منذ مطلع الألفية، برزت قطر كلاعب مؤثر في ساحات النزاعات الإقليمية والدولية، ليس عبر قوتها العسكرية أو ثقلها الديموغرافي، بل من خلال الوساطة التي تحولت إلى أداة دبلوماسية ممنهجة، ومن ثم إلى مهمة تكاد تمسّ ركائز الأمن العالمي.
اتفاق الدوحة في لبنان (2008)، محادثات دارفور، المفاوضات بين واشنطن وطالبان (2020)، وجهود الوساطة في غزة، بل وحتى أزمات بعيدة مثل فنزويلا وأوكرانيا؛ كلها شواهد على مسار جعل من الدوحة وجهة دائمة للخصوم الباحثين عن مخرج.
هذا المسار لم يتأسس على براعة خطابية فقط، بل على مزيج من الخلفية السياسية والثقافية كصورة قطر كـ "كعبة المضيوم"، والنصوص الدستورية الملزمة، والقدرة على الجمع بين أدوات مالية مرنة وعلاقات سياسية متشعبة مع أطراف متناقضة.
ومع أن عدوان الاحتلال الإسرائيلي الأخير في قلب الدوحة طرح أسئلة صعبة عن حدود الضمانات الأمنية الأمريكية وعن استهداف وظيفة الوساطة ذاتها، فإنه في الوقت ذاته كشف مدى مركزية هذا الدور؛ إذ لم يعد ممكناً الحديث عن تسويات في أكثر من ملف دولي دون المرور عبر العاصمة القطرية.
ما هي الملفات التي توسطت فيها قطر؟
خلال العقود الثلاثة الأخيرة، انخرطت قطر في وساطات متعددة لفض نزاعات بارزة، الأمر الذي جعلها محل متابعة واسعة على المستويين الإقليمي والدولي.
ورغم تباين نتائج الوساطات القطرية حول العالم، فإنها حملت دائماً تأثيراً بارزاً. ففي أسوأ الأحوال، حين لم تصل النزاعات إلى تسوية نهائية، نجحت الدوحة في تليين المواقف وتخفيف التوترات، ما أبقى بابها مفتوحاً أمام فرص الحل، كما تشير الكثير من المواقف.
مع مرور الوقت، رصدت العديد من الدراسات توسع نطاق الوساطات القطرية لتشمل ملفات إقليمية ودولية متعددة. وقد ساهمت هذه الانخراطات في تعزيز صورة الدوحة كوسيط ليس محلياً فحسب، بل كفاعل معترف به على الساحة الدولية.

فخلال العقدين الماضيين، أخذت قطر تكثف جهود الوساطة في العديد من الأزمات، وسجلت نجاحات رفعت مكانتها الدولية تدريجياً من مجرد وسيط محلي إلى وسيط عالمي بارز وفاعل.
بدأت إرهاصات هذا الدور مطلع الألفية:
- في عام 2004 نجحت قطر في التوسط لإطلاق 100 أسير حرب مغربي كانوا محتجزين في الجزائر وإعادتهم إلى المغرب، كانت هذه إحدى أولى ثمار نهجها الجديد.
- في 2006 رعت الدوحة اتفاق مصالحة بين حركتي فتح وحماس الفلسطينية، وفي 2007 توسطت لوقف إطلاق نار في اليمن. وفي نفس العام أسهمت في الإفراج عن الممرضات البلغاريات في ليبيا المتهمات بـ "قضية الإيدز"، وتضمن الاتفاق إنشاء "الصندوق الليبي لرعاية أطفال الإيدز" الذي ساهمت فيه قطر وجمهورية التشيك.
- وبرز اسم قطر بقوة في مايو/أيار 2008 باستضافتها مفاوضات الفرقاء اللبنانيين التي تُوّجت باتفاق الدوحة منهية أزمة سياسية كادت تجرّ لبنان إلى حرب أهلية. هذا النجاح عزز مصداقية قطر إقليمياً وأظهر قدرتها على جمع أطراف متخاصمة على طاولة واحدة. وفي العام نفسه حصلت الدوحة على تفويض من جامعة الدول العربية لقيادة مفاوضات سلام دارفور في السودان.
- بين 2008 و2010 توسّطت قطر في سلسلة نزاعات إفريقية وعربية: ساعدت على إبرام صلح بين السودان وتشاد (وُقّع 2010)، وأطلقت حوارات بين حكومة اليمن والحوثيين لوقف إطلاق النار، وقادت وساطة ناجحة لحل نزاع الحدود بين جيبوتي وإريتريا عام 2010. تُوّجت تلك المرحلة باتفاق سلام دارفور 2011 (وثيقة الدوحة للسلام) بعد مفاوضات ماراثونية استمرت عامين ونصف برعاية قطر. وأصبحت وثيقة الدوحة مرجعية أساسية أنهت أحد أطول نزاعات أفريقيا الأهلية.
