمين فرنسية تشارك بشكل غير مباشر في إنشاء المستوطنات من خلال شراكات مالية مع مؤسسات إسرائيلية تنشط داخل الضفة. وتشمل هذه المؤسسات BNP Paribas وSociété Générale وCrédit Agricole وBPCE، إضافة إلى شركة التأمين AXA.
وأفادت الفدرالية يأن هذه المعاملات تُمكّن من توسيع المستوطنات، وبناء وحدات سكنية مخصصة للإسرائيليين، مع الإضرار بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين.
من نيويورك إلى القدس.. تبرعات ضخمة لحركة الاستيطان تضخ من الخارج
في السياق، تشير صحيفة "هآرتس" في تقرير لها نشر قبل بضعة أشهر، إلى أن المنظمات الاستيطانية اليمينية الإسرائيلية تتلقى تبرعات كبيرة من حكومات ومؤسسات أجنبية معظمها في الولايات المتحدة الأمريكية.
وبحسب التقرير، حولت أكثر من 50 منظمة يهودية أمريكية نحو مليار شيكل (220 مليون دولار) إلى مستوطنات الضفة بين الأعوام 2009 و2013، وهي تبرعات معفاة من الضرائب. ولا يذهب التمويل فقط للبناء، بل يشمل التعليم الديني اليهودي المتطرف، ودعم عائلات مستوطنين مدانين بارتكاب جرائم بحق الفلسطينيين.
وهذه الأموال معفاة من الضرائب، ما يؤكد أن الولايات المتحدة تدعم بناء المستوطنات والإرهاب الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفقا لصحيفة "غلوبس" العبرية في 2 فبراير/ شباط 2015.
ولا يقتصر التمويل على البناء الاستيطاني فحسب، بل يُستخدم جزء كبير منه في التعليم الديني اليهودي المتطرف، بحسب "هآرتس"، مثل تمويل مدرسة "نافيه شموئيل" بمستوطنة "إفرات". وكذلك مساعدة عائلات مستوطنين مدانين بارتكاب عمليات إرهابية بحق مواطنين فلسطينيين في الضفة الغربية، بما فيها القدس.
كيانات وشخصيات بارزة في التمويل
من أبرز مصادر التمويل "صندوق إسرائيل المركزي" في مانهاتن و"صندوق الخليل" في بروكلين، حيث حول الأخير 4.5 ملايين دولار لمستوطنات الخليل بين 2009 و2013.
وفي 31 ديسمبر/ كانون الأول 2020، حددت صحيفة "يسرائيل هيوم" كيانات أخرى تمول الحركة الاستيطانية، منها صندوق "كيرن هايسود" وهي مؤسسة منتشرة بـ45 دولة. وهذه المؤسسة أنشأتها المنظمة الصهيونية العالمية، وتجمع الأموال لدعم أنشطة المشروع الصهيوني، مثل الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة، وإقامة المستوطنات.
كما توجد الوكالة اليهودية ومنظمة أصدقاء الجيش الإسرائيلي بمدينة ميامي الأمريكية، وصندوق التنمية اليهودي الأوروبي، ومؤسسة "روث بات سارة" المدعومة من الملياردير اليهودي الأمريكي إيرا رينيرت.
وبين 2006 و2013، تبرعت جمعية "أصدقاء مدينة ديفيد" الأمريكية وحدها بنحو 122 مليون شيكل (نحو 31.6 مليون دولار)، وفقا لـ"هآرتس" في 6 مارس/ آذار 2016. ولا يتوقف تمويل الاستيطان على يهود الولايات المتحدة وحدهم، ففي دول عديدة ترسل شخصيات أموالا لبناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية.
وعلى رأس هؤلاء رومان إبراموفيتش المالك السابق لنادي تشيلسي الإنجليزي، والمرتبط بعلاقات وثيقة بجمعية "يشع" (المجلس الإقليمي لمستوطنات الضفة الغربية) وجمعية "إلعاد" اليمينية المتطرفة.

ما هي الجمعيات الاستيطانية الإسرائيلية تتلقى المساعدات من الخارج؟
تعد جمعية "إلعاد" من أبرز الكيانات التي تتلقى تمويلاً خارجياً، وقد تأسست عام 1986 على يد الحاخام ديفيد باري. وتمكنت بفضل التبرعات من إحداث تغييرات واسعة في القدس الشرقية عبر مشاريع تهويدية. وتشير تقارير إلى أن "إلعاد" تلقت 450 مليون شيكل (125 مليون دولار) بين 2006 و2013، بينما تواصل السلطات الإسرائيلية غض الطرف عن مصادر تمويلها.
ويأتي جزء كبير من أموالها من جزر البهاما وجزر فيرجن وسيشل، دون وضوح حول الجهات المانحة الحقيقية. وفي عام 2022 حصلت على 28 مليون شيكل من الحكومة الإسرائيلية لمشاريع تهويدية في حي وادي الربابة بسلوان.
وهذا التمويل مّكن باري من إحداث تغيير كبير في المدينة القديمة بالقدس الشرقية المحتلة، بحسب صحيفة "يسرائيل هيوم" العبرية في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2020.
وباري أحد المتطرفين الذين تلقوا تعليمهم في جمعيات دينية واستيطانية، مثل "بني عكيفا" و"عطيرت كوهنيم"، وهي تشجع الهجرة إلى القدس والاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وبين 2006 و2013 تلقت "إلغاد" نحو 450 مليون شيكل (125 مليون دولار)، بحسب "هآرتس" في 6 مارس/ آذار 2016. الصحيفة أفادت بأن الجهات الضريبية الإسرائيلية تغض الطرف عن ميزانيات "إلعاد" ومصادر تمويلها، وتقدم الجمعية تقارير تحوي مصادر تمويل مجهولة خلافا لما يفرضه القانون.
وجاء أكثر من نصف الـ125 مليون دولار من أماكن مثل جزر البهاما وفيرجن وسيشل، و"ليس واضحا مَن يقف وراءها"، بحسب "هآرتس". كما ذكرت صحيفة "غلوبس" في 2 فبراير/ شباط 2015 أن "إلعاد" تلقت 6.9 ملايين دولار عام 2011، و5.6 ملايين دولار في 2012. وإجمالا، أفادت الصحيفة أيضا بأن نحو 40 منظمة تبرعت بحوالي 200 مليون دولار للمستوطنات بين 2000 و2010.
وحول أحدث تمويل تلقته "إلعاد"، قالت "هآرتس" في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 إن الجمعية تلقت من الحكومة في ذلك العام 28 مليون شيكل (نحو 8.3 ملايين دولار).
مشيرة إلى أنها تلقت هذه الأموال لدعم مشاريعها الاستيطانية والتهويدية في حي وادي الربابة ببلدة سلوان جنوبي المسجد الأقصى، لتغيير طابع الأرض والاستيلاء عليها. وتمثلت الجهات الإسرائيلية التي منحت الأموال للجمعية في وزارة تنمية القدس والتراث، وبلدية القدس، وهيئة تنمية القدس.
كيف يمول اليهود الأمريكيون اليمين الإسرائيلي؟
دعت القناة العاشرة الإسرائيلية الحركات اليمينية عام 2016 إلى تجنب قطع العلاقة باليهود "الإصلاحيين" في الولايات المتحدة لضمان استمرار تدفق التبرعات، نظرا لاعتماد إسرائيل الكبير على الدعم المالي اليهودي الأمريكي. ولا يقتصر التمويل على البناء الاستيطاني، بل يمتد لدعم شخصيات ومنظمات مدانة بالإرهاب مثل عامي بوبر ومنظمة "بات عاين" التي حاولت تفجير مدرسة بنات فلسطينية عام 2002.
كما عزت ذلك إلى الرغبة في عدم دفعهم في الولايات المتحدة إلى أحضان حركات المقاطعة لإسرائيل، ومن ثم خسارة تمويل اليهود الأمريكيين. وأكدت ضرورة تلقي تبرعات كل اليهود الأمريكيين، بمَن فيهم "الإصلاحيين"، فـ"كثير من الأموال التي يتلقاها اليهود في إسرائيل تأتي من يهود الولايات المتحدة".
ولا تقتصر التبرعات الأمريكية على البناء الاستيطاني، بل تمول أيضا شخصيات ومنظمات إسرائيلية مدانة بارتكاب عمليات إرهابية بحق فلسطينيين، بحسب "هآرتس" في 7 ديسمبر/ كانون الأول 2015.

ويشير تقرير لمنظمة "بتسيلم" في مايو 2025 إلى أن عدد المستوطنين تجاوز 730 ألفا بزيادة 8 في المئة خلال عام واحد. ومع حرب الإبادة على غزة منذ أكتوبر 2023، تصاعدت الجرائم في الضفة من قتل واعتقالات وتهجير وتوسيع للمستوطنات.
وخلال عامي الحرب على غزة 2023-2025، قتل الجيش الإسرائيلي والمستوطنون 1076 فلسطينيًا وأصابوا نحو 10 آلاف و700، إضافة إلى أكثر من 20 ألفا و500 معتقل. وارتكب المستوطنون 7154 اعتداء، أسفر عن استشهاد 33 فلسطينيًا وتهجير 33 تجمعًا سكانيًا. ويحذر الفلسطينيون من أن هذه السياسات تمهد لضم الضفة وإنهاء أي إمكانية لحل الدولتين.
وفي محاولة لاحتواء جرائم المستوطنين التي لاقت تنديداً دولياً، قلل نتنياهو مؤخراً من جرائم المستوطنين بوصفها بـ"أعمال شغب"، داعياً سلطات إنفاذ القانون التي يقف على رأسها بن غفير إلى تقديم "مثيري الشغب للعدالة".
ومصطلح "عنف المستوطنين" قد يكون مضللاً، ففي السنوات الأخيرة، وخاصة منذ بدء الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، عمل المستوطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية في تناغم شبه تام مع الجيش وسلطات الدولة.
ويخفي هذا المصطلح الدور المركزي للدولة في استعمار الضفة الغربية، ويسمح للسياسيين الإسرائيليين والجيش والرأي العام الإسرائيلي برفض هذا العنف باعتباره من عمل "حفنة من المتطرفين"، بحسب تقرير على موقع (+972) الإسرائيلي. لكن المستوطنين يتمتعون "بحصانة" من الوزراء المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية، ونادراً ما توجه انتقادات من كبار المسؤولين الإسرائيليين لعنف المستوطنين في الضفة الغربية.