خريطة السيطرة المسلحة في اليمن: شرق البلاد يتحول إلى ساحة صراع إقليمي.. هذه تفاصيله

عربي بوست
تم النشر: 2025/12/30 الساعة 09:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/12/30 الساعة 09:46 بتوقيت غرينتش

تدخل الأزمة اليمنية مرحلة حساسة مع تحول حضرموت والمهرة إلى بؤرة صراع سياسي وعسكري مفتوح، مما يعكس عمق التصدعات بين القوى المناهضة للحوثيين. يضع إصرار "المجلس الانتقالي الجنوبي" على الإبقاء على قواته شرق البلاد، وتصعيده السياسي وصولاً إلى التلويح بالانفصال، مستقبل الترتيبات الداخلية أمام خطر التفكك والانقسام.

وتتزايد المواجهة السياسية مع الحكومة الشرعية التي ترى في تحركات "الانتقالي" تهديداً لسيادة الدولة، بينما يلوّح التحالف العربي بخيارات أكثر صرامة. وفي هذا السياق، تحاول المواقف الخليجية، خاصة السعودية، الموازنة بين احتواء الانفجار الداخلي والحفاظ على وحدة اليمن، في ظل تقاطع الحسابات الإقليمية مع تعقيدات الداخل، ما ينذر بمرحلة أكثر اضطراباً.

في هذا التقرير، نرصد تطورات الأزمة بالكامل في اليمن، ونشرح حجم كل طرف عسكري ودوره، وكذلك موقف الأطراف الدولية منه.

إلغاء اتفاق مشترك

في تصعيد غير مسبوق بمعسكر "الشرعية" في اليمن، ألغت السلطات اليمنية، الثلاثاء 30 ديسمبر 2025، اتفاقية الدفاع المشترك مع الإمارات، وطالبت بخروج جميع قواتها خلال 24 ساعة. عكس هذا القرار، الصادر عن رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، التوتر المتصاعد بسبب تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي في حضرموت والمهرة.

كما أمر القرار قوات "درع الوطن" بالتحرك الفوري لتسلم المعسكرات والمواقع العسكرية في حضرموت والمهرة. وتزامن القرار مع لهجة تصعيدية من العليمي، الذي أكد أن الدولة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام "أي تمرد" أو محاولات تقويض سلطتها، متهماً "الانتقالي الجنوبي" بالتصعيد العسكري المباشر، والاعتداء على القوات الحكومية والمدنيين، ورفض إنهاء التصعيد رغم الوساطة السعودية. لم يصدر تعليق إماراتي رسمي حتى لحظة صدور القرار.

يرى شوقي القاضي، أحد قيادات حزب الإصلاح، في تصريحات خاصة لـ"عربي بوست"، أن الأزمة في اليمن لم تعد أزمة سياسية أو عسكرية تقليدية، بل تحولت إلى أزمة مركبة شديدة التعقيد، تتداخل فيها العوامل الداخلية بالصراعات الإقليمية والحسابات الدولية.

ويشير القاضي إلى أن جذور هذا التعقيد تعود إلى ما بعد عام 2012، حين انعقد مؤتمر الحوار الوطني بمشاركة واسعة من مختلف القوى السياسية والعسكرية والاجتماعية في اليمن، وخرج بمخرجات وُصفت في حينها بأنها من أفضل ما يمكن أن يُطرح لإنقاذ البلاد وبناء دولة جامعة. غير أن هذه المخرجات، بحسب القاضي، لم تُمنح الفرصة للتنفيذ، إذ سرعان ما انقلبت عليها القوى نفسها التي شاركت في صياغتها، كلٌ وفق حساباته الضيقة، ما فتح الباب أمام مسار طويل من الصراع والانهيار المؤسسي.

عملية عسكرية في ميناء المكلا


أعلن التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، بقيادة السعودية، فجر الثلاثاء، تنفيذه "عملية عسكرية محدودة"، قصف خلالها شحنات أسلحة وعربات قتالية وصلت إلى ميناء المكلا بمحافظة حضرموت، الخاضعة لسيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي.