وبحسب ورقة بحثية بعنوان "الدور المتطور لقطر في وساطة النزاعات" نُشرت في مجلة "Mediterranean Politics"، فقد برزت قطر في أواخر العقد الأول من الألفية الجديدة كأحد أبرز صنّاع السلام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فقد أدّت أدواراً متعددة في الوساطة الدبلوماسية، وتقديم المساعدات الإنسانية، والمساهمة في جهود إعادة الإعمار بعد النزاعات.
وتشير الورقة إلى أن أبرز محطات هذا الدور تمثّلت في التوسط لإبرام اتفاقات سلام أو وقف إطلاق النار في لبنان (2008)، واليمن (2010)، ودارفور (2011)، وغزة (2012–2014)، وهي جهود حظيت بتغطية إعلامية واسعة وأسهمت في تعزيز سمعة قطر كوسيط صاعد في الإقليم.
هذا التحول السريع لقطر من دولة هادئة إلى دولة ذات حضور بارز في الدبلوماسية الإقليمية أدى إلى زيادة موازية في التحليلات الأكاديمية والسياسية حول دوافع وديناميات الوساطة القطرية وسياساتها الخارجية.
وبرغم تراجع نشاط قطر في مجال الوساطة خلال أزمة الحصار الذي فُرض عليها من بعض الدول العربية عام 2017 لانحيازها لإرادة الشعوب أثناء "الربيع العربي"، واصلت الدوحة أداء أدوار الوساطة في ملفات حساسة؛ إذ استمرت مثلاً خلال فترة الحصار في استضافة مكتب طالبان ورعاية المفاوضات بين الحركة والولايات المتحدة، ما عزز مكانتها كشريك لا غنى عنه لواشنطن. وقد أقرّ مسؤولون أمريكيون، كما تفيد بعض التقارير، بأن الشراكة مع قطر كانت "حاسمة" في معالجة ملفات أمنية في كثير من الملفات الأمنية.

مع دخول العقد الثالث من القرن، انتقلت قطر إلى ساحة الوساطات الدولية الأوسع نطاقاً. فلم تعد جهودها محصورة في النزاعات العربية التقليدية، بل امتدت لتشمل أزمات عالمية معقّدة:
- أفغانستان (طالبان): احتضنت قطر منذ 2013 مكتباً سياسياً لحركة طالبان، ولعبت دور الوسيط المحوري بين الحركة والولايات المتحدة. تُوِّجت هذه الجهود بتوقيع اتفاق الدوحة التاريخي في فبراير/شباط 2020 الذي حدد جدول انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان. كما ساهمت الدوحة في عام 2019 في تسهيل محادثات السلام بين الأفغان أنفسهم.
وعندما انسحبت القوات الأجنبية في 2021 وصعدت طالبان إلى السلطة، تولّت قطر بتكليف دولي تنسيق عمليات إجلاء أكثر من 110 آلاف شخص عبر مطار كابل ومن خلال جسر جوي إنساني تاريخي. كما أعلنت الولايات المتحدة عن ترتيبات مع قطر لتسهيل/التوسط في أي اتصال رسمي بين الحكومة الأمريكية وأفغانستان.
- إقليم دارفور والسودان: كما أسلفنا، نجحت قطر في إنهاء نزاع دارفور باتفاق 2011، واستمرت بدعم تنفيذه مادياً وسياسياً. كذلك رعت اتفاقات سلام أخرى بالسودان حتى 2017. وفي 2022 استضافت الدوحة حواراً وطنياً للفصائل التشادية توصّل إلى خريطة طريق للمصالحة.
- رواندا والكونغو الديمقراطية: في تطور لافت، شاركت قطر الولايات المتحدة في رعاية اتفاق سلام بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية لإنهاء صراع دام عقوداً في منطقة البحيرات العظمى. حيث جرت المفاوضات الأولى في الدوحة وتكللت بتوقيع اتفاق في واشنطن (يونيو/حزيران 2025) بحضور قطري وتنسيق مع الاتحاد الإفريقي. حتى الرئيس الأمريكي آنذاك أشاد بدور قطر "الذي عمل بلا كلل" لتحقيق هذا الاتفاق، واعتبرته الخارجية الرواندية عاملاً حاسماً في نجاح المباحثات.
