في نيبال، أشعل متظاهرون شبان من حركة تُعرف ببساطة باسم "جيل زد" النار في مبنى البرلمان والمحكمة العليا، وأحرقوا مقار شركات دولية ومنازل عددٍ من السياسيين المكروهين. طاردت الحشود بعض هؤلاء وضربتهم في الشوارع، ما دفع رئيس الوزراء الشيوعي ك.ب. شارما أولي إلى الاستقالة. ودخل قادة الاحتجاج بعد ذلك في محادثات مع الجيش — الذي كان تاريخياً خاضعاً للملكية — لتشكيل حكومة جديدة.
وفي المغرب، خرج مئات الشبان تحت شعار "الجيل زد 212" في مظاهرات عمّت مدن البلاد، مطالبين بإصلاحات عاجلة لتحسين جودة الحياة. وسرعان ما تحولت الاشتباكات مع قوات الأمن إلى مواجهات دامية، بعدما حشدت الحركة، التي انتشرت كالنار في الهشيم عبر الإنترنت، متظاهرين في اثنتي عشرة مدينة منذ السبت الماضي.
أما في مدغشقر، فقد ظهرت بسرعة على الإنترنت حركة "جيل زد مدغشقر"، مجموعة شبابية بلا قيادة نظمت نفسها عبر ديسكورد وسيغنال احتجاجاً على انقطاع المياه والكهرباء وتفشي الفساد. ما بدأ كتنسيق رقمي بين طلاب وناشطين تحوّل إلى انتفاضة وطنية انحازت إليها وحدة عسكرية نخبوية، ما أجبر الرئيس أندري راجولينا على الفرار وسقوط نظامه.
القاسم المشترك بين هذه الحركات كان منصة "ديسكورد"، التي كانت يوماً ما فضاء لهواة ألعاب الفيديو، قبل أن تتحول إلى ساحة رقمية للتنظيم السري والسريع. على تلك المنصة، اجتمع الشباب من نيبال والمغرب ومدغشقر، تبادلوا الخطط والتعليمات، بل وأداروا في نيبال منتديات نقاش أقرب إلى "برلمان افتراضي" لاختيار رئيس وزراء مؤقت.
وفي خضم الجدل العالمي حول تأثير المنصات الرقمية في الحراك السياسي، يبدو أن تطبيق "ديسكورد" بات تحت مجهر الحكومات في العالم العربي، باعتباره نموذجاً لقدرة الفضاءات الرقمية على تجاوز الحدود وتحريك الشارع من وراء الشاشات. جاء ذلك عقب أنباء عن تعذر الوصول إليه في الأردن، وتقارير غير مؤكدة بشأن دراسة حظره في مصر، وسط غياب أي إعلان رسمي من الحكومتين.
فكيف، ولماذا، تحولت منصة ألعاب على يد جيل زد إلى ميدان رقمي يلتف حوله الشباب للمطالبة بالعدالة وتحسين سبل حياتهم؟
ماذا حدث؟
في نيبال، بدأت القصة في 4 سبتمبر/أيلول، حين قررت الحكومة النيبالية حجب 26 منصة تواصل اجتماعي — من بينها فيسبوك ويوتيوب وإكس وواتساب — بدعوى مخالفة قواعد التسجيل ورفض تعيين ممثلين محليين. لكن القرار بدا لمعظم النيباليين محاولة لتقييد حرية التعبير، خصوصاً في بلد يعتمد نصف سكانه تقريباً على هذه المنصات، التي تشكل 80% من حركة الإنترنت في البلاد.
خلف الشاشات، كانت تتكوَّن شرارة الغضب، فبحسب مجلة النيويوركر، ومنذ أغسطس/آب، غزت مقاطع قصيرة على تيك توك وإنستغرام — مصنوعة بإتقان وسرعة — المنصات الرقمية، كاشفةً التناقض الفج بين حياة الترف التي تعيشها الطبقة الحاكمة وأبناؤها، وبين المعاناة اليومية لغالبية النيباليين. حيث كان أبناء السياسيين يعرضون على الإنترنت حياةً مترفة — حقائب فاخرة، ورحلات إلى جزر بعيدة، وحفلات فارهة، بينما تكابد الأغلبية من الشعب في مهن هامشية؛ خدم منازل، باعة متجولون، عمال نظافة ونقل.
