بعد التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة بواسطة أمريكية عربية، والمضي قدماً في إنجاز المرحلة الأولى من الاتفاق بتبادل الأسرى بين الطرفين وإدخال المساعدات، تطرح تساؤلات عديدة حول من سيدفع تكاليف إعادة إعمار غزة بعد تدميرها من قبل دولة الاحتلال على مدار عامين.
وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قال قبيل التوصل لوقف إطلاق النار إن "دول" في الشرق الأوسط ستساعد في إعادة إعمار قطاع غزة، لكنه لم يقدم مزيدًا من التفاصيل حول هذه الدول. وأضاف ترامب، في تصريح لقناة "فوكس نيوز" الأمريكية: "نعتقد أن قطاع غزة سيكون مكانًا أكثر أمانًا، وستساعد دول أخرى في المنطقة في إعادة الإعمار، لأنها تمتلك ثروات طائلة، وترغب في رؤية ذلك يتحقق، وسنشارك في مساعدتهم على إنجاح العملية والحفاظ على السلام".
لكن يؤكد خبراء ومنظمات دولية٬ أن دولة الاحتلال هي الجهة التي من المفترض أن تتحمل كامل أعباء إعادة إعمار غزة بصفتها دولة احتلال، وبصفتها الجهة التي قامت بتدمير القطاع في هذه الحرب وحتى الحروب السابقة التي شنتها على القطاع المحاصر منذ 17 عاماً.
لماذا يجب على الاحتلال الإسرائيلي قانونياً تحمل كلفة إعادة إعمار غزة؟
- بعد عامين على حرب الإبادة الجماعية، تعرض القطاع لحالة دمار شامل بفعل عشرات الأطنان من القنابل التي دمرت أحياء بأكملها سُوّتها بالأرض. وتشير التقارير إلى أن 92% من المنازل تضررت أو دُمرت بالكامل في القطاع. كما دمّرت "إسرائيل" المستشفيات والمدارس، واستُهدفت البنية التحتية للمياه والكهرباء عمدًا.
- وبحسب بيان نشره مكتب الإعلام الحكومي في غزة الأسبوع الماضي، فإن الاحتلال ألقى أكثر من 200 ألف طن من المتفجرات على قطاع غزة خلال عامين من العدوان، باستخدام جميع أنواع الأسلحة والصواريخ والعبوات الناسفة من البر والجو والبحر. وهذه الكمية تعادل إجمالي طاقة حوالي 13 قنبلة نووية من نوع هيروشيما. وهذا يثير حتمًا تساؤلات حول مدى الدمار، وطبيعة الخسائر البشرية والمادية، ومساحة الأرض المتضررة مقارنةً بكارثة تاريخية مماثلة.
- ووفقًا لتقييم مشترك للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، ستتطلب إعادة الإعمار خلال العقد المقبل حوالي 53 مليار دولار. ويخلص هذا التقرير إلى أن هناك حاجة لأكثر من 50 مليار دولار فقط لاستعادة البنية التحتية والخدمات الأساسية.
- ووفقاً للقانون الدولي الإنساني، فإن القاعدة رقم 150 تنصّ على أن "تلتزم الدولة بالمسؤولية عن انتهاكات القانون الدولي الإنساني، بالتعويض الكامل عن الخسائر أو الأذى الذي تسببت به الانتهاكات". فيما تنص اتفاقية لاهاي الخاصة باحترام تقاليد وأعراف الحرب المؤرخة في 18 تشرين أول/ أكتوبر 1907، وتحديدًا المادة رقم 3 على "أن يكون الطرف المتحارب الذي يخل بأحكام هذه الاتفاقية ملزماً بالتعويض إذا دعت الحاجة، كما يكون مسؤولاً عن جميع الأعمال التي يرتكبها أشخاص ينتمون إلى قواته المسلحة".
- ونصت المادة رقم 52 من نفس الاتفاقية، على أن "تحظر مهاجمة أو قصف المدن والقرى والمساكن والمباني أياً كانت الوسيلة المستعملة". وجاء في المادة 53 أنه "لا يجوز لقوة احتلال أن تستولي على الممتلكات والأموال النقدية، ويجب إعادتها الى أصحابها ودفع التعويض عند إقرار السلم".
