الاستبداد يتصاعد في تونس والغضب كذلك.. هل عادت البلاد إلى سيرتها الأولى ما قبل ثورة 2011؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/05/04 الساعة 11:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/05/04 الساعة 11:21 بتوقيت غرينتش
تظاهرات تندد باعتقال العشرات من المعارضين والحقوقيين التونسيين في عهد قيس سعيد - ٢٠٢٣ - رويترز

تتحول تونس إلى دولة "بوليسية" مجدداً٬ ولم يحدث هذا بين ليلة وضحاها، بل هو عملية مستمرة منذ سنوات٬ لكنه لا يزال يمثل تراجعاً صادماً في التدهور الديمقراطي٬ في بلد أطاحت بدكتاتورها السابق زين العابدين بن علي في غضون أيام قليلة عام 2011 وكانت هذه أول عاصمة من عواصم الربيع العربي تخلع نظامها المستبد. ولكن من حيث فر الطاغية زين العابدين بن علي، قصر قرطاج٬ يبدو أن خليفته الأخير قيس سعيد، قرر أن يحذو حذوه وبشكل أكثر قمعاً وعنفاً مع جميع الأصوات التي تعارضه في البلاد. 

عادت تونس إلى سابق عهدها مع قيس سعيد٬ لا حياة سياسية٬ الأحزاب تحت النار٬ المعارضون في السجون أو المنافي٬ تدهورت الحريات وحقوق الإنسان بشكل غير مسبوق وأصبح المعارضون يحاكمون بشكل صوري ليحصلوا على أحكام بعشرات السنوات من السجن٬ وحتى الاحتجاجات أصبحت محظورة رسمياً وتحتاج إلى "موافقة رئاسية" في البلاد التي أنهكتها الأزمات الاقتصادية والفقر والبطالة، وينخرها الفساد بشكل غير مسبوق.

الاستبداد يتصاعد في تونس والغضب كذلك

  • خلال شهر أبريل/نيسان 2025، شهدت تونس عدة أيام من الاحتجاجات التي تم قمعها بوحشية ومحاكمة صورية لأكثر من 40 شخصية من المعارضة سبقهم المئات من المعتقلين خلال الأشهر والسنوات الماضية، مما أعاد المواطنين إلى الأيام المظلمة التي سبقت الثورة. 
  • واندلعت احتجاجات في مدينة مزونة، وسط تونس، في 14 أبريل/نيسان، بعد مقتل ثلاثة طلاب إثر انهيار جدار مدرسي عليهم. وتقع مزونة في منطقة سيدي بوزيد، مهد ثورة 2011 التي أطاحت بدكتاتورية زين العابدين بن علي وأشعلت شرارة الربيع العربي . واستمرت الاحتجاجات طوال الأسبوع. حيث أغلقت المتاجر والمدارس في المنطقة، بينما أحرق المتظاهرون الإطارات وهتفوا بغضب ضد قيس سعيد وإهمال الحكومة. وبدلاً من التواصل مع السكان أو عائلات الضحايا، أرسلت السلطات مئات المركبات الأمنية لقمع التونسيين الغاضبين.
  • استخدمت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع لتفريق التجمعات، بما في ذلك المعزين الذين كانوا يؤدون واجب العزاء في مقتل الأطفال الثلاثة. أُصيب العديد من المواطنين، ونُقل عدد منهم إلى المستشفيات القريبة. قُطعت الكهرباء، وفُرضت قيود على الاتصالات والإنترنت، وتعرض الصحفيون للاعتداء ومُنعوا من تغطية الأحداث بشكل صارم وعنيف.
  • مرّت أيام دون أي اعتراف رسمي بالمأساة أو الاستماع إلى تصاعد الغضب الشعبي. وعندما ألقى الرئيس قيس سعيد أخيراً خطاباً متلفزاً، لم يُبدِ أي تعاطف، بل عبّر فقط عن دهشته من "صمود الجدار أمام الهزات الأرضية" سابقاً"، بينما "شاء القدر أن ينهار في هذا الوقت على الأطفال"!.
  • تواصلت الاحتجاجات في منطقة مزونة وفي العاصمة تونس، حيث تم منع المتظاهرين من الوصول إلى وزارة الداخلية. وبعد أيام من إلقاء اللوم على "المُحرضين" و"الخونة" والقدر، زار سعيد المدينة المنكوبة في الرابعة فجراً، في حضور عدد قليل من السكان. ولحسن الحظ، ظهر عدد قليل من الأفراد المختارين بعناية لشكره والإشادة به. كما ألقى باللوم مرة أخرى على "الخونة" في فشل الخدمات العامة في المدينة، وزعم أنه تم إرسال "مثيري الشغب" لاستفزاز قوات الأمن٬ على حد تعبيره.

4 سنوات من السلطوية والقمع ونظام الفرد الواحد

  • جاء الغضب الشعبي والاحتجاجات الواسعة بعد قرابة أربع سنوات من القمع وانعدام المحاسبة في عهد سعيد، الذي بات يُسيطر على كل السلطات بعدما حل البرلمان وسحق الأحزاب. ويُدرك المتظاهرون أن أي وزير أو والي أو نائب لا يملك سلطة حقيقية في ظل نظام الفرد الذي أعاد سعيد بناءه٬ كما تقول الباحثة والأكاديمية يسرى الغنوشي في مقال بوقع MEE البريطاني.
  • ويعين سعيد ويقيل رؤساء الوزراء والوزراء حسب رغبته، كما قمع الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والنقابات العمالية بشدة. منذ استيلائه على السلطة في انقلاب في يوليو/تموز 2021، ألقى سعيد باللوم على الجميع ما عدا نفسه في انحدار البلاد إلى "العقد المظلم" من الديمقراطية، ورجال الأعمال الفاسدين، والسياسيين المعارضين، والعملاء الأجانب، ومجموعة واسعة من كبش الفداء.
  • لكن هذا التكتيك بدأ يفقد فعاليته٬ حيث تقول يسرى الغنوشي٬ قد يُجبر سعيد الآن على مواجهة شعبٍ كان يوماً ما يصدق وعوده الشعبوية. ورغم تفكيكه جميع الضمانات الديمقراطية، وإخضاعه القضاء لإرادته، وسجنه منتقديه، فإن "الجنة" التي وعد الشعب بها لم تتحقق قط. ولكن دكتاتوريته لم تؤد إلا إلى تفاقم مشاكل البلاد، حيث وصلت معدلات التضخم والفقر إلى مستويات غير مسبوقة. ولكن رد سعيد على هذا الإدراك المتزايد كان مضاعفة روايته الشعبوية المتمثلة في إلقاء اللوم على الخونة والمتآمرين، مع الاعتماد بشكل أكبر على قوات الأمن والقطاعات الخاضعة للقضاء لقمع أي انتقاد أو تحد لحكمه السلطوي.
المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان
الرئيس التونسي قيس سعيّد/ رويترز
  • وتقول صحيفة "الغارديان" البريطانية٬ إن تونس التي كانت مهد الربيع العربي٬ وظلت منارةً ديمقراطيةً واعدةً حتى 2021 في وقتٍ سقطت فيه دولٌ أخرى سريعاً في الفوضى أو الاستبداد٬ أصبحت اليوم تسير في مسار عكسي٬ نفّذ الرئيس قيس سعيد٬ الذي فكك المؤسسات، وانتزع الحريات المدنية التي اكتسبها مواطنوه بشق الأنفس.
  • بعد إعادة انتخابه العام الماضي – في انتخاباتٍ أُقصيت منها كلُّ معارضةٍ مؤثرة، وبمشاركةٍ منخفضةٍ تاريخيًا – ضاعف قيس جهوده القمعية٬ وقد شعر المجتمع المدني، وقطاع الأعمال، والقضاء، ووسائل الإعلام، بالإضافة إلى المعارضين السياسيين، بالألم، لكن الأمر لم يتوقف عندهم. ففي العام الماضي، أُلقي القبض على مسؤولين من الاتحاد التونسي للسباحة بتهمة التآمر على أمن الدولة لعدم رفعهم العلم الوطني في إحدى المسابقات.
  • وحذرت هيومن رايتس ووتش في تقرير جديد الأسبوع الماضي من أن الاحتجاز التعسفي أصبح حجر الزاوية في قمع النظام التونسي، وأن العديد من المعتقلين يواجهون عقوبة الإعدام في قضايا تتعلق بتصريحاتهم العامة أو أنشطتهم السياسية. 

