منبوذون ثقافياً.. كيف تحوّلت أداة إسرائيل الناعمة إلى سلاح ضدها؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/08/20 الساعة 14:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/08/20 الساعة 14:10 بتوقيت غرينتش
مظاهرة طلابية في جامعة سيانس بباريس احتجاجاً ضد الحرب على غزة أرشيفية /رويترز

منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي حربه الوحشية على غزة، سارع الحلفاء الغربيون إلى دعمه سياسياً وعسكرياً. لم يقتصر الدعم على الحكومات، بل تجاوزه إلى قمع الأصوات المؤيدة لفلسطين داخل هذه الدول: حُظرت التظاهرات، وأُلغيت دعوات الفنانين والكتّاب المؤيدين للقضية، وجرى تجريم ارتداء الكوفية الفلسطينية أو حتى ترديد عبارة "فلسطين حرة من النهر إلى البحر".

ومع تصاعد المجازر في غزة، حيث تجاوز عدد الشهداء 60 ألفاً خلال عامين، بدأت ملامح التغيير تظهر، لا بسبب "يقظة ضمير" لدى السياسيين الغربيين، بل نتيجة الغضب الشعبي المتزايد من التوحش الإسرائيلي. فآلة القتل لا تهدأ، وتجويع المدنيين بات سلاحاً آخر تشهره إسرائيل بدعم واضح من حلفائها.

ورغم محاولات بعض الحكومات الغربية التظاهر بممارسة الضغط على إسرائيل، في مسعى واضح لاحتواء الغضب الشعبي داخل بلدانها، كانت الشعوب أكثر وضوحاً وجرأة في التعبير عن موقفها. تجلّى ذلك في مهرجان غلاستونبري الموسيقي في إنجلترا، أكبر مهرجان غنائي في بريطانيا وثاني أكبر مهرجان في أوروبا، والذي استقطب هذا العام أكثر من 300 ألف مشارك. هناك، صعد مغني الراب البريطاني "بوبي فيلان" إلى المسرح وهتف مع الجمهور: "فلسطين حرة"، قبل أن يطلق صيحة مدوية: "الموت، الموت لجيش الدفاع الإسرائيلي"، ورددها معه الآلاف: "الموت للآي دي إف".

هذا الموقف ليس معزولاً، بل يعكس اتجاهاً عالمياً متزايداً نحو مقاطعة إسرائيل ثقافياً. فالكثير من الفعاليات، والمنصات الإعلامية، وحتى شركات الإنتاج، باتت تبتعد عن استضافة محتوى إسرائيلي، ليس بالضرورة بدافع التضامن أو الموقف السياسي، بل تجنباً للاحتجاجات الجماهيرية وخوفاً من خسارة ثقة الجمهور.

ورغم أن إسرائيل لم تصل بعد إلى مستوى العزلة الذي واجهه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، فإن ما لا يمكن إنكاره هو فقدانها للمكانة التي طالما حاولت أن تروّج لها عبر بوابة الثقافة والفن. هذه المكانة سقطت، وربما إلى الأبد.

المقاطعة الأدبية

لسنوات طويلة، تمتعت إسرائيل بمكانة استثنائية في المشهد الثقافي العالمي. كُتّابها تُرجمت أعمالهم إلى عشرات اللغات، ومؤسساتها حصدت الجوائز، وجوائزها نفسها صارت محط أنظار كبار الكتّاب العالميين. جائزة القدس الأدبية، على سبيل المثال، قُدمت لبرتراند راسل، بورخيس، أكتافيو باث، وهاروكي موراكامي. أما يوفال نوح هراري، فأصبح واحداً من أكثر كتّاب العالم مبيعاً وتأثيراً في القرن الحادي والعشرين.

إسرائيل لم تخفِ يوماً احتلالها، لكنها كانت تعرف كيف تعيد تسويقه: عبر رواية "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، وعبر المثقف "المعارض من الداخل"، وعبر مؤسسات ثقافية تقدّم صورة إنسانية، بينما تغرس أظافرها في لحم الفلسطينيين. الثقافة لم تكن يوماً على هامش المشروع الصهيوني، بل جزءاً مركزياً منه، تجمّل القبح وتمنح القاتل لغةً ناعمة يتحدث بها إلى العالم.