حيث إن أكثر من 80% من القوى العاملة في نيبال تنشط في القطاع غير الرسمي، فيما تتجاوز بطالة الشباب في القطاع الرسمي 20%. ما يدفع المئات من شباب البلاد إلى الهجرة يومياً بحثاً عن العمل، وهذا ما يجعل البلد يعيش أساساً على تحويلات الخارج، وهي شريان اقتصادها الذي يشكّل ثلث الناتج المحلي. وساهم قرار الحظر في قطع الصلة بين المهاجرين وأسرهم، وأصاب أعمالاً صغيرة تعتمد على الإنترنت بالشلل، في موسم يسبق مهرجاناً رئيسياً في البلاد.
هذا التفاوت الصارخ بين الواجهة الرقمية المذهبة والواقع الكئيب على الأرض كان كافياً لإشعال الغضب — غضب بدأ افتراضياً، لكنه سرعان ما خرج من الشاشات إلى الشوارع.
ففي 8 سبتمبر/أيلول، خرج آلاف الشبان إلى الشوارع مطالبين بإلغاء الحظر، وأطلقوا على أنفسهم اسم "جيل زد". سرعان ما تحولت المظاهرات إلى مواجهات عنيفة طاولت مبنى البرلمان والمحكمة العليا ومقار شركات دولية ومنازل سياسيين، وأجبرت رئيس الوزراء ك.ب. شارما أولي على الاستقالة والاختفاء. خلال أسبوع واحد، سقط أكثر من 70 قتيلاً — معظمهم من المتظاهرين الذين قُتلوا على يد الشرطة — ليخلد المتظاهرون ذكراهم بوصفهم "شهداء جيل زد".
وفي منتصف سبتمبر/أيلول، برز مشهد غير مسبوق: داخل غرفة على تطبيق "ديسكورد" تضم 160 ألف عضو، انتُخبت القاضية المتقاعدة والناشطة ضد الفساد سوشيلا كاركي — البالغة أكثر من سبعين عاماً — أول رئيسة وزراء في تاريخ نيبال، بعد تفوقها في التصويت على أربعة مرشحين، في تصويت رقمي نظمته منظمة مدنية.
وبينما كانت وسائل التواصل الاجتماعي في الربيع العربي ميداناً للتنظيم والحشد، كانت في نيبال محاكاةً للديمقراطية المباشرة داخل غرفة دردشة على الإنترنت كـ"برلمان افتراضي"، وقد لخّص صانع محتوى يبلغ من العمر 23 عاماً من كاتماندو، لصحيفة نيويورك تايمز، بقوله: "البرلمان في نيبال الآن هو ديسكورد".
في المغرب، في 5 سبتمبر/أيلول، وأياماً قليلة قبل حلول الذكرى السنوية الثانية لزلزال الحوز، الذي خلّف ما لا يقل عن 3 آلاف قتيل ودماراً واسعاً في قرى المنطقة النائية جنوب البلاد، كان ولي العهد المغربي الأمير الحسن يترأس حفل تدشين ملعب "مولاي عبد الله" بالعاصمة الرباط، الذي أُعيدت تهيئته بمعايير جودة عالمية من أجل احتضان مباريات كأس إفريقيا والمونديال مستقبلاً.
وكانت هذه الصور التي تداولتها وسائل الإعلام المغربية لتكون مبعث استحسان ورضا عموم الشعب المغربي، لولا تزامنها مع عودة مشاهد البؤس ومعاناة منكوبي الزلزال، الذين لم يُعَمَّر عدد من قراهم إلى اليوم، وهو ما أثار سخطاً تم التعبير عنه بتداول مقاطع فيديو ومنشورات تكشف هذه المفارقة، كما تستنكر غياب رعاية الطبقات الشعبية عن لائحة أولويات السياسة العمومية للحكومة.
بالتوازي مع ذلك، خرج العشرات من سكان مدينة أكادير (جنوب المغرب) للاحتجاج على تردي أوضاع المرفق الصحي الرئيسي بالمدينة، مستشفى "الحسن الثاني"، رافعين شعارات "لا نريد كأس العالم! الصحة أولاً!". هذه الاحتجاجات التي واجهتها السلطات بقمع واسع، وتم تفريقها باستعمال القوة.