ونقلت "واس" عن متحدث التحالف، اللواء تركي المالكي، أن القصف تم بعد وصول سفينتين محمّلتين بالأسلحة والمعدات العسكرية إلى الميناء دون تصريح، مشيرًا إلى أن العملية جاءت بطلب من رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي لحماية المدنيين. وأوضح المالكي أن السفينتين، القادمتين من الفجيرة الإماراتية، عطّلتا أنظمة التتبع وأنزلتا الأسلحة لدعم قوات المجلس الانتقالي، ما اعتبره التحالف مخالفة لجهود التهدئة وتهديدًا للأمن والاستقرار. وأكد أن الاستهداف تم بما يتوافق مع القانون الدولي الإنساني، دون وقوع إصابات بشرية أو أضرار في البنية التحتية.

وكان التحالف قد قرر، السبت الماضي، التحرك عسكريًا ضد انتهاكات المجلس الانتقالي في حضرموت، استجابة لطلب المجلس الرئاسي، بعد سيطرة قوات الانتقالي المفاجئة على حضرموت والمهرة مطلع ديسمبر/كانون الأول. واعتبر المجلس الرئاسي والسعودية هذه التحركات "إجراءً أحاديًا" تم دون موافقة المجلس الرئاسي وتنسيق التحالف، وأضرّ بمصالح اليمن وجهود التحالف.

السعودية تتدخل


أعربت الخارجية السعودية عن أسفها للخطوات "البالغة الخطورة" التي قامت بها الإمارات، متهمة إياها بالضغط على قوات "الانتقالي الجنوبي" لشن عمليات على حدود المملكة في حضرموت والمهرة، معتبرةً ذلك تهديدًا مباشرًا لأمنها وأمن المنطقة. وأكدت الرياض أن هذه التحركات لا تخدم تحالف دعم الشرعية.

وشددت السعودية على أن أمنها الوطني "خط أحمر"، مجددة التزامها بوحدة اليمن ودعمها للحكومة الشرعية، وأكدت أن "القضية الجنوبية" عادلة، لكن حلها يكمن في الحوار الشامل.

كما طالبت السعودية الإمارات بالاستجابة لطلب الحكومة اليمنية بسحب قواتها من اليمن خلال 24 ساعة، ووقف أي دعم عسكري أو مالي لأي طرف، معربةً عن أملها في سيادة الحكمة للحفاظ على العلاقات الثنائية واستقرار المنطقة.

تنسيق وترتيب في الجنوب


في سياق التوتر المتصاعد، يحاول المجلس الانتقالي الجنوبي احتواء الموقف بالتأكيد على انفتاحه على تنسيق يحمي "أمن الجنوب" وتمسكه بـ"إرادة الشعب الجنوبي"، بينما تصرّ الحكومة اليمنية على وحدة البلاد وتتهم المجلس بالسعي للانفصال بالقوة.

وقد رفض رئيس الجمعية الوطنية للمجلس، علي الكثيري، الدعوات لسحب قوات المجلس من حضرموت والمهرة، مؤكدًا أن الجنوب "يقترب من إعلان الدولة"، وأن هذا الهدف بات "شبه مكتمل". وشدد الكثيري على أن "تطلعات شعب الجنوب" للانفصال لم تعد قابلة للتأجيل، مبررًا تبنّي المشروع بتهميش الحكومات اليمنية المتعاقبة للجنوب.

كما برر الكثيري الوجود العسكري في حضرموت والمهرة بـ"أهمية توحيد الصف ونبذ الخلافات" للحفاظ على "الانتصارات المحققة"، نافيًا اتهامات فرض الأمر الواقع بالقوة، ومؤكدًا أن أبناء حضرموت هم من طالبوا بدعم قوات المجلس لـ"تحرير وادي وصحراء حضرموت". وتسيطر قوات المجلس الانتقالي على حضرموت والمهرة منذ مطلع ديسمبر 2025، وهما تشكّلان نحو نصف مساحة اليمن، ولهما أهمية استراتيجية واقتصادية بالغة.