- فنزويلا: وقد انعكس توسع الوساطات القطرية أيضاً في دخولها على خط أزمات تقع خارج الإقليم العربي. فبحسب تقارير إعلامية ودبلوماسية، لعبت الدوحة دوراً بارزاً في الأزمة الفنزويلية بين الحكومة والمعارضة، حيث استضافت مفاوضات سرّية جمعت مسؤولين أمريكيين بممثلين عن حكومة كاراكاس. وأسفرت هذه اللقاءات، وفق ما أُعلن، عن تفاهمات شملت تخفيفاً مؤقتاً لبعض العقوبات الأمريكية عام 2023.
كما ساهمت قطر في عملية تبادل سجناء بين واشنطن وكاراكاس أواخر العام نفسه، وهو ما عُدّ مؤشراً على ثقة أطراف متباعدة في قدرة الوسيط القطري على توفير قنوات تفاوضية حتى في سياقات تقع خارج نطاق الشرق الأوسط، وصولاً إلى نصف الكرة الغربي.
- الحرب الروسية الأوكرانية: على الرغم من تعقيد هذه الحرب، وجدت قطر لها دوراً إنسانياً مهماً؛ فتتوسط بالتنسيق مع أطراف دولية أخرى في سلسلة اتفاقيات لمّ شمل الأسر وتبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا.
- بين واشنطن وطهران: استطاعت قطر أن توظف علاقتها الجيدة مع كل من الولايات المتحدة وإيران لتسهيل الحوار بينهما. وبرز ذلك في استضافتها مفاوضات غير مباشرة حول إعادة إحياء الاتفاق النووي في الدوحة خلال صيف 2022. كما تعاونت مع عُمان في إتمام صفقة تبادل السجناء الأمريكيين والإيرانيين في سبتمبر/أيلول 2023، والتي تضمنت الإفراج عن أصول إيرانية مجمدة. هذه التحركات عززت مكانة قطر كقناة اتصال موثوقة بين طرفين لطالما تعثرت قنوات تواصلهما المباشرة.
فلسطين وحرب الإبادة في غزة
إلى جانب مشاركاتها في ملفات إقليمية متنوعة، مثل عضويتها في "مجموعة الخماسية" مع الولايات المتحدة وفرنسا ومصر والسعودية بشأن الأزمة السياسية في لبنان قبل الحرب، وانخراطها في جهود التهدئة في القرن الإفريقي والصومال، واصلت قطر دورها البارز في القضية الفلسطينية، ولا سيما في قطاع غزة. فقد تراكمت خبرة الدوحة الدبلوماسية في هذا الملف عبر سلسلة من المحطات، يمكن تتبعها على النحو الآتي:
- 2012–2014: اضطلعت قطر بدور الوسيط في جهود المصالحة بين حركتي فتح وحماس، وهو ما تُوِّج بـ "اتفاق الدوحة" عام 2014.
- أغسطس/آب 2014: مساهمة قطرية في التوصل إلى وقف إطلاق النار في حرب غزة.
- فبراير/شباط 2021: وساطة قطرية–أوروبية لتعهد إسرائيل والسلطة الفلسطينية بمشروع خط أنابيب غاز مخصص لغزة.
- مايو/أيار 2021: لعبت قطر دوراً محورياً في التوصل إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس بعد التصعيد العسكري.
- نوفمبر/تشرين الثاني 2021: اتفاق برعاية قطرية–مصرية مع لجنة تنسيق المساعدات الدولية في أوسلو لتقديم دعم إنساني لغزة.
- أغسطس/آب 2022: وساطة لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس بعد جولة تصعيد جديدة.
- مايو/أيار 2023: وساطة قطرية في وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي.
برزت الوساطة القطرية بجانب الدور المصري منذ حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، إذ اضطلعت الدوحة بدور الوسيط الرئيسي بين إسرائيل وحركة حماس لفترات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، وهو اختراق ما كان ليحدث دون قناة الاتصال القطرية، كما اعترف الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن بأن قطر شكّلت "شريكاً جوهرياً" في جهود التهدئة.
لكن هذه الوساطة نفسها سرعان ما أصبحت هدفاً مباشراً لعدوان الاحتلال الإسرائيلي. ففي 9 سبتمبر/أيلول 2025، نفّذت إسرائيل ضربة جوية غير مسبوقة في قلب العاصمة القطرية الدوحة استهدفت اجتماعاً لقيادات من حركة حماس.