محاكمات صورية وعدالة غائبة

  • تقول منظمة العفو الدولية٬ إن الأحكام الأحكام الصورية التي صدرت الأسبوع الماضي في تونس ضد أربعين شخصاً بينهم معارضون ومحامون ومدافعون عن حقوق الإنسان، بأحكام سجن قاسية تتراوح بين 13 و66 عاماً بعد إدانتهم بتهم ملفقة من قبل محكمة تونس الابتدائية، يشكل علامة خطيرة ومثيرة للقلق على المدى الذي ستذهب إليه السلطات في قمع المعارضة في البلاد. 
  • وتقول المنظمة "إن الحكم يمثل مهزلة للعدالة ويوضح تجاهل السلطات التام لالتزامات تونس الدولية في مجال حقوق الإنسان وسيادة القانون". حيث أُدين هؤلاء الأفراد لمجرد ممارستهم السلمية لحقوقهم الإنسانية٬ وشابت محاكمتهم انتهاكات إجرائية وتجاهل صارخ لأدنى حقوق الدفاع، واستندت إلى تهم لا أساس لها من الصحة.    
  • وأضافت العفو الدولية أنه "بدلاً من إسكات المنتقدين بملاحقات قضائية ذات دوافع سياسية، ينبغي على السلطات الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع المعتقلين لمجرد ممارستهم السلمية لحقوقهم الإنسانية. وينبغي على السلطات التونسية إلغاء الإدانات والأحكام الجائرة فوراً٬ ولا ينبغي معاقبة أي شخص بسبب ممارسته السلمية لحقوقه الإنسانية". 
  • وتقول "هيومن راتيس ووتش" و"العفو الدولية" العديد من منظمات حقوق الإنسان حول العالم إن تدهور القضاء في تونس تدهور بشكل غير مسبوق٬ كما أن إساءة استخدام السلطات التنفيذية المتزايدة لنظام العدالة والتدخل في إدارة العدالة أصبح يقوض بشكل أساسي حقوق المحاكمة العادلة للمتهمين وسيادة القانون.
  • تقول الباحث يسرى الغنوشي٬ إن الأحكام الأخيرة صدرت على أكثر من 40 متهماً، بعضهم قضاها عامين أو أكثر رهن الاحتجاز السابق للمحاكمة٬ وأضافت: "أما أختي، وهي أكاديمية لم يسبق لها النشاط السياسي ولم تكن على اتصال بالمتهمين الآخرين، فقد أُضيفت إلى القائمة وحُكم عليها بالسجن 33 عاماً".. "وكانت الأدلة الوحيدة التي قدمتها النيابة العامة بتهمة "التآمر على أمن الدولة" تتمثل في رسائل واتساب واجتماعات مع صحفيين ودبلوماسيين أجانب".
  • ومع عدم وجود محاكمة في الأفق بعد سنوات من الاحتجاز، بدأ بعض المتهمين إضراباً عن الطعام، بما في ذلك جوهر بن مبارك، العضو البارز في جبهة الإنقاذ الوطني، والنائب عن حركة النهضة سعيد فرجاني. وصدرت الأحكام بعد أقل من دقيقة من بدء الجلسة، وتراوحت بين أربع سنوات وستة وستين عامًا. مُنع المتهمون من حضور محاكمتهم، بينما مُنع الصحفيون والمراقبون وأفراد عائلاتهم من دخول قاعة المحكمة.
  • ندد محامو الدفاع بالظروف غير المعقولة والانتهاكات الصارخة للإجراءات القانونية. ولإضفاء لمسة على الحبكة، أُدرج الفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي ضمن المتهمين، وحُكم عليه بالسجن 33 عاماً بالسجن. وكان الحكم الأخف – أربع سنوات – قد صدر على رجل قام فقط بركن سيارته أمام منزل شخصية المعارضة خيام تركي، وهو شخص لم يقابله قط.  حُكم على تركي، السياسي الديمقراطي الاجتماعي، بأقسى عقوبة: 66 عاماً. وكانت جريمته "تنظيم اجتماعات مع شخصيات معارضة أخرى لمناقشة سبل توحيد صفوفهم وإيجاد مخرج من الأزمة السياسية في تونس بعد انقلاب سعيد".
  • وبعد يومين من هذه الأحكام٬ ألقي القبض على أحمد صواب، القاضي السابق البارز وعضو فريق الدفاع، في منزله بسبب تصريحات أدلى بها في المحكمة. كما وُجهت اتهاماتٌ غامضةٌ لنحو 100 شخصيةٍ معارضةٍ وصحفيين وناشطين وموظفين حكوميين في عشرات القضايا الأخرى. ومن بينهم رئيس الوزراء السابق علي العريض، المحتجز احتياطياً منذ ديسمبر/كانون الأول 2022. 
  • ويواجه د. راشد الغنوشي، رئيس البرلمان السابق٬ اتهامات في أكثر من اثنتي عشرة قضية قانونية منفصلة. وفي سن الثالثة والثمانين، حُكم عليه بالسجن لما مجموعه 27 عاماً في محاكمات صورية رفض حضورها، مدركاً تماماً أن القرارات القضائية تُحدد مسبقًا بأوامر من قيس سعيد٬ كما تقول ابنته الكاتبة يسرى الغنوشي.