وأكد المسؤول الجنوبي حرصه على العلاقة مع دول التحالف العربي، خاصة السعودية والإمارات، لكنه رفض محاولات "كسر إرادة شعب الجنوب" من أطراف لم تتمكن من تحرير مناطقها، في إشارة إلى الحكومة الشرعية التي تحارب الحوثيين شمالًا.

وفيما يتعلق بالتصعيد الذي يقوده المجلس الانتقالي الجنوبي، يقلل شوقي القاضي، القيادي في حزب الإصلاح اليمني، في تصريحاته لـ"عربي بوست"، من فرص نجاح أي إعلان لدولة مستقلة في جنوب اليمن، مؤكدًا أن هذا السيناريو يصطدم بعقبات استراتيجية كبرى، في مقدمتها موقع وأهمية محافظة حضرموت.

ويشير القاضي إلى أن أي كيان جنوبي لا يمتلك سيطرة حقيقية ومستقرة على حضرموت سيظل كيانًا هشًا سياسيًا واقتصاديًا، وعاجزًا عن بناء مقومات دولة قابلة للحياة، خاصة أن حضرموت تمثل الثقل الجغرافي والاقتصادي في الجنوب، فضلًا عن كونها نقطة التماس الأكثر حساسية مع العمق الإقليمي، وفي مقدمته المملكة العربية السعودية.

ويضيف القاضي أن التعاطي السعودي مع حضرموت لا ينطلق من منطلقات تكتيكية مرتبطة بالأزمة الراهنة فقط، بل من رؤية أمن قومي بعيدة المدى، ترى في المحافظة خط الدفاع الأول عن الحدود الجنوبية الشرقية للمملكة، ومفتاحًا لمنع تمدد أي نفوذ معادٍ أو غير منسق مع الدولة اليمنية.

ووفق هذا المنظور، فإن الرياض لن تسمح، بحسب القاضي، بفرض واقع سياسي أو عسكري جديد في حضرموت خارج إطار الدولة اليمنية الموحدة، وهو ما يجعل طموحات المجلس الانتقالي بالانفصال تصطدم ليس فقط برفض داخلي يمني، بل أيضًا بتحفظات إقليمية ثقيلة الوزن، تقلل من فرص تحول هذه الطموحات إلى واقع فعلي على الأرض.

خريطة السيطرة المسلحة في اليمن


أفرزت الحرب اليمنية الممتدة منذ قرابة عقد واقعًا جغرافيًا شديد الاختلال، لم تعد فيه السيطرة على الأرض تعني بالضرورة السيطرة على السكان أو القرار السياسي. فاليمن اليوم مقسّم فعليًا بين قوى مسلحة متعددة، تتوزع سيطرتها بين الشمال والجنوب والشرق والساحل، بنِسَب متفاوتة تعكس تعقيدات الصراع أكثر مما تعكس حسمه.

وتُظهر خريطة النفوذ الحالية أن جماعة أنصار الله (الحوثيين) تسيطر على ما يقارب 35 في المئة من المساحة الجغرافية لليمن، إلا أن هذه النسبة المحدودة نسبيًا تشمل القلب السكاني للدولة اليمنية. فالجماعة تفرض نفوذها على العاصمة صنعاء، ومعظم محافظات الشمال الغربي والوسط، بما فيها صعدة وعمران وحجة وذمار وإب، وأجزاء واسعة من البيضاء والحديدة. هذا الانتشار يمنح الحوثيين أفضلية استراتيجية لا تُقاس بالمساحة، بل بعدد السكان والمؤسسات والبنية الإدارية، ما يجعلهم الطرف الأكثر رسوخًا من حيث الحكم الفعلي.

في المقابل، يمتلك المجلس الانتقالي الجنوبي أكبر حصة من الجغرافيا اليمنية، بنسبة تتراوح بين 50 و52 في المئة من إجمالي مساحة البلاد. وتعود هذه النسبة المرتفعة إلى سيطرته على محافظات جنوبية وشرقية شاسعة المساحة، مثل حضرموت والمهرة وشبوة، إضافة إلى عدن ولحج والضالع وأبين.