وأسفرت الغارة عن مقتل خمسة فلسطينيين ومواطن قطري، دون أن تتمكن من إصابة القيادات المستهدفة. وأعقب ذلك تصريحات متكررة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو – المطلوب دولياً بتهم جرائم حرب – أكد فيها أنه لا يستبعد تكرار مثل هذه العمليات "أينما كانوا"، في إشارة واضحة إلى أن الوسطاء أنفسهم قد يصبحون جزءاً من بنك الأهداف. وقد زاد من حدة تصريحاته، في الوقت الذي عقدت فيه دول عربية وإسلامية قمة لدعم قطر بعد الهجوم، الأمر الذي ضاعف من الصدى السياسي والإقليمي للواقعة.

أثارت الضربة صدمة واسعة في الداخل القطري والإقليم، إذ جاءت في وقت كانت الدوحة تضطلع فيه بدور الوسيط لوقف الإبادة في غزة، وفي ظل مكانتها كحليف وثيق لواشنطن واستضافتها لقاعدة العديد، أكبر تمركز عسكري أمريكي في الشرق الأوسط، رأى محللون أن الحدث شكّل اختباراً مباشراً لحدود الضمانات الأمنية الأمريكية، وألقى بظلاله على مصداقية التحالف الاستراتيجي بين قطر والولايات المتحدة.
ورغم نفي واشنطن علمها المسبق بالهجوم الإسرائيلي، فإن التقارير العديدة التي نُشرت، إلى جانب تناقض التصريحات الأمريكية، أثارت تساؤلات حول مدى إمكان وقوع الضربة دون تنسيق ما، خاصة في ظل الوجود العسكري والاستخباراتي الكثيف للولايات المتحدة في قطر.
وتساءلت التحليلات: كيف سُمِح بضربة كهذه في بلد حليف رئيسي للولايات المتحدة؟! إذ تُصنَّف قطر كحليف رئيسي من خارج الناتو للولايات المتحدة، وهي مكانة تدل على أوثق العلاقات الأمنية التي يمكن أن تقيمها واشنطن مع دولة أجنبية ليست عضواً في الناتو. ففي عام 2022، صنفت الولايات المتحدة قطر حليفاً رئيسياً من خارج حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وانضمت بذلك إلى إسرائيل ومصر والأردن في هذا الوضع، الذي يمنحها امتيازات خاصة في مجال شراء الأسلحة وتبادل المعلومات الاستخباراتية.
أفادت التقارير أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اتصل ببنيامين نتنياهو لإدانة الهجمات ومطالبته بعدم تنفيذ هجمات لاحقة في قطر. ومع ذلك، لم يشر إلى أن الولايات المتحدة قد تمنع إسرائيل من استخدام السلاح، أو تفرض عقوبات عليها، أو تعزلها بشكل جوهري بسبب الهجوم.
لذلك، رأت العديد من التحليلات أن الضربة قد قوّضت ثقة الدوحة بمظلة الحماية الأمريكية، وأرسلت إشارة سلبية إلى بقية دول الخليج حول مدى أولوية أمنهم مقارنة بأولويات إسرائيل لدى واشنطن.
ورغم فشل الهجوم في تحقيق غايته المباشرة، إلا أنه شكّل ضربة لدور قطر كوسيط، وكاد يُفشِل المباحثات الهشّة لوقف الحرب. وقد دانت دول الخليج هذا الاعتداء بشدة، معتبرة إياه تجاوزاً خطيراً للخطوط الحمراء.
والمفارقة أن هذه الضربة الإسرائيلية جاءت بعد أشهر قليلة فقط من الدور الذي لعبته قطر خلال ما عُرف بـ "حرب الأيام الاثني عشر" بين الولايات المتحدة وإيران.
في صباح يوم الجمعة، 13 يونيو/حزيران، كان أول اتصال للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد إطلاق إسرائيل وابلاً من الصواريخ على طهران مع أمير قطر، على أمل أن تقنع الدوحة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بالانخراط في حل تفاوضي، وفقاً لصحيفة الغارديان.
وخلال أيام التصعيد، ظلت قطر قناة الاتصال الأساسية بين واشنطن وطهران، وعندما وجّهت الولايات المتحدة ضربات إلى منشآت نووية إيرانية في 22 يونيو/حزيران، كان القطريون يتحركون لخفض التوتر، وخلال 48 ساعة فقط، انتهى الصراع – وكان لقطر دور محوري في إيقافه.
أدوات القوة القطرية في الوساطة
بحسب دراسة تناولت العقدين الأولين للوساطة القطرية، بعنوان "الوساطة القطرية: بين الطموح والإنجاز"، لمركز بروكنجز الدوحة، تنوعت أدواتها ما بين القوة المالية، والعلاقات الشخصية المباشرة، والقبول والحضور الرمزي كدولة عربية ومسلمة قادرة على التحدث مع مختلف الأطراف. هذه الأدوات مجتمعة سمحت لقطر بأن تشق لنفسها مساراً فريداً في الدبلوماسية، يختلف عن القوى الكبرى أو حتى عن جيرانها في الخليج.