لكن كل هذا بدأ يتهاوى. المجازر المنقولة بالبث المباشر من غزة دمّرت الغلاف الثقافي الذي طالما احتمت به إسرائيل. هذه المرة، لم تنفع البلاغة ولا التسويق، وبدأت إسرائيل تشهد ما يمكن وصفه بأكبر حركة مقاطعة ثقافية في تاريخها.

ففي شهر أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي 2024، أكثر من 6000 كاتب وكاتبة — بينهم حاصلون على جوائز نوبل وبوكر وبوليتزر — وقّعوا على بيان صدر، دعوا فيه إلى مقاطعة صناعة النشر الإسرائيلية. البيان وصف ما يجري بأنه "أعمق أزمة أخلاقية وسياسية وثقافية يشهدها القرن الحادي والعشرين".

وفي تقرير لمحطة N12 الإسرائيلية، نقلت دار نشر كبيرة في تل أبيب قولها: "إنها مسألة شديدة الحساسية. حجم المقاطعة بات هائلاً. هناك كتّاب باتوا يفضلون الابتعاد عن النشر بالعبرية لأنها لم تعد مجدية تجارياً، رغم أنهم لا يصرّحون بذلك علناً. نحن نفتقد الأصوات الجديدة والجريئة، وفي المقابل، لا أحد يرغب في ترجمة الكتّاب العبريين أو التعاون معهم. لم يتخيل أحد أن تصل الأمور إلى هذه النقطة بعد عامين فقط".

المقاطعة لم تتوقف عند دور النشر أو الترجمة. ففي الولايات المتحدة، وجّه عشرات الكتّاب العالميين رسالة مفتوحة إلى مهرجان بورتلاند للكتاب (يوليو/تموز 2025)، طالبوا فيها بوقف الرعاية المالية من بنوك مثل Wells Fargo وBank of America، بحجة أنها تستثمر في الصناعات العسكرية الأميركية التي تزوّد إسرائيل بالقنابل والصواريخ والطائرات المقاتلة المستخدمة في غزة. الرسالة، التي وقّعها كتّاب بارزون مثل نعومي كلاين، جو ساكو، فييت ثانه نغوين، وروبرت ماكفارلين، اعتبرت أن استمرار التعاون مع هذه البنوك يتعارض مع القيم التي يمثلها الأدب، داعيةً إلى فصل الفعل الثقافي عن تمويل الحرب.

في 5 يونيو/حزيران 2025، ذكرت صحيفة The Guardian أن الكاتبة المسرحية البريطانية البارزة كاريل تشرشل، إحدى أهم الأصوات المسرحية المعاصرة، قررت سحب مسرحيتها من دونمار ويرهوس بعد أن تبيّن لها – بحسب شبكة فنانون من أجل فلسطين في المملكة المتحدة (APUK) – أن المسرح يتلقى دعماً من بنك باركليز، المتهم بتمويل تسع شركات سلاح تزوّد إسرائيل بأسلحة تُستخدم في العدوان على الفلسطينيين. ووفق الشبكة، يستثمر باركليز أكثر من 2 مليار جنيه إسترليني ويمنح قروضاً وضمانات بقيمة 6.1 مليار جنيه لهذه الشركات.

وقد لاقى قرارها دعماً واسعاً؛ إذ وقّع أكثر من 300 مسرحي على رسالة مفتوحة دعوا فيها إدارة دونمار ويرهوس إلى قطع علاقاتها مع باركليز، معتبرين أن استمرار هذه الشراكة يتناقض مع القيم الإنسانية التي تزعم المؤسسة الثقافية الدفاع عنها.

المقاطعة الأكاديمية

المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل لم تولد من رحم حرب الإبادة وحدها، لكنها منذ السابع من أكتوبر أخذت منحى غير مسبوق، تحوّلت فيه من نقاش نخبة أكاديمية إلى موجة ضغط مؤسسي عالمي.

إذ كشف تقرير صادر عن لجنة رؤساء الجامعات الإسرائيلية أن المؤسسات الأكاديمية في إسرائيل سجلت أكثر من 750 حالة مقاطعة مثبتة منذ بدء الحرب على غزة، مقابل نحو 500 حالة خلال النصف الأخير من عام 2024 وحتى فبراير/شباط 2025، بحسب صحيفة هآرتس الإسرائيلية.