ورغم أن هذه المناطق أقل كثافة سكانية مقارنة بالشمال، فإنها تتمتع بأهمية استراتيجية كبرى، نظرًا لموقعها على بحر العرب، وحدودها البرية مع السعودية وسلطنة عُمان، واحتضانها لموانئ وموارد طبيعية. ومع تصاعد خطاب المجلس حول "إعلان الدولة"، بات هذا النفوذ الجغرافي يمثل أساس مشروع سياسي انفصالي مكتمل الأركان من حيث الأرض، وإن لم يكتمل بعد من حيث الاعتراف الدولي.

أما الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، فتبدو الخاسر الأكبر على مستوى الجغرافيا، إذ لا تتجاوز سيطرتها الفعلية ما بين 10 و12 في المئة من مساحة البلاد، موزعة على مناطق غير متصلة جغرافيًا في مأرب وتعز وأجزاء من شبوة ووادي حضرموت والمهرة. ويعكس هذا التشتت الجغرافي ضعف السلطة المركزية وتآكل قدرتها على فرض الأمن أو إدارة الموارد، فضلًا عن اعتمادها الكبير على التحالفات العسكرية المتغيرة، ما يجعل نفوذها هشًا وقابلًا للاختراق في أي لحظة.

ويبرز على هامش هذا المشهد طرف رابع يتمثل في قوات المقاومة الوطنية بقيادة طارق صالح، التي تسيطر على ما يقارب 3 إلى 5 في المئة من مساحة اليمن، متمثلة في شريط الساحل الغربي الممتد من المخا حتى أطراف الحديدة الجنوبية. ورغم محدودية المساحة، فإن هذه المنطقة تتمتع بأهمية استراتيجية استثنائية لارتباطها بخطوط الملاحة في البحر الأحمر. وتعمل هذه القوات ككيان شبه مستقل، لا يخضع فعليًا لا للحوثيين ولا للمجلس الانتقالي، ولا حتى لسلطة الحكومة المركزية بشكل كامل.

وفي الفراغات بين هذه القوى الكبرى، تنشط تنظيمات جهادية مثل القاعدة وتنظيم "الدولة الإسلامية"، إضافة إلى تشكيلات قبلية مسلحة، لا تسيطر على مساحات ثابتة، لكنها تستغل هشاشة الأمن وتعدد مراكز النفوذ لفرض حضورها في مناطق نائية أو متنازع عليها، خصوصًا في أبين والبيضاء وشبوة ومأرب. ويُضاف إلى ذلك بروز قوى قبلية ذات طابع سياسي، كما في حضرموت، حيث يطالب "حلف قبائل حضرموت" بحكم ذاتي، ما يعكس تفكك السيطرة حتى داخل المحافظة الواحدة.

المعسكر المناهض للحوثيين


وفق تقرير صادر عن مركز "ستراتفور"، تشهد الساحة اليمنية تطورات ميدانية وسياسية من شأنها تعميق الانقسام داخل المعسكر المناهض للحوثيين، على خلفية التقدم الذي يحققه المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات، خصوصًا في جنوب وشرق البلاد. ويرى التقرير أن هذه الديناميكيات تُضعف فرص تثبيت وقف إطلاق النار المتعثر، وتفتح الباب أمام موجة جديدة من العنف الداخلي، بما قد يمنح الحوثيين فرصة لاستئناف هجماتهم.

ويشير التقرير إلى أن رفض المجلس الانتقالي الجنوبي، في منتصف ديسمبر، الجهود السعودية الرامية إلى سحب قواته من حضرموت والمهرة مثّل تصعيدًا مباشرًا في الخلاف مع الرياض والحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا. وجاء هذا الموقف عقب سيطرة المجلس على مساحات واسعة من الجنوب، بما في ذلك عدن، في هجوم خاطف كشف عمق الانقسامات داخل الكتلة المناهضة للحوثيين، ليس فقط بين الفصائل اليمنية، بل أيضًا بين داعميها الإقليميين، السعودية والإمارات.