- وتقول منظمة "بتسليم" إن الحكومة الإسرائيلية ترفض دفع تعويضات للضحايا الفلسطينيين في ما يتعلق بالأضرار الجسدية والنفسية والمادية والاقتصادية التي يتعرضون لها بسبب الاحتلال. رغم أن هذه التعويضات هي واجب منصوص عليها وفق أحكام القانون الدولي٬ ويعد تهرب "إسرائيل" من دفع تلك التعويضات هو انتهاك جسيم لحقوق سكان الأراضي المحتلة، لأنه ينتهك حقهم في تلقي المساعدة والعون في حال انتهاك حقوقهم الأساسية، وخاصة الحق في الحياة وحماية النفس وسلامة الجسد، وحق الملكية الخاصة.
- ويضيف تقرير أعدته منظمة "بتسليم" وحمل عنوان: "بلا حسيب أو رقيب: كيف تخلّت إسرائيل عن واجب دفع التعويضات للفلسطينيين عن أضرار ألحقتها بهم" في عام 2017 ٬ أن "إسرائيل تدعي أن موضوع التعويضات يجب أن يُحلّ ضمن حل نهائي مع الفلسطينيين، أي في نطاق تسوية سياسية لحل النزاع وليس كتعويض فردي للأشخاص. إلا أنه ادعاء باطل، إذ من الممكن أن يكون وارداً لو كان هذا النزاع حرباً بين دولتين. لكن الواقع أن هذا احتلال مستمر للأراضي الفلسطينية وينتهك يومياً الحقوق الأساسية للمواطن الفلسطيني في الأراضي المحتلة. وعندما تصرح حكومة إسرائيل أن على المتضررين انتظار إنهاء الصراع، فإنها تقول بكل وضوح إن المتضررين لن يحصلوا على تعويضات إلى الأبد".
- وبحسب تقرير لمركز الميزان لحقوق الإنسان٬ أقر الكنيست الإسرائيلي عام 2012، تعديلاً على قانون سن عام 1952، عرف بالتعديل رقم 8، يعفي الحكومة من التعويض وجبر الضرر للضحايا الفلسطينيين، بهدف التهرب من مسؤولية جبر الضرر للفلسطينيين من خلال المحاكم الإسرائيلية. جاء هذا بعد إجبار الحكومة من قبل المحكمة، عام 1979، بتعويض الفلسطينيين في بعض القضايا التي قدمت للمحكمة.
- وتبنى الكنيست الإسرائيلي التعديل الثامن الذي منح المحاكم الإسرائيلية حق رفض القضايا المدنية في مراحلها الأولية، دون الاستماع للشهود أو الأخذ بالأدلة إذا كانت المطالبة مقدمة لقاء خسائر نتجت عن "عملية عسكرية للجيش الإسرائيلي.
- وجاء القانون الذي يوقف المسؤولية والتعويض، مخالفة صريحة للقانون الدولي. إذ لا يمكن لدولة أن تعفي نفسها من المسؤولية الضرر الذي ألحقته بالطرف الآخر. وكما سيتضح بعد عدة سنوات في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بعد حرب غزة 2023 فإن دولة الاحتلال ستكون مجبره على "جبر الضرر" فيما يتعلق بالإبادة الجماعية التي ارتكبها في الأراضي الفلسطينية، وبالتحديد في قطاع غزة.
- وبحسب القانون الدولي٬ فإن "إسرائيل" وشركائها في الحرب مسؤولين عن تكلفة بناء غزة ومستشفياتها ومنازلها وبنيتها التحتية التي دمرتها. ويشير مركز الميزان إلى أنّه "لا يوجد سبل انتصاف داخلية تستحق الذكر بالنسبة لأصحاب المطالبات القانونية من سكان قطاع غزة أمام المحاكم الإسرائيلية، بسبب العراقيل التي تمخضت عن سلسلة من التعديلات التشريعية المصممة خصيصاً للوصول إلى هدف حرمان الفلسطينيين من أي شكل من أشكال الانتصاف، ما دامت مطالباتهم تتعلق بانتهاكات من طرف الجيش الإسرائيلي.
- ويضيف التقرير أنه منذ انطلاق الانتفاضة الثانية عام 2000، عكف المشرّع الإسرائيلي، بالتنسيق مع الجيش، على وضع عراقيل أمام المطالبات المقدمة من الفلسطينيين في دعواهم التي تتهم إسرائيل بانتهاء القانون الدولي الإنساني.