كل هذه المؤشرات، تأتي لتؤكد واقعاً اجتماعياً واقتصادياً متردياً في المغرب، على ما يبدو أن الحكومة تسعى لإخفائه وراء تنميق الواجهات الأمامية للبلاد، كالعاصمة الرباط وبعض المدن السياحية الكبرى، وفق ما يجمع عليه الرأي العام بالمملكة. وقبلها، دقت عدد من التقارير المحلية والدولية ناقوس الخطر بشأن هذه الأوضاع.
ففي ما يخص جودة التعليم، ظلت المؤسسات التعليمية المغربية متذيلة التصنيفات الدولية، وحسب مؤشر المعرفة العالمي لسنة 2024، حل المغرب في المركز الـ98 عالمياً من أصل 141 دولة شملها التقييم. وهو الأمر ذاته بالنسبة لمؤشرات التنمية البشرية، إذ تقبع المملكة في المرتبة 120 عالمياً، من أصل 193 دولة، في مؤشر التنمية البشرية السنوي ضمن تقرير عام 2025 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
بالمقابل، وبالرغم من أن معطيات الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024، كشفت عن تراجع ملموس في نسب الفقر، إلا أن الفوارق المجالية لا تزال قائمة بشكل فج، بحيث يتفشى الفقر بشكل أكبر في العالم القروي المهمش، بالتوازي مع التعافي النسبي في الحواضر.
من "ديسكورد" إلى الشارع
في ظل هذه الأوضاع المشحونة نمت فكرة القيام بحراك احتجاجي بين شباب "جيل Z"، ما دام أسوةً بما قام به أقرانهم في النيبال، الذين أسقطوا الحكومة وأحرقوا البرلمان احتجاجاً على قمع الحريات الواسع بالبلد الآسيوي.
وعلى ذات الشاكلة أيضاً، اجتمع شباب المغرب في غرفة محادثة على تطبيق "ديسكورد"، حيث تنظموا في اجتماعات أشبه بالجموع النضالية العامة، وقرروا عبر تصويت ديمقراطي الخروج يومي 27 و28 سبتمبر/أيلول. فيما ظل صاحب أو أصحاب الفكرة الأوائل مجهولين لحد الآن.
وصولاً إلى اليوم الموعود، كان الترقب سيد الموقف بين أوساط الرأي العام المغربي، يأججه سؤال: هل فعلاً سيقدم الشباب على الخروج؟ بينما الجواب جاء مساء السبت، حيث شملت المظاهرات معظم مدن البلاد، رافعين شعارات تندد بتردي أوضاع المعيشة وبآمالهم في حياة كريمة ومستقبل مشرق، ملخصين مطالبهم في هتاف: "حرية، كرامة عدالة اجتماعية!".
بالمقابل، وحتى قبل بدء المظاهرات، كانت الشرطة وقوات مكافحة الشغب تملأ الساحات العامة بالمدن، تتدخل بعنف لتفريق أي تجمع لأكثر من ثلاثة شبان.
عن تلك اللحظات يحكي "راي راي" (اسم مستعار)، في تصريحات لـ "عربي بوست"، قائلاً: "مع وصولي، بصحبة صديقين، إلى ساحة 9 يوليوز (بمدينة وجدة شرق البلاد)، حتى بادرنا عدد من رجال الشرطة بزي مدني بالسؤال: ما تفعلون هنا؟ أجبنا كذباً: نحن نستجم! فسرعان ما قاموا بنهرنا ومطالبتنا بمغادرة المكان (…) حرفياً كان عدد قوات الشرطة أكثر بعشرات المرات من المتظاهرين".

ومن جهتها، تحكي ندى، وهي شابة خرجت للاحتجاج في مدينة الدار البيضاء: "يوم السبت، كان من المقرر أن نتظاهر في ساحة الجامعة العربية، لنتفاجأ بأنها مكتظة برجال الشرطة الذين كانوا يمنعون أي أحد من الدخول إليها (…) وعندما أصررنا على التجمهر والاحتجاج، هجموا علينا بسرعة لتفريقنا بالقوة، عصيهم لم تفرق بين شبان وصبايا، وكانوا ينشلون هواتف كل من كان يصور، كما طاردونا في الشوارع المتفرعة عن الساحة".