تتنوع أشكال المقاطعة الأكاديمية العالمية، خصوصاً في الجامعات الأوروبية والأميركية، بين رفض نشر أبحاث في الدوريات العلمية، وإلغاء منح بعد إقرارها، وصولاً إلى قطع كامل للعلاقات بين مؤسسات أكاديمية وباحثين إسرائيليين. كما ظهرت ما يُعرف بـ"المقاطعة الرمادية"، حيث يمتنع أكاديميون أوروبيون عن الرد على المراسلات من نظرائهم الإسرائيليين، أو تجديد عقود التعاون عند انتهائها مع مؤسسات أكاديمية إسرائيلية.

وقد أشار الأكاديمي الإسرائيلي شاي فاربر في مقال له، إلى أن أحد أبرز التحديات التي واجهت الباحثين الإسرائيليين بعد اندلاع الحرب كان "المقاطعة غير المعلنة" لأعمالهم من قبل زملاء ومؤسسات دولية، حيث تجلّت في رفض أوراق بحثية، واستبعاد من مؤتمرات، وإنهاء مشاريع تعاونية. وقد برز هذا النوع من المقاطعة بشكل خاص في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية.

طلاب يهود
أثناء الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين داخل جامعة كولومبيا/رويترز

أكد عمانوئيل نحشون، مدير مقر مكافحة المقاطعة الأكاديمية في لجنة رؤساء الجامعات الإسرائيلية، أن "جميع الجامعات البلجيكية تقريباً" قاطعت إسرائيل، إلى جانب 80% من المؤسسات الأكاديمية في هولندا، فيما أعلنت مؤسسات عدة في إسبانيا والنرويج وإيرلندا وسويسرا وإيطاليا خطوات مشابهة، من بينها:

  • جامعة غِنت (بلجيكا) أنهت في مايو/أيار 2024 جميع شراكاتها مع المؤسسات الإسرائيلية، مؤكدة أنها لم تعد متوافقة مع سياساتها في مجال حقوق الإنسان.
  • ترينتي كوليدج (إيرلندا)، وبعد اعتصامات طلابية، أعلنت في مايو/أيار 2024 سحب استثماراتها من الشركات الإسرائيلية، ثم أوصت لجنة داخلية في يونيو/حزيران 2025 بالتصريف الكامل.
  • جامعة جنيف (سويسرا) أنهت تعاونها البحثي مع الجامعة العبرية وتل أبيب، مؤكدة أنها لن تجدد الاتفاقية الموقعة حتى عام 2026، احتجاجاً على استمرار الحرب على غزة.
  • إراسموس روتردام (هولندا) جمّدت تعاونها مع جامعتي بار إيلان والعبرية في القدس، إضافة إلى جامعة حيفا.
  • إسبانيا (CRUE): اتحاد يضم 76 جامعة دعا في مايو/أيار 2024 إلى تعليق التعاون مع المؤسسات الإسرائيلية وتعزيز الشراكات مع الجامعات الفلسطينية، وتبعت ذلك جامعتا برشلونة وغرناطة.
  • جامعة كاتالونيا المستقلة (UAB) علّقت برامج التبادل والأبحاث المشتركة مع شركاء إسرائيليين منذ مايو/أيار 2024.

تؤكد تقارير اقتصادية إسرائيلية ودولية أن المقاطعة الأكاديمية باتت تُلحق خسائر مالية جسيمة بإسرائيل، فبين عامي 2021 و2024 حصلت الجامعات الإسرائيلية على نحو 1.1 مليار يورو من برنامج "هورايزون" الأوروبي، لكن هذه المنح انخفضت بنسبة 68.5% في عام 2025 نتيجة تصاعد حركات التضامن مع فلسطين.

وصف تقرير لموقع كالكاليست الاقتصادي الإسرائيلي (25 مايو/أيار 2025) المقاطعة الأكاديمية بأنها "خط أنابيب الأكسجين"، مؤكداً أن إزالته قد تؤدي إلى "انهيار الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية".

وأوضح التقرير أن الجامعات الإسرائيلية كانت تحصل من برنامج "هورايزون" الأوروبي على تمويل يفوق ما تناله دول كبرى مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا، رغم استثمار تل أبيب نحو 1.3 مليار شيكل سنوياً في هذه الشراكة، ما يجعل الخسائر الناجمة عن تراجع المنح الأوروبية أكثر خطورة واتساعاً.