حيث وفّرت مواردها المالية إمكانات لوجستية وحوافز اقتصادية دعمت مسارات التفاوض، فيما أتاح الحضور المباشر لقياداتها بناء مستويات عالية من الثقة لدى الأطراف المتنازعة. وإلى جانب ذلك، أسهمت صورة قطر كدولة عربية ومسلمة منفتحة على مختلف الأطراف في تعزيز قبولها كوسيط محايد في حالات قادرة على التحدث مع أطراف متخاصمة لا تجتمع عادة في مكان واحد، خصوصاً في لحظات الانفجار حيث يفتقد الجميع إلى قناة موثوقة للحوار.
من أين تأتي فلسفة الوساطة القطرية؟
يؤكد المسؤولون القطريون أن فلسفة الوساطة التي تتبناها بلادهم تنطلق من اعتبار الدبلوماسية أداة لصناعة السلام، وليست وسيلة لتحقيق مكاسب ضيقة. فهم يقدمون قطر كـ "داعية حوار" يسعى إلى تقريب وجهات النظر وسد الفجوات على قاعدة الطوعية واحترام ملكية الأطراف للحل، وهو ما يضمن – بحسبهم – استدامة الاتفاقات.
وغالباً ما يُشبَّه دورهم بـ "الطبيب" الذي يبتكر علاجات لأزمات معقدة، لا بفرض حلول جاهزة، بل بتهيئة ظروف تسمح للمتخاصمين بالوصول إلى تسوية بأنفسهم. وقد شدّد مسؤولوها، مثل وزير الدولة محمد بن عبد العزيز الخليفي، على أنهم يسعون دوماً لـ "جمع الناس حول طاولة المفاوضات".

تعود هذه الفلسفة لجذور تاريخية وثقافية؛ فبحسب الغارديان، يرى القطريون في بلدهم "كعبة المضيوم"، أي ملجأ للمستضعفين والمنفيين، وهي صورة ورثوها منذ تأسيس الدولة. هذا الوعي بهشاشة الموقع الجغرافي لدولة صغيرة محاطة بقوى أكبر منها، تحوّل إلى مصدر قوة قوامه بناء الثقة مع الضعفاء وكسب ود الأقوياء في آنٍ واحد.
هذا التوجه وُضع له أساس قانوني في دستور 2003، الذي نصّ على أن السياسة الخارجية القطرية تقوم على تعزيز السلام والأمن الدوليين من خلال تشجيع الحل السلمي للنزاعات. ومن هنا، يرى أمير البلاد أن قطر تلعب دورين: مزوّد للطاقة كمنحة طبيعية، ووسيط للسلام كخيار واعٍ تعمل القيادة على ترسيخه.
أما المكاسب، فهي بالأساس معنوية ورمزية: بناء سمعة دولية كقوة خيرية مؤثرة، وكسب الاعتراف والدور، أكثر من السعي وراء استثمارات أو نفوذ مباشر. وقد لخّص أحد المشاركين في وساطة قادتها قطر هذا التوجه بقوله لصحيفة الغارديان: "إنهم لا يطلبون شيئاً من الأطراف… كل ما أرادوه هو أن يُعترف بهم كطرف فاعل."
تُبرز الدراسات والتقييمات التي تناولت تجربة قطر في الوساطة أن هذا الدور تطوّر إلى وظيفة تؤثر في مسارات الاستقرار الإقليمي والدولي. فقد أظهرت الأبحاث أن الجمع بين الموارد المالية، والمرونة السياسية، مكّن الدوحة من التحول إلى وسيط موثوق في نزاعات متباينة، من الشرق الأوسط إلى مناطق أبعد. وفي الوقت ذاته، تذكّر هذه التقييمات بأن النجاح لا يخلو من تحديات، سواء ما يتعلق بضغوط البيئة الإقليمية، أو تقلب مواقف القوى الكبرى، أو حتى المخاطر المباشرة التي قد يتعرض لها الوسطاء. ويزداد هذا التعقيد في ظل التغيرات الجوهرية التي يشهدها النظام الدولي بفعل العدوان الإسرائيلي وما يرافقه من كسر للخطوط الحمراء والقانون الدولي، إضافة إلى التحولات المتسارعة التي تولّدها الصراعات المتفاقمة في أكثر من إقليم.