- يذكر أنه في عام 1983، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 144/38، تدين فيه إسرائيل لاستغلالها الموارد الطبيعية للأراضي الفلسطينية المحتلة. وتطالب جميع الدول والمنظمات والشركات التجارية، عدم الاعتراف بأية تدابير تتخذها إسرائيل لاستغلال الموارد الوطنية للأراضي الفلسطينية. كما طالبت فيه الجمعية إسرائيل بتحمل مسؤوليتها عن تعويض السكان المحليين عن أية أضرار لحقت بهم. لكنها لم تخضع لهذا القرار حتى اللحظة.
كيف تتهرب "إسرائيل" من تحمل المسؤولية؟
- لم تُدمَّر غزة بطبيعتها، بل دُمّرت بفعل القصف والحصار وحرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في عدة حروب. ويجب أن يكون مطالبة إسرائيل، والدول المتواطئة ماديًا فيما حدث، بالتعويضات هو النهج الأمثل لهذه القضية. وترفض "إسرائيل" كلياً تحمّل ما فعلته في غزة٬ وتدعمها الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك٬ في حين يلقي الطرفان على عاتق دول المنطقة وخصيصاً دول الخليج٬ تحمل كلفة إعادة الإعمار.
- وسبقت تصريحات ترامب الأخيرة التي قال فيها إن "دول المنطقة التي تمتلك ثروات طائلة" ستعيد إعمار غزة٬ تصريحات أخرى مشابهة لبنيامين نتنياهو رئيس وزراء الاحتلال في فبراير 2025 حيث قال خلال مقابلة مع قناة "فوكس نيوز" الأمريكية: "إن على الدول العربية والخليجية تمويل إعادة إعمار قطاع غزة٬ وهذه فرصتهم لإثبات اهتمامهم بالقطاع"٬ على حد تعبيره.
- ويبدو أن الدول العربية قد قبلت هذا الطرح دون تحميل الاحتلال مسؤوليته عن الدمار الذي أحدثه في غزة٬ حيث تسعى مصر إلى تفعيل خطة اعتمدتها كل من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي في مارس/آذار الماضي، وتهدف لإعادة إعمار غزة دون تهجير الفلسطينيين منها، ويستغرق تنفيذها خمس سنوات، وتتكلف نحو 53 مليار دولار.
- وخلال قمة شرم الشيخ التي تم فيها توقيع اتفاق وقف إطلاق النار وحضرتها دول عدة٬ فقد طلب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، من نظيره الأمريكي دونالد ترامب، دعمه لمؤتمر إعادة إعمار قطاع غزة التي تعتزم القاهرة تنظيمه، داعيا لاستكمال مراحل اتفاق وقف النار بالقطاع. وقال السيسي: "باسمي وباسم كل المصريين، وكل محبي السلام، أشكرك على تحقيق هذا الإنجاز العظيم٬ نريد دعم الرئيس ترامب ورعايته معنا في مؤتمر إعادة إعمار غزة".
- وأقرّ مبعوث ترامب ستيف ويتكوف علنًا بأن إعادة إعمار غزة قد تستغرق من عشر سنوات إلى خمس عشرة سنة، مشيرًا إلى حجم الدمار الهائل، ووجود ذخائر غير منفجرة، وانقطاع المياه والكهرباء.
السؤال الأهم: من سيوفر أموال إعادة الإعمار٬ ومن سيضع القواعد؟
- يقول الأكاديمي والباحث الاقتصادي البريطاني ريتشارد مورفي٬ إنه بحسب خطة "إعادة بناء غزة، والتسريع الاقتصادي، والتحول"، وهي الخطة التي ناقشها ترامب مع شخصيات مثل توني بلير٬ فإن هذه الخطة تتضمن وصاية على غزة لمدة عشر سنوات، وإشرافًا خارجيًا على تنفيذ المشاريع، واستخدام وسطاء دوليين واستثمارات خاصة.
- ووصف تقرير للمركز العربي في واشنطن العاصمة هذه الخطة بأنها "مخطط لنزع الملكية". تقترح الخطة إعادة توطين "طوعية" للفلسطينيين خلال إعادة الإعمار، وتحد من دورهم في صنع القرار، وتُركز دور الجهات الخارجية في إدارة وتصميم اقتصاد غزة بعد الحرب.
- يأتي نهجٌ آخر من الدول العربية، وأبرزها مصر، التي تسعى إلى جعل نفسها محور إعادة الإعمار باستخدام غطاء السلطة الفلسطينية. وأفادت رويترز أن هذه جهات عربية مثل مصر تحاول معارضة مقترحات الولايات المتحدة، لكنها لم تُحَلّ بعد مسائل رئيسية، مثل من سيتحمل التكلفة وكيف ستُدار غزة.