طوال ليلة ذلك اليوم، تداولت وسائل التواصل المغربية مقاطع توثق القمع الواسع للاحتجاجات، وشوهد عدد من الشباب يعتقلون بينما كانوا يدلون بتصريحات للصحافة، فيما الإعلام العمومي لم يُدلِ بأي كلمة عما وقع. بالتزامن مع ذلك، كانت الاجتماعات الجهوية جارية بين المحتجين على منصة "ديسكورد"، من أجل تقييم خرجة اليوم والتهيئة لغدها.
وفي يوم الأحد، تكررت نفس مشاهد الإنزال البوليسي والقمع والاعتقالات، بالرغم من أن المحتجين تدارسوا خططاً لتفادي كل ذلك.
وفي هذا، تورد ندى لـ "عربي بوست": "في خرجة الأحد اخترنا التظاهر في درب السلطان (منطقة شعبية وسط الدار البيضاء)، لما تمنحنا إياه الأزقة الشعبية من وسائل للهروب من الشرطة، وإعادة التجمهر. لكن، ومع ذلك، استمر نفس سيناريو الضرب، بل وقامت شرطيات نساء هذه المرة، من أجل قمعنا نحن الشابات".
وبحسب فرانس 24، فقد شهدت بعض هذه المظاهرات صدامات عنيفة مع قوات الأمن، أودت بحياة ثلاثة أشخاص.
فيما أشارت تقديرات أخرى إلى أن عدد المعتقلين كان يزيد على 70 شخصاً في بداية الاحتجاجات، بمن فيهم صحفيون كانوا حاضرين على هامش المظاهرات. وأُطلق سراح معظم الذين تم اعتقالهم ساعات بعدها، فيما ليس من المعروف حتى الآن عدد من أُودعوا الحراسة النظرية قصد المتابعة القضائية.
فيما أفادت حركة "جيل زد 212" الشبابية المغربية باستئناف المظاهرات بعد ذلك في أنحاء المملكة، مطالبةً بتحسين خدمات الصحة والتعليم والإفراج عن معتقلي الرأي، بعد أن كانت قد علّقت احتجاجاتها.
في مدغشقر، لم يحتجّ الشباب إلى زعيمٍ أو حزبٍ سياسي كي يُطلقوا شرارة الاحتجاجات. فخلال أيامٍ قليلة، ظهرت على الإنترنت حركة بلا قيادة أطلقت على نفسها اسم "جيل زد مدغشقر"، أنشأت حساباتٍ على فيسبوك وإنستغرام، واعتمدت في تنسيقها على منصة "ديسكورد"، إلى جانب تطبيق "سيغنال" الآمن. داخل غرف الدردشة، تبادل الشباب الخطط والتعليمات، كثيرون منهم لم يعرفوا بعضهم إلا بأسماء مستعارة، لكنهم اتفقوا على هدف واحد: إسقاط نظام يرونه فاسداً ومنفصلاً عن واقعهم.
وبحسب صحيفة الغارديان البريطانية، استلهم شباب مدغشقر بشكل مباشر حركات جيل زد الأخرى المناهضة للفساد، في إندونيسيا والفلبين خصوصاً، بينما شكّلت نيبال مصدر التأثير الأبرز، حيث انضم ناشطون من مدغشقر إلى خوادم ديسكورد الخاصة بجيل زد في نيبال لتبادل الخبرات وتعلّم أساليب التنظيم والاحتجاج.
في العاصمة أنتاناناريفو، اختارت حركة جيل زد مدغشقر رمزاً غير مألوف لثورتها: علم الجمجمة والعظمتين المتقاطعتين المستوحى من سلسلة الأنمي اليابانية الشهيرة "ون بيس" (One Piece)، الذي كان قد رُفع أول مرة في إندونيسيا خلال أغسطس/آب، ثم في الفلبين في سبتمبر/أيلول. لكن الشباب المالاغاشيين أضفوا عليه طابعهم المحلي، فاستبدلوا قبعة القش الأصلية بقبعة "ساتروكا" التقليدية ذات اللونين الوردي والأخضر، التي ترتديها قبيلة بيتسيلو، لتتحول الراية القادمة من الخيال إلى رمز لتمرد على الواقع المرير.