ويوضح التقرير أن الرياض ركزت على الحفاظ على وحدة اليمن، ودعم عملية سياسية انتقالية ووقف إطلاق النار مع الحوثيين، في حين تبنت أبوظبي، عبر دعمها للمجلس الانتقالي، نهجًا يقوم على اللامركزية أو الانفصال الجنوبي، وموقفًا أكثر تشددًا تجاه الحوثيين. وقد سمح التقدم العسكري الأخير للمجلس بتحويل مكاسبه الميدانية إلى نفوذ سياسي وإداري، ما أدى إلى تهميش القوى المتحالفة مع السعودية وزيادة التصدع داخل التحالف المناهض للحوثيين.

ويرى "ستراتفور" أن سيطرة المجلس الانتقالي على مناطق حساسة في حضرموت، بما في ذلك حقول نفط ومراكز حضرية ومواقع عسكرية، ستُقابل على الأرجح بمقاومة قبلية واشتباكات محلية، نظرًا لرفض قطاعات واسعة من السكان المحليين لنموذج حكم المجلس، واتهامه بالفساد وضعف تقديم الخدمات. كما أن هذه التطورات تُعقّد المفاوضات السياسية والأمنية، وتزيد من احتمالات وقوع مواجهات بين القوى المدعومة من الإمارات وتلك المدعومة من السعودية حول البنية التحتية الحيوية والمواقع الاستراتيجية.

ويؤكد التقرير أن استمرار الاقتتال الداخلي داخل المعسكر المناهض للحوثيين سيُبقي محادثات وقف إطلاق النار مجمّدة، ويقوض مسار السلام الأوسع، وأن الحوثيين باتوا في وضع أفضل لاستغلال هذه الانقسامات، مستفيدين من قدراتهم العسكرية المتنامية، والدعم الإيراني المستمر، وحملات التعبئة الواسعة التي عززوها خلال العامين الماضيين.

ويشير التقرير إلى أن المكاسب المدعومة من الإمارات ستعيد رسم موازين القوى في جنوب اليمن، لكنها لن تفضي، على المدى المنظور، إلى استقلال مستقر للجنوب، بسبب التشرذم الداخلي والمقاومة القبلية واستمرار هشاشة الوضع الأمني. وفي ظل هذه المعطيات، تبقى اليمن عرضة لموجة جديدة من عدم الاستقرار الإقليمي، مع تصاعد المخاطر الأمنية وتراجع فرص التسوية السياسية الشاملة.

جنوب اليمن كيان مستقل


في حين يرى تقرير آخر صادر عن مركز "ستراتفور" أن التقدم العسكري الذي يحققه المجلس الانتقالي الجنوبي بدعم إماراتي يُعيد طرح سيناريو عودة جنوب اليمن ككيان مستقل بعد ثلاثة عقود من الوحدة، إلا أن هذا المسار، رغم تزايد فرصه، لا يزال معقدًا وبعيد المنال. فالوصول إلى استقلال فعلي يتطلب من المجلس الانتقالي موازنة دقيقة بين تعقيدات الجغرافيا السياسية اليمنية، والانقسامات القبلية والإقليمية، وحسابات القوى الإقليمية والدولية، بما يجعل تحقيق مشروع "جنوب الجزيرة العربية" خلال العقد الحالي أمرًا غير مرجح.

يشير التقرير إلى أن البيئة الدولية الراهنة، التي تتسم بتراجع الالتزام بمبدأ وحدة الدول وانكفاء الاهتمام الأمريكي بالتحولات الداخلية في الشرق الأوسط، قد أوجدت تساهلًا مع إعادة رسم الحدود بالقوة. وقد يضطر هذا الواقع واشنطن إلى قبول سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي كأمر واقع. كما أن ضعف شرعية الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا واعتمادها المتزايد على دعم سعودي متردد يمثل فرصة سياسية للمجلس لتعزيز توجهه الانفصالي.

ويؤكد التقرير أن هذه الفرصة ليست مطلقة، فالمجلس لا يسيطر بعد على مناطق محورية كمأرب وتعز، اللتين تحميهما القوات الجوية السعودية، كما لا يمتلك الإمكانيات العسكرية الكافية لحسم المعركة فيهما بالقوة. لذلك، فإن أي تقدم نحو الانفصال يتطلب إحداث اختراقات سياسية ودبلوماسية، والقدرة على استقطاب القوى المحلية، وربما موافقة ضمنية من السعودية على التخلي عن دعم خصوم المجلس. ومع أن الرياض تسعى إلى إنهاء تدخلها المكلف، إلا أنها لا تزال تفضل حلًا اتحاديًا يحافظ على وحدة اليمن، مما يجعل تخليها عن الحكومة الحالية أمرًا غير محسوم.

ويحذر التقرير من أن التحديات الحقيقية ستبدأ حتى بعد تأمين الجنوب جغرافيًا، حيث سيواجه الكيان الجديد إرثًا ثقيلًا من الانقسامات القبلية والتنافسات المحلية. فبينما يُتوقع لعدن أن تستعيد دورها كعاصمة منفتحة، ستسعى مناطق أخرى غنية بالنفط، كالمكلا وحضرموت، إلى حماية مصالحها الخاصة، مما قد يولد تناقضات داخلية تُضعف السلطة المركزية.

وعلاوة على ذلك، يبرز خطر تحول جنوب الجزيرة العربية إلى ساحة صراع بالوكالة، خاصة في ظل التحالف المتوقع للمجلس مع الإمارات والكتلة الغربية. فقبول مساعدات عسكرية غربية أو إسرائيلية قد يعزز الأمن، لكنه في الوقت نفسه سيجعل الكيان الجديد هدفًا سهلًا لإيران والحوثيين.

العلاقة مع إسرائيل


في حين يرى تحليل نشره موقع "يديعوت أحرونوت" أن الصعود السريع للمجلس الانتقالي الجنوبي، بدعم إماراتي مباشر، يمثل تحولًا استراتيجيًا في موازين القوى داخل اليمن، مع تداعيات إقليمية تتجاوز الساحة اليمنية لتصل إلى حسابات إسرائيل الأمنية والدبلوماسية. فسيطرة المجلس على معظم جنوب اليمن، بما في ذلك عدن ومطارها ومؤسسات الدولة ومحافظة حضرموت الغنية بالموارد، كرّست واقعًا جديدًا يتمثل في انقسام فعلي للبلاد بين شمال خاضع للحوثيين المدعومين من إيران، وجنوب تديره سلطة سياسية وعسكرية منفصلة موالية لأبوظبي.

ويشير التحليل إلى أن انهيار الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا وفرارها إلى الرياض، ورفع علم جنوب اليمن السابق في عدن، يعكسان نهاية فعلية لمشروع اليمن الموحد. وقد أضعف هذا الواقع التحالف الذي واجه الحوثيين منذ 2015، وجعله أكثر انقسامًا وعجزًا عن التنسيق، وهو ما أتاح للحوثيين تعزيز سيطرتهم وتوسيع علاقاتهم مع إيران وحزب الله، وتطوير قدراتهم الصاروخية والطائرات المسيّرة.

ويبرز المجلس الانتقالي الجنوبي كقوة عسكرية وسياسية منظمة ومدعومة إماراتيًا، ويشكّل حاليًا أخطر تحدٍّ عسكري للحوثيين، مما فاجأ السعودية وكشف عن تباين استراتيجي مع الإمارات.

وبالنسبة لإسرائيل، يمثل الجنوب المستقر نسبيًا معادلة مزدوجة: فضعف التحالف يتيح للحوثيين تعزيز نفوذهم، لكن وجود كيان جنوبي موالٍ للإمارات يوفر فرصة استراتيجية وتنسيقًا محتملاً لمواجهة التمدد الإيراني في بحر العرب. كما تعزز سيطرة المجلس على الموانئ الاستراتيجية (عدن، المكلا) والوجود الإماراتي في سقطرى الرقابة على طرق الشحن الحيوية لإسرائيل (باب المندب، البحر الأحمر).

ويؤكد التحليل ضرورة عدم المبالغة في وصف الجنوب بأنه "مؤيد لإسرائيل"، فهو بالأساس موالٍ للإمارات، وأي انفتاح محتمل مشروط بإدارة حذرة للعلاقة مع أبوظبي ومراعاة الحساسية السعودية. ويمثل صعود المجلس الانتقالي تحولًا محوريًا يعزز النفوذ الإماراتي ويهمش الدور السعودي، ويهدد الحوثيين على المدى القريب، ويفتح آفاقًا استراتيجية لإسرائيل على المدى الطويل كشريك محتمل في اتفاقيات أبراهام لمواجهة النفوذ الإيراني في البحر الأحمر.

وفي السياق ذاته، وفي تحليل نشره مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS)، أُشير إلى أن جنوب اليمن شهد خلال الأسبوعين الماضيين تحولًا استراتيجيًا جذريًا، بعدما سيطر المجلس الانتقالي الجنوبي، بدعم كامل من الإمارات، بسرعة على عدن ومحافظة حضرموت الغنية بالموارد، إضافة إلى مؤسسات حكومية مركزية رئيسية. ومع فرار الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا إلى الرياض، ورفع علم جنوب اليمن مجددًا فوق المباني الحكومية في عدن، لم يعد اليمن دولة موحدة، بل بات منقسمًا، بحكم الأمر الواقع، إلى كيانين: شمال يسيطر عليه الحوثيون، وجنوب موالٍ للإمارات.

ويشير التحليل إلى أن هذا التحول يمثل فشلًا للإطار الذي تأسس عام 2015، والمتمثل في تحالف ضعيف ومجزأ يعتمد على الدعم الخارجي السعودي.

وعلى المدى القريب، يستفيد الحوثيون بوضوح من هذا الواقع، إذ يواجهون خصومًا منهمكين في صراعات داخلية وعاجزين عن توحيد صفوفهم.

وعلى المدى المتوسط، يتغير المشهد مع ظهور تهديد جديد يتمثل في قوة جنوبية تتميز بالتنظيم والانضباط، وبامتلاكها بنية اقتصادية وعسكرية متماسكة. وتسيطر هذه القوة على السواحل والموانئ وطرق التهريب الحيوية للحوثيين. ويمثل هذا الظهور سابقة، إذ يقدم طرفًا لا يكتفي بمعاداة الحوثيين، بل يمتلك قدرات فعلية في الحكم وإدارة الدولة والجيش.

ويكشف التحليل أيضًا عن عمق الخلاف بين السعودية والإمارات؛ فبينما تتمسك الرياض، ولو شكليًا، بوحدة الأراضي اليمنية، تعمل أبوظبي بصبر وهدوء على إنشاء كيان جنوبي بديل. وقد أدى ذلك فعليًا إلى تهميش الدور السعودي في الجنوب وفرض واقع جديد على الحدود الجنوبية لشبه الجزيرة العربية.

وفيما يتعلق بإسرائيل، يشير التحليل إلى أن الخطر الحوثي سيظل قائمًا في الأجل القريب، نظرًا لأن حالة التشرذم في اليمن تسهّل ترسيخ سيطرتهم واستمرار حكمهم في الشمال. ومع ذلك، خلقت التطورات الأخيرة فرصة استراتيجية جديدة، تتمثل في ظهور كيان جنوبي أكثر استقرارًا، مدعوم من الإمارات، يسيطر على ميناء عدن القريب من باب المندب، مما يحد من النفوذ الإيراني في منطقة بحرية حيوية لإسرائيل. ويدعم هذا التوجه ما أشار إليه عيدروس الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، حول إمكانية انضمام جنوب اليمن مستقبلًا إلى اتفاقيات أبراهام.

لكن التحليل يحذر من مغبة سوء التقدير، مؤكدًا أن الجنوب ليس كيانًا مؤيدًا لإسرائيل، بل موالٍ للإمارات. وبالتالي، فإن المسار الواقعي لا يتمثل في انخراط إسرائيلي مباشر، بل في إدارة حذرة عبر أبوظبي، مع الأخذ في الحسبان التنافس القائم بينها وبين السعودية. وفي هذا الإطار، لا يُعد جنوب اليمن مجرد قضية داخلية، بل ساحة صراع إقليمي جديدة على البحر الأحمر، تنطوي على مخاطر واضحة وفرص محتملة تتطلب تعاملًا دقيقًا ومدروسًا.

أهمية حضرموت بالنسبة للسعودية


يتحدث شوقي القاضي، القيادي في حزب الإصلاح اليمني، عن أهمية حضرموت بالنسبة للسعودية، ويشدد على أن حضرموت تمثل، بالنسبة للمملكة العربية السعودية، خطًا أحمر وأحد أعمدة أمنها القومي، وهو ما يجعل أي مشروع انفصالي لا يسيطر فعليًا على حضرموت مشروعًا ناقصًا وغير قابل للحياة.

فالمحافظة، بوصفها الأكبر مساحة في اليمن، تشكل العمق الجيوسياسي للحدود الجنوبية الشرقية للمملكة، واستقرارها يمثل عاملًا حاسمًا في حماية الحدود من التهديدات الأمنية، ومنع تسلل الجماعات المسلحة وتهريب السلاح والمخدرات، فضلًا عن قطع الطريق أمام أي نفوذ إقليمي معادٍ قد يستخدمها كورقة ضغط على الرياض.

ويضيف القاضي أن أهمية حضرموت في الحسابات السعودية لا تتوقف عند بعدها الأمني، بل تتجاوز ذلك إلى بعدها الاستراتيجي الأوسع داخل معادلة اليمن والمنطقة. فالمحافظة تتمتع بتركيبة اجتماعية وقبلية أقل حدة في الانقسامات مقارنة بمناطق يمنية أخرى، إلى جانب امتلاكها ثروات نفطية وغازية وموانئ حيوية مطلة على بحر العرب، ما يجعلها ركيزة أساسية لأي مشروع استقرار اقتصادي وأمني طويل الأمد في اليمن. ومن هذا المنطلق، ترى السعودية – بحسب القاضي – أن الحفاظ على حضرموت ضمن إطار الدولة اليمنية الموحدة، ومنع تحولها إلى ساحة نفوذ لقوى انفصالية أو إقليمية منافسة، شرط أساسي لإنجاح أي تسوية سياسية شاملة، ولضمان ألا يتحول شرق اليمن إلى مصدر تهديد دائم لأمن المملكة واستقرارها.

ويذهب شوقي القاضي أبعد من ذلك، معتبرًا أن حضرموت تمثل بوابة السعودية غير المباشرة إلى المحيط الهندي، وإن كان هذا الوصف يحمل طابعًا جيوستراتيجيًا أكثر منه قانونيًا. فامتداد حضرموت على ساحل طويل على بحر العرب، المتصل مباشرة بالمحيط الهندي وخارج نطاق مضيق هرمز، يمنحها قيمة استراتيجية عالية في ظل التوترات الإقليمية المتكررة، خصوصًا مع إيران. ويشير القاضي إلى أن هذه الجغرافيا تفتح، نظريًا، أمام السعودية أفقًا استراتيجيًا لتأمين منافذ بديلة للتجارة والطاقة، بعيدًا عن نقاط الاختناق البحرية التقليدية، وهو تفكير استراتيجي طويل المدى طُرح منذ عقود في مراكز بحثية ودراسات استراتيجية، حتى وإن لم يتحول بعد إلى مشاريع معلنة على نطاق واسع.

وفي المقابل، يحذر القاضي من أن فقدان السيطرة الحكومية على حضرموت، أو تحولها إلى منطقة نفوذ لقوى انفصالية أو أطراف إقليمية منافسة، يعني، بالنسبة للرياض، إغلاق هذا الأفق الاستراتيجي بالكامل، وخلق تهديد مزدوج يتمثل في هشاشة الأمن الحدودي من جهة، وتهديد المصالح البحرية والاقتصادية من جهة أخرى. لذلك، يؤكد أن حساسية الموقف السعودي من أي تغييرات أحادية في وضع حضرموت السياسي أو العسكري ليست مسألة تكتيكية أو ظرفية، بل تعبير عن رؤية استراتيجية تعتبر المحافظة حلقة مفصلية في معادلة الأمن القومي السعودي، وفي مستقبل اليمن كدولة موحدة وقابلة للحياة.

تحميل المزيد