بينما تشير تقارير دولية إلى أن حجم الخسائر التي تُلحقها المقاطعة الأكاديمية بإسرائيل يصعب تقديره بدقة، لكنه مؤكد وواسع الأثر، خصوصاً في البحث والتطوير.

ويُذكر أن تقريراً لحركة حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) أكد مشاركة الجامعات الإسرائيلية في تطوير الأسلحة ومنح غطاء أكاديمي للاحتلال الإسرائيلي، مثل دور جامعة "تخنيون" في تقنيات الطائرات المسيّرة والجرافات لهدم منازل الفلسطينيين.

المقاطعة الموسيقية: حين يرفض العالم إيقاع الإبادة

لم تعد المقاطعة الثقافية لإسرائيل تقتصر على معارض الكتب أو المؤسسات الأكاديمية. فالمجال الموسيقي، الذي طالما مثّل مساحة مفتوحة للتبادل العابر للحدود، بدأ هو الآخر يشهد تراجعاً ملحوظاً لحضور الفنانين الإسرائيليين في المهرجانات والفعاليات العالمية.

من أبرز الأمثلة ما حدث مع دي جي سكازي (Asher Swissa)، وهو واحد من أشهر منتجي موسيقى سايترانس في العالم، ومن الأسماء البارزة في مهرجانات الموسيقى الإلكترونية الدولية، خصوصاً تومورولاند البلجيكي الذي يُعد الأكبر في هذا المجال. كان من المفترض أن يشارك سكازي في نسخته الأخيرة للمرة الرابعة عشرة، لكن الضغوط الشعبية وحملات المقاطعة حالت دون ظهوره.

سكازي نفسه يقول إن "الحركات المؤيدة للفلسطينيين" قلبت مساره الفني رأساً على عقب، وإن مسيرة امتدت خمسة وعشرين عاماً باتت مهددة بالانهيار. وهو اعتراف يكشف حجم تأثير المقاطعة الموسيقية على بعض رموز إسرائيل الثقافية الذين طالما اعتبروا أنفسهم خارج أي مساءلة سياسية.

الأمر لم يقف عنده. فالمغنية نوغا إيريز، التي تحاول الحفاظ على حضورها الأوروبي، تواجه سلسلة متصاعدة من إلغاء حفلاتها، وهي نفسها أقرت بأن السبب الوحيد هو كونها "إسرائيلية". لكن خلف هذه المظلومية تكمن حقيقة أكبر: أن المجتمعات حول العالم لم تعد مستعدة لفصل الفن عن التواطؤ مع حرب إبادة تُبثّ تفاصيلها يومياً من غزة.

شهدت الأشهر الماضية إلغاء عروض موسيقية في بريطانيا كان من المقرر أن يحييها الثنائي الإسرائيلي دودو تاسا والبريطاني جوني غرينوود من فرقة راديوهيد، بعد ضغوط من حركة المقاطعة (BDS) التي وصفت المشروع بأنه "غسل فني للإبادة".

وإذا كان إلغاء حفلات لفنانين إسرائيليين في السابق يُعد خطوة استثنائية، فإنه اليوم يُقدَّم كخيار أخلاقي مشروع، بل ومصدر فخر للمؤسسات والمهرجانات الثقافية التي تسعى لإبراز التزامها بالقيم الإنسانية ورفضها للتواطؤ مع الاحتلال.

ورغم اعتراض غرينوود، فإن علاقته بإسرائيل تبقى قوية؛ إذ إن زوجته إسرائيلية، وابن شقيقها قُتل أثناء خدمته في جيش الاحتلال الإسرائيلي عام 2024، كما أن فرقة راديوهيد نفسها ارتبطت تاريخياً بإسرائيل منذ نجاح أغنيتها الأولى هناك واستمرارها في إحياء حفلات رغم دعوات المقاطعة.

وفي تقرير لمحطة N12 الإسرائيلية، أقرّت وسائل الإعلام العبرية بأن العزلة الثقافية المتصاعدة باتت تربك الحياة الفنية الإسرائيلية وتفرض نفسها على أنشطة موسيقيين ومغنين في الخارج.

وقد انعكست آثار العزلة الثقافية العالمية على مسيرة فنانين إسرائيليين كانت مسيرتهم توصف بأنها مستقرة في المشهد الموسيقي. فقد اضطرت المغنية لينيت، المقيمة في تركيا منذ سنوات، إلى إلغاء حفلها في أنقرة في مايو/أيار الماضي تحت ضغط الحراك الشعبي المؤيد لفلسطين. وظهرت في مقطع مصوّر تبكي من شدة الإحباط، وقد أدت الضغوط ذاتها لاحقاً إلى إلغاء سلسلة حفلات للمغنية الإسرائيلية ياسمين ليفي.

لا تقتصر المقاطعة الفنية على تصدير الفنانين الإسرائيليين إلى الخارج، بل تمتد أيضاً إلى استيراد العروض والفعاليات إلى داخل إسرائيل، حيث بات كثير من الفنانين العالميين والمؤسسات الثقافية يرفضون المشاركة في أي نشاط يُقام على الأراضي المحتلة.

فالموقع الرسمي لشوكي فايس، الذي كان نافذة إسرائيل لجلب نجوم عالميين مثل مادونا وإلتون جون، يكتفي اليوم برسالة صامتة: "لا توجد عروض مخطط لها في المستقبل".

وهذا الركود يعكس مأزقاً أعمق عبّر عنه أورين أرنان، الرئيس التنفيذي لشركة فايس، الذي أكد أن لا أمل لأي عرض دولي في إسرائيل ما دامت الحرب مستمرة، وأن حتى العلاقات القديمة مع المديرين والفنانين لم تعد تكفي لفتح باب جديد.

وفي سابقة لافتة، أعلن 182 عضواً من فرقة الباليه والأوبرا الملكية البريطانية رفضهم تقديم أي عروض في إسرائيل، ما دفع الإدارة إلى إلغاء إنتاج أوبرا "توسكا" المقرّر عرضه في تل أبيب عام 2026.

وجاء القرار بعد رسالة مفتوحة من راقصين ومغنين وموسيقيين وفرق فنية وإدارية، ندّدوا فيها بصمت الإدارة تجاه الإبادة في غزة، التي أودت بحياة أكثر من 62 ألف فلسطيني. وقد رحّبت منظمة "فنانون من أجل فلسطين" بالخطوة واعتبرتها نصراً للتنظيم الشعبي ومؤشراً على تصاعد الالتزام الأخلاقي والثقافي بمقاطعة إسرائيل وعزلها دولياً.

السينما والدراما

بالرغم من عدم وجود "مقاطعة رسمية معلنة"، إلا أن تقارير إعلامية وصناعاً يشيرون إلى أن تسويق المحتوى الإسرائيلي بات يواجه صعوبات حقيقية في الخارج، خصوصاً مع تصاعد الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين. إذ ذكروا أن المهرجانات تخشى الضغوط، وهيئات البث قلقة من الانتقادات العامة، ما جعل بيع بعض الأعمال الإسرائيلية شبه مستحيل.

إذ أفاد تقرير عبري أن صناعة السينما والتلفزيون في إسرائيل تعاني عزلة متزايدة، حيث لم تعد المشكلة مجرد "مقاطعة معلنة"، بل صعوبات فعلية في تسويق المحتوى الإسرائيلي حول العالم.

ورغم أن بعض المسلسلات والأفلام ما زالت تُعرض في مهرجانات كبرى أو تُباع لشركات مثل نتفليكس، فإنها غالباً ما تُعطّل بالعراقيل والاحتجاجات. في التقرير، يعترف صنّاع أفلام إسرائيليون بأن العالم ينظر إليهم الآن من خلال عدسة الإبادة في غزة، وأن أي تعاون معهم يُعد تصريحاً سياسياً.

هذا الوعي أدى إلى تباطؤ ملحوظ في الإنتاج المشترك وتراجع في قدرة إسرائيل على تسويق سرديتها ثقافياً. وبحسب شهادات من داخل الصناعة، فإن المشكلة لم تعد "سوء فهم"، بل نتيجة مباشرة لسياسات إسرائيل الاستعمارية وأفعالها.

لطالما قدّمت إسرائيل الثقافة والفنون كواجهة ناعمة لتبييض سياساتها والتغطية على واقعها الاستعماري، إلا أن حرب الإبادة المستمرة في غزة كشفت حدود هذه الاستراتيجية. فالمؤسسات الثقافية العالمية لم تعد قادرة على تجاهل التواطؤ المباشر بين الجامعات، والمسارح، وشركات الإنتاج الإسرائيلية وبين آلة الحرب، الأمر الذي دفع إلى انسحابات متتالية، ورفض متصاعد للتعاون الفني معها.

تحميل المزيد