ومع اتساع رقعة الغضب في الشوارع، انحازت وحدة "كابسّات" العسكرية إلى صف المتظاهرين في 11 أكتوبر/تشرين الأول، لتبدأ البلاد مرحلةً جديدة من تاريخها. وفي اليوم التالي، فرّ الرئيس أندري راجولينا إلى دبي على متن طائرة عسكرية فرنسية، بعد أن بات واضحاً أن سلطته قد تهاوت.
ديسكورد.. وجيل وُلد في الشبكة
لم يكن أحد يتخيل أن التطبيق الذي وُلد بين أيدي هواة الألعاب سيصبح بعد عقد واحد أداة لتنظيم الاحتجاجات وإسقاط الحكومات. لكن جيل زد — الجيل المولود بين عامي 1997 و2012 — فعلها. في عالم باتت فيه وسائل التواصل الاجتماعي جزءاً من جينات التفاعل الاجتماعي والسياسي، وجد هذا الجيل في "ديسكورد" مساحته الأكثر مرونة وأماناً للتعبئة والتنظيم.
فجيل زد نشأ في عالم رقمي بالكامل؛ لذلك، وبحسب الدراسات، فالإنترنت ليس أداة يتعامل معها، بل بيئة يعيش داخلها. وكما أن الماء لا يُدهش السمكة، فإن الاتصال المستمر بالمنصات الرقمية لم يعد يثير دهشة هذا الجيل، بل يحدد إيقاع حياته اليومية. فقد تطورت وسائل التواصل من مجرد ساحات للترفيه إلى أدوات للتفاعل والعمل العام، منصات للنشاط السياسي، ومخابر دائمة لإعادة اختراع الهوية الجماعية.
في هذا السياق، لم يكن "ديسكورد" فضاءً افتراضياً منفصلاً عن الواقع، بل امتداداً حديثاً له. ففي عالمٍ تتراجع فيه ما يُعرف بـ"الأماكن الثالثة" — كما وصفها عالم الاجتماع الأميركي راي أولدنبُرغ، أي تلك الفضاءات العامة غير الرسمية مثل المقاهي والمكتبات التي كانت تتيح للناس لقاءً وتواصلاً خارج المنزل والعمل — باتت المنصات الرقمية تسعى لملء هذا الفراغ الاجتماعي.
وتوضح دراسة صادرة عن جامعة كورنيل بعنوان "تصميم ديسكورد وتعزيز تجارب المكان الثالث في وسائل التواصل الاجتماعي" كيف أن التطبيق نجح في إعادة إنتاج هذه التجربة الإنسانية داخل الفضاء الافتراضي، من خلال خلق مساحات تفاعلية تُشبه في روحها تلك اللقاءات اليومية البسيطة التي كانت تجمع الناس وجهاً لوجه.
وقد اعتمد الباحثون على الإطار المفاهيمي لعالم الاجتماع راي أولدنبرغ، صاحب مفهوم "المكان الثالث"، وحللوا كيف تمكّن تصميم "ديسكورد" من خلق بيئات رقمية تعزز بناء علاقات ثنائية وجماعية. ومن خلال 25 مقابلة مع مستخدمين نشطين لـ"ديسكورد"، حددوا 21 عنصراً تصميمياً يتماشى مع السمات الثمانية للأماكن الثالثة التي وضعها أولدنبرغ — من أبرزها: الحياد، الانفتاح، المحادثة كمحور رئيس، طابع المرح، الشعور بالانتماء، والقدرة على الدخول والخروج بحرية.
ماذا نعرف عن ديسكورد؟
وبحسب الدراسة، ما يميز "ديسكورد" هو أنه لا يفرض سياقاً اجتماعياً جاهزاً، بل يُتيح للمستخدمين بناء مجتمعاتهم الخاصة حول اهتماماتهم، سواء كانت ألعاباً أو فناً أو تعليماً أو نقاشات سياسية. يتحدث المستخدمون عن "السيرفرات" كما لو كانت مقاهي، أو غرف لعب، أو ساحات عامة. وقد بيّنت الدراسة أن بعض العلاقات التي بدأت على "ديسكورد" استمرت لسنوات، وخلقت نوعاً من "الوطن الافتراضي" الذي يعوّض غياب المساحات الواقعية.
وفي عالمٍ تُحكم فيه السيطرة على المجال العام، وجد جيل زد في "ديسكورد" فضاءً بديلاً يتيح له ما فُقد في الواقع: النقاش الحر، والاختلاف الآمن، والتنظيم الذاتي بعيداً عن الرقابة.