الظروف الاقتصادية هي الأسوأ.. والغرب سمح لتونس بالانزلاق نحو الديكتاتورية مجدداً

  • وتقول الغنوشي٬ يبدو أن سعيد لا يملك حلاً لمشكلة ديون البلاد المتفاقمة، وارتفاع معدلات البطالة، وتفشي التضخم. يُكافح العديد من التونسيين لتوفير الضروريات الأساسية، بينما تُواجه الحكومة نفسها نقصًا غير مسبوق في الغذاء، وانقطاعًا للكهرباء والمياه.
  • وفي ظل النظام الحالي، سجلت تونس أدنى معدل نمو اقتصادي لها منذ عقد من الزمان – باستثناء عام 2020 الذي شهد أول جائحة – وسط تضاؤل ​​التمويل الخارجي وارتفاع الاقتراض المحلي. وقد أدى الانهيار الاقتصادي والقمع السياسي إلى تعميق اليأس العام، مما أدى إلى تأجيج هجرة الأدمغة التي زادت بنسبة 28% في العام الماضي، حيث يغادر الآلاف من التونسيين بلادهم بحثاً عن الأمان والكرامة في أماكن أخرى.
  • وتقول صحيفة "الغارديان"٬ لقد صمت شركاء تونس الديمقراطيون الغربيون بشكل صارخ ومخزٍ مع تكشّف حملة القمع التي شنّها سعيد على شعبه٬ وعندما أعقبت هجماته المعادية للأجانب على المهاجرين غير الشرعيين من أفريقيا جنوب الصحراء قبل عامين أعمال عنف عرقي وعمليات إخلاء، حمل سعيد الغرب مسؤولية المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، ومع ذلك ظلت العلاقات ودية بين قادة أوروبا وقيس سعيد.
  • فبالنسبة للاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، كان استعداد سعيد للسيطرة على تدفقات المهاجرين بالقوة٬ أهم بكثير من قمعه للديمقراطية في بلاده. وفي وقت سابق من هذا الشهر، اقترحت المفوضية الأوروبية إدراج تونس على قائمة جديدة للاتحاد الأوروبي للدول "الأصلية الآمنة"، مما يسمح للدول الأعضاء بتسريع معالجة طلبات اللجوء من تلك الدول على أساس أنها من غير المرجح أن تنجح. وتُعدّ أحكام المحكمة الأسبوع الماضي تذكيرًا آخر بأسباب عدم وجوب ذلك٬ كما تقول الغارديان.
  • تضيف الصحيفة: "يؤكد جنون العظمة لدى سعيد حقيقة أنه ليس منيعاً.. لقد ساهم فشله في المصاعب الاقتصادية التي تعاني منها البلاد. وتشير التقارير إلى تزايد الانزعاج من حكمه في الأوساط العسكرية والحكومية. ومع ذلك، فإن التصريح العلني بالقمع ينطوي على مخاطرة هائلة.. لا ينبغي ترك التونسيين وحدهم للدفاع عما تبقى من حلمهم الديمقراطي".
تظاهرات تندد باعتقال العشرات من المعارضين والحقوقيين التونسيين في عهد قيس سعيد – رويترز
  • أما مجلة "spectator" البريطانية فتقول إن أوروبا مجتمعةً سمحت بحدوث كل ما يجري في تونس وعلى مرأى ومسمع الجميع، لأن قادتها يشعرون بالملل من العالم العربي. إنهم منشغلون بالاقتصاد٬ ثم بأوكرانيا، والعلاقة الصين وأمريكا وغيرها، ومتشبثون إلى حد كبير بالرأي الخاطئ القائل بأن الحكام المستبدين في جنوب البحر الأبيض المتوسط ​​ضروريون بطريقة ما لتحقيق غايات أوروبية. 
  • ويعتقد القادة الأوروبيون اعتقاداً راسخاً، خلافاً للعديد من الأدلة، أن الديكتاتوريين ضروريون لكبح الهجرة من أفريقيا والدول العربية. تقول المجلة البريطانية: "هذا هراء٬ الديكتاتوريون هم في الأساس زعماء عصابات؛ وإذا لم يتلقوا رشاوى من أوروبا، فسيتلقونها من المهربين، وستواصل القوارب رحلاتها المحفوفة بالمخاطر مهما حدث". 
  • وفي النهاية٬ "مع انزلاق تونس إلى أزمة اقتصادية وسياسية غير مسبوقة، انكشفت سخافة وقصر نظر الرؤية الغربية المؤيدة للديكتاتور قيس سعيد. وإذا استمرت تونس في السير على خطى سعيد، فسرعان ما سيطالب عدد أكبر من سكان البلاد بالرحيل. فأين سيؤول حال سياسات الهجرة الأوروبية تحديداً؟". 
تحميل المزيد