- علاوة على ذلك، حتى في هذا المقترح، تبرز الشروط بشكل كبير. فالتدقيق والضمانات الأمنية والرقابة السياسية كلها مطلوبة. حتى الآن، كل مخطط مقترح لغزة ينطوي على شروط ضمنية، وكثيرًا ما يتضمن قيودًا صريحة على السلطة الفلسطينية.
- ويقول مورفي إن مسألة إعادة إعمار غزة غير منفصلة عن مسألة الحكم المستقبلي في غزة والضفة الغربية٬ كما ستمنح عملية إعادة الإعمار القائمين عليها مالًا ونفوذًا هائلًا، وربما سلطة. وكما هو الحال دائمًا، من المرجح أن تُحدد كيفية تدفق الأموال من يُشكل المجتمع.
- ويقول الباحث البريطاني إن اشتراط هذا التمويل أمرٌ شبه حتمي٬ فالمانحون لا يُسلمون مبالغ طائلة دون مطالبة بالرقابة والضوابط. وإذا أُديرت إعادة الإعمار، في هذه الحالة، من قِبل أمناء أجانب أو وسطاء خاصين، كما يُلمّح ترامب، فقد تُمثّل هذه الشروط حقًّا فعليًا في الحكم.
- وبحسب مورفي٬ إذا هُمّش الفلسطينيون في أي سيناريو أثناء التخطيط، أو حُوِّلوا إلى متلقين بدلًا من أن يكونوا صانعي إعادة بناء بلدهم، فهناك خطر حقيقي من ظهور شكل جديد من الاحتلال التكنوقراطي لغزة. حيث أن ضعف القاعدة المؤسسية الحالية والحتمية في غزة يجعلها عرضة للخطر بشكل خاص. فبدون مؤسسات قوية وشفافة ورقابة من المواطنين والسكان، فمن البديهي أن تكون الانتهاكات واردة.
- لذلك٬ يقترح مورفي أنه يجب أن تُركّز خطة إعادة الإعمار على المؤسسات الفلسطينية والمجتمع المدني. يجب أن تكون إعادة الإعمار بقيادة فلسطينية في التصميم والتنفيذ والإشراف. يمكن للجهات الخارجية المساعدة، ولكن يجب ألا تحل محلّ صنع القرار المحلي. لا أشكّ في وجود المهارات اللازمة. لقد أثبت شعب غزة صموده.
- كما ينبغي أن يأتي تمويل المانحين مع تدخل أقل في السيادة، حيث إن شروط الشفافية والرقابة والمساءلة المتعلقة بالأموال المُقدمة مشروعة تمامًا. ومع ذلك، فإن شروط الحوكمة، والتوافق السياسي، والتصميم الاجتماعي، والتغيير الديموغرافي القسري ليست كذلك قطعًا٬ ويجب أن يكون القرار والسيادة للفلسطينيين.
- ويجب أن تتجنب عملية إعادة الإعمار النزوح أو الهندسة الديموغرافية أو الإقصاء٬ بحيث يجب ألا يكون هناك تهجير قسري، ولا استيلاء على الأراضي، ولا تهجير مُدبّر لسكان غزة نتيجةً لعملية إعادة الإعمار. ولا يمكن أن تكون إعادة الإعمار غطاءً لإعادة الهيكلة الديموغرافية. يجب أن نرى فشلَ رغبة إسرائيل في التطهير العرقي. هذا أمرٌ أساسيٌّ لأي خطة. يجب أن تكون الأخلاقيات هي أساس الإصلاح والتعويض والترميم، وليس المحو.
- في النهاية٬ يقول مورفي إنه خلال الأشهر المقبلة، سوف يحاول كثيرون تشكيل عملية تعافي غزة، ولكن السؤال الحقيقي سوف يظل دائماً ليس كيفية إعادة البناء، بل من الذي سيضع القواعد التي تحكم عملية إعادة البناء. إذا استمرت إعادة الإعمار دون تعويضات، ودون سيادة فلسطينية، ودون رقابة حقيقية، فلن تُحقق السلام. بل ستُرسّخ التبعية والاحتلال. وفي هذه الحالة، سيُعاد تصميم غزة لخدمة المصالح الإسرائيلية والأمريكية٬ وسيُشجّع هذا الوضع على تجدد الصراع.