وقد أُنشئ تطبيق "ديسكورد" (Discord) عام 2015 كمنصة مخصّصة في الأصل لعشاق الألعاب الإلكترونية الذين احتاجوا وسيلة للتواصل الصوتي والنصي أثناء اللعب الجماعي، بعيداً عن ضوضاء الإعلانات وقيود المنصات التقليدية. أسسه المطور الأميركي جيسون سيترون كبديل مبسّط وآمن لبرامج المحادثة القديمة مثل Skype وTeamSpeak، واليوم يملك أكثر من 259 مليون مستخدم نشط شهرياً. ومع مرور الوقت، تجاوز الغرض الترفيهي ليصبح أحد أهم الفضاءات الرقمية للتفاعل المجتمعي والتنظيم الشبكي لجيل زد.
إذ يقوم "ديسكورد" على مفهوم "السيرفرات" (Servers)، كمجتمعات صغيرة يمكن لأي شخص إنشاؤها وإدارتها، تضم قنوات نصية وصوتية متعددة، تُستخدم للنقاش، والتصويت، وتبادل الملفات، وبناء مجموعات مغلقة حول اهتمام مشترك. هذه البنية اللامركزية والمرنة جعلته مختلفاً عن شبكات التواصل القائمة على الخوارزميات مثل فيسبوك أو تيك توك؛ فـ"ديسكورد" لا يدفعك إلى محتوى محدد، ولا يفرض تسلسلاً زمنياً مصطنعاً، بل يمنح المستخدمين سلطة كاملة في تشكيل فضائهم الخاص.
وبذلك، تحوّل "ديسكورد" من منصة ترفيه إلى بنية تحتية للاحتجاج والتنظيم. فخصائصه — كسهولة إنشاء قنوات سرّية، وإمكانية التخفي خلف أسماء رمزية، وتوزيع الأدوار داخل كل خادم — وفّرت للشباب في المغرب ونيبال فضاءً للنقاش والتنسيق بعيداً عن السلطة، وجعلت الشباب كأنهم "غير مرئيين" أمام السلطة، لكنهم "مرئيون" لبعضهم بعضاً.
في المغرب مثلاً، كما ورد في التقارير، أنشأ المحتجون خادماً باسم GenZ212، واتخذوا منه مقراً افتراضياً للنقاش اليومي واتخاذ القرار الجماعي. كان كل شيء يجري هناك: من صياغة الشعارات إلى تحديد مواعيد المسيرات، والتصويت على استمرارها أو تعليقها. وبفضل طبيعة المنصة غير المركزية وإمكانية استخدام أسماء مستعارة، شعر الشباب أنهم أخيراً "غير مرئيين" أمام السلطة، لكنهم "مرئيون" لبعضهم بعضاً.
في نيبال، حيث بدأت المظاهرات عقب حظر الحكومة لعدد من تطبيقات التواصل، تحوّل "ديسكورد" إلى منصة مقاومة للرقابة نفسها. فبحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية، أنشأ الطلبة خوادم سرّية لتبادل المعلومات وتنسيق الاعتصامات، وجرى لاحقاً إنشاء قنوات لتصويت جماعي حول قيادة مؤقتة للحراك. هذه التجربة النيبالية عبرت الحدود، حيث ألهمت جيل زد في مدغشقر، الذي استلهم منها أدواته ولغته الرقمية. ومع تصاعد الغضب الشعبي هناك، انضم الناشطون إلى خوادم "ديسكورد" النيبالية لتعلّم أساليب التنظيم والتعبئة.
فمن الناحية التقنية، تُتيح المنصة أدوات متقدمة (قنوات صوتية، تصويت مباشر، تقسيم موضوعي للمجموعات)، بالإضافة إلى أن المنصة لا تُبنى حول الخوارزميات التي تحدد من يرى ماذا، كما في فيسبوك أو تيك توك، بل حول المجتمع نفسه — وهذا ما جعلها أقرب إلى ما يسميه عالم الاجتماع الأميركي راي أولدنبرغ "المكان الثالث": فضاء بين البيت والعمل، أو بين الواقع الافتراضي والشارع، يلتقي فيه الناس ليتحدثوا بحرية، بلا رقابة أو هرمية.