يعيش السوريون في أوروبا حالةً متصاعدةً من القلق، يرافقها جدل واسع حول مصير وجودهم في البلدان الأوروبية، منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024. وجاء هذا القلق على خلفية تصريحات وتحركات صادرة عن بعض الدول الأوروبية، عكست توجّهًا نحو مراجعة قرارات وإجراءات تتعلق بإقامة السوريين وتجنيسهم، مع بروز حديث متزايد عن إمكان إعادتهم إلى بلادهم، رغم استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني في سوريا.
وعقب سقوط بشار الأسد، بدأت أوروبا تشهد تحوّلًا ملحوظًا في مقاربتها للملف السوري، إذ انتقلت بعض الدول من سياسة "الحماية المؤقتة" شبه التلقائية إلى نهج يقوم على "التقييم، والتعليق، والتحضير للعودة"، وهي سياسات تطال مئات الآلاف من السوريين المقيمين في القارة منذ سنوات طويلة، بعدما فرّوا من ويلات الحرب والانتهاكات الواسعة التي ارتكبها النظام السابق بحق المدنيين، والتي دفعت ملايين السوريين إلى اللجوء نحو أوروبا ودول أخرى.
يرصد هذا التقرير تفاصيل الإجراءات التي اتخذتها الدول الأوروبية، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، كما يتناول الواقع الإحصائي والقانوني الجديد الذي يواجهه أكثر من مليون سوري يعيشون اليوم في القارة العجوز، في ظل مرحلة تتسم بالغموض وعدم اليقين بشأن مستقبلهم القانوني والإنساني.
من "الحماية" إلى "التجميد"
فور الإعلان عن سقوط النظام، سارعت العواصم الأوروبية إلى اتخاذ إجراءات فورية وغير منسقة في البداية، تمحورت حول تجميد البت في طلبات اللجوء، حيث تشير بيانات وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء (EUAA) والتقارير المرفقة إلى تحوّل دراماتيكي في الأرقام:
انخفاض الطلبات: تراجعت طلبات اللجوء السورية الشهرية من ذروة بلغت 16,000 طلب في أكتوبر 2024 (قبل السقوط بشهرين) لتصل إلى 3,500 طلب فقط في سبتمبر 2025. يمثّل هذا انخفاضًا بنسبة تقارب 78%، ما يعكس حالة الترقب وعدم اليقين.
تراكم الملفات (Backlog): نتيجة لسياسات التعليق الجماعي، تكدست الملفات في أروقة دوائر الهجرة، حيث بلغ عدد القضايا المعلّقة بانتظار القرار حوالي 110,000 حالة في نهاية سبتمبر 2025.
انخفاض معدل الاعتراف: انهارت نسبة قبول طلبات اللجوء (سواء لجوء كامل أو حماية ثانوية) بشكل غير مسبوق. ففي النصف الأول من عام 2025، انخفض عدد القرارات الصادرة إلى 13,000 قرار فقط (مقارنة بـ 85,000 في العام السابق)، وبلغت نسبة الاعتراف الإيجابي 17% فقط، بعد أن كانت تتجاوز 90% في سنوات الحرب. وغالبية القرارات الأخرى كانت إما سحبًا للطلبات أو تعليقًا إجرائيًا.
الإجراءات التي قامت بها بعض الدول الأوروبية أثارت حفيظة منظمات حقوقية سورية، ما دفع بعض المنظمات السورية إلى التحذير من هذه الإجراءات، حيث صدر بيان مشترك لمجموعة من المنظمات السورية في 14 كانون الثاني/يناير 2025، حذّروا فيه من أن هذه القرارات لا يمكن النظر إليها بوصفها إجراءات إدارية مؤقتة، بل تمثّل تحوّلًا سياسيًا له تداعيات إنسانية خطيرة، يضع عشرات آلاف السوريين في حالة من "اللايقين القانوني والمعيشي"، ويفتح الباب أمام أشكال غير مباشرة من الإعادة القسرية.
وأكد البيان أن سوريا، رغم التغيّر السياسي الأخير، لا تزال بيئة غير آمنة لعودة اللاجئين، في ظل فراغ أمني واسع، وانتشار السلاح خارج إطار الدولة، وغياب مؤسسات حكومية فاعلة، وانعدام منظومة قضائية مستقلة قادرة على توفير الحد الأدنى من الضمانات القانونية. كما أشار إلى أن ملايين السوريين ما زالوا نازحين داخل البلاد، وأن البنية التحتية مدمّرة في مساحات واسعة، والخدمات الأساسية إما غائبة أو شديدة الهشاشة، ما يجعل أي حديث عن عودة آمنة في المرحلة الراهنة سابقًا لأوانه، ومحفوفًا بمخاطر جسيمة على حياة العائدين وكرامتهم.
ورأت المنظمات الموقّعة أن تعليق معالجة طلبات اللجوء لا يمكن فصله عن السياق السياسي الأوروبي الداخلي، معتبرة أن هذا الإجراء يُستخدم عمليًا كأداة ضغط لدفع اللاجئين نحو العودة، عبر إبقائهم في أوضاع قانونية معلّقة، وحرمانهم من الاستقرار، وتعريضهم لخطر الإعادة القسرية غير المباشرة. وشدّد البيان على أن الحق في طلب اللجوء هو حق أصيل كفله القانون الدولي، ولا يجوز تعليقه أو تقويضه استنادًا إلى تغيّرات سياسية غير مكتملة أو غير مستقرة، خصوصًا في بلد لم تبدأ فيه بعد أي عملية انتقال قانوني أو مؤسسي حقيقية.
وكان من المنظمات الموقّعة على هذا البيان: مركز الوصول لحقوق الإنسان، ومحامون وأطباء من أجل حقوق الإنسان، ومنظمة "نساء الآن من أجل التنمية"، وحملة سوريا، والشبكة السورية في الدنمارك، ومنظمة "السراج" في السويد.

التوجه الأوروبي الموحد
كذلك ، في 9 ديسمبر 2025، أصدرت وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء إرشادات محدثة، أشارت فيها إلى "تحسن في الوضع الأمني" مع بقاء التقلبات. الإرشادات الجديدة خففت من تقييم المخاطر العامة (مثل خطر التجنيد الإجباري الذي كان سبباً رئيسياً لمنح اللجوء)، وحصرت المخاطر في فئات محددة (أقليات دينية مثل العلويين والمسيحيين والدروز). هذا الضوء الأخضر شجع الدول على استئناف المعالجة ولكن بمعايير أكثر صرامة.
وقد تفاوتت استجابة الدول الأوروبية بين "التشدد الفوري" وبين "الترقب الحذر"، وفيما يلي تفصيل للإجراءات في الدول الرئيسية:
1. ألمانيا: مراجعة شاملة ورفع وتيرة الرفض
باعتبارها الحاضنة الأكبر للسوريين في أوروبا (حوالي 972 ألف سوري)، كانت إجراءات برلين الأكثر تأثيرًا وجدلاً.
- التجميد ثم الاستئناف المشروط: أوقف المكتب الاتحادي للهجرة (BAMF) معالجة جميع الطلبات في 9 ديسمبر 2024. استمر هذا التجميد فعليًا حتى سبتمبر 2025، حين بدأت السلطات باستئناف إصدار القرارات ولكن بنهج جديد.
- تصاعد الرفض: في أكتوبر 2025 وحده، رفضت ألمانيا 1,906 طلبات لجوء أولية، وهو رقم ضخم مقارنة بـ 163 حالة رفض فقط طوال الأشهر التسعة السابقة. التبرير الرسمي هو أن "تغير الوضع في سوريا لا يتيح إثبات خطر الترحيل للرجال الشباب الأصحاء".
- مراجعة الحماية وسحب الإقامات: حتى نهاية نوفمبر 2025، أكملت السلطات مراجعة 16,737 ملفًا للحاصلين سابقًا على حماية. النتيجة كانت سحب الحماية من 552 شخصًا (بينهم 6 حالات لجوء دستوري و268 لجوء جنيف). تركزت المراجعات على من زاروا سوريا ("إجازات الوطن") أو المصنفين كـ "خطرين أمنياً" أو مرتكبي الجرائم.
- سياسة "الاندماج أو العودة": صرح وزير الداخلية ألكسندر دوبرينت بوضوح: "من يندمج ويعمل، لديه فرصة للبقاء، ومن لا يندمج، فمستقبله العودة". الحكومة تعمل حالياً على اتفاقيات ترحيل مع سوريا تستهدف في المقام الأول المجرمين.
- العودة الطوعية: رغم الضجيج الإعلامي، تشير الأرقام إلى أن حوالي 1,300 سوري فقط عادوا طوعياً من ألمانيا عبر البرامج الحكومية حتى منتصف 2025.
2. النمسا: رأس الحربة في سياسات الترحيل
اتخذت فيينا الموقف الأكثر راديكالية في أوروبا، حيث كانت أول من أعلن صراحة عن خطط للترحيل المنظم.
- الوقف الفوري: أمرت الحكومة بوقف معالجة الطلبات في 9 ديسمبر 2024.
- برنامج العودة: أوعز وزير الداخلية بإعداد برنامج لـ "الإعادة المنظمة والترحيل"، واعتبرت فيينا أن سوريا "لم تعد تشكل خطراً عاماً".
- سحب اللجوء: شرعت الوزارة في إجراءات سحب صفة اللجوء من السوريين، خاصة المدانين بجرائم، وأعلنت أنها بدأت بـ 8,450 إجراء مراجعة حتى سبتمبر 2025.
- التفرد الأوروبي: يتباهى المستشار النمساوي بأن بلاده هي "الدولة الوحيدة في أوروبا التي بدأت بإعادة اللاجئين"، معتبراً أن الترحيل يجب أن يصبح "أمراً اعتيادياً".

3. دول الشمال الأوروبي : بين التشدد والانفتاح المشروط
- النرويج: علقت معالجة الطلبات مرتين، آخرهما في يونيو 2025. لكن في 18 ديسمبر 2025، رفعت السلطات التعليق، معتبرة أن المعلومات باتت كافية لمعالجة الطلبات. ومع ذلك، أبقت النرويج على تعليق "الالتزام بالعودة القسرية" للمرفوضين حتى 22 يناير 2026 لإجراء تقييم نهائي.
- السويد: أوقفت القرارات فور سقوط الأسد لـ"عدم إمكانية تقييم الحاجة للحماية". لاحقاً، أعلن وزير الهجرة عن تفاهم مع الحكومة السورية الجديدة لترحيل المدانين بجرائم، مع تحويل المساعدات السويدية من الإغاثة إلى "إعادة الإعمار" لتهيئة ظروف العودة.
- فنلندا: استأنفت إصدار القرارات في أواخر 2025 بعد تجميدها، مؤكدة أن الوضع "استقر نسبياً". وتشير البيانات إلى عدم تسجيل حالات عودة طوعية تذكر من فنلندا رغم الاستعدادات الحكومية لذلك.
- الدنمارك: علقت المعالجة، وقررت تمديد إقامة من تم رفض طلباتهم سابقاً (وكانوا بانتظار الترحيل) نظراً للغموض الحالي، في مفارقة نادرة حيث استفاد المرفوضون سابقاً من حالة الفوضى المؤقتة.
4. المملكة المتحدة وغرب أوروبا
- المملكة المتحدة: علقت القرارات في ديسمبر 2024، لكنها رفعت التعليق في يوليو 2025، مؤثرة على حوالي 7,000 حالة. التوجه الجديد في لندن يعتبر "حالة اللاجئ مؤقتة"، وتفكر الحكومة بجدية في العودة الإجبارية بعد استقرار الأوضاع.
- بلجيكا: جمدت الطلبات منذ ديسمبر 2024، وسجلت عودة طوعية متواضعة جداً (159 شخصاً) منذ بداية 2025.
- هولندا: قررت تأجيل البت في الطلبات لمدة ستة أشهر (للملفات الحديثة)، وأكدت وزيرة الهجرة أن القرارات ستتأخر حتى تتضح الرؤية.
- فرنسا: علقت القرارات وتعمل على مراجعة الحالات، مع توقع صدور قرارات قريباً تتماشى مع التوجه الأوروبي العام.
5. دول المواجهة والشرق الأوروبي
- اليونان: علقت البت في طلبات حوالي 9,000 سوري، وتخطط لإنهاء هذا الإجراء قريباً.
- جمهورية التشيك وبولندا وكرواتيا: جميعها أوقفت اتخاذ القرارات بانتظار توجيهات موحدة أو وضوح الرؤية.
واقع العودة.. الأرقام مقابل التحديات
بينما تضغط الحكومات الأوروبية باتجاه العودة، ترسم البيانات والتقارير الميدانية صورة معقدة للواقع. اذ تشير تقديرات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى حركة عودة نشطة ولكنها ليست جماعية بالمعنى الشامل:
- عاد حوالي 577,266 سورياً من الخارج في الفترة بين سقوط النظام (ديسمبر 2024) ويونيو 2025.
- العدد الإجمالي للعائدين منذ بداية 2024 يقارب 938,000 لاجئ.
- معظم العائدين جاءوا من دول الجوار (تركيا، لبنان، الأردن) وليس من أوروبا. العائدون من أوروبا يشكلون نسبة ضئيلة جداً (ألمانيا مثلاً 1300 حالة فقط).
- كما لجأت بعض الدول واللاجئين إلى حلول وسطى لكسر حاجز الخوف، حيث اقرت تركيا ما يطلق عليه " زيارات "Go and See" حيث سمحت للسوريين بإجراء ما يصل إلى 3 زيارات استطلاعية لسوريا دون فقدان الحماية المؤقتة، لتقييم الوضع قبل القرار النهائي.
- تشير استطلاعات الرأي إلى أن 60% من اللاجئين يرغبون في إجراء زيارة استطلاعية قبل العودة النهائية.
الجانب الحقوقي والإنساني.. حالة "اللايقين"
أدى التعليق الجماعي للطلبات إلى وضع قانوني وإنساني حرج، وثقته منظمات حقوقية مثل المرصد الأورومتوسطي:
- انتهاك القوانين الدولية: يعتبر الحقوقيون أن التجميد الجماعي دون تقييم فردي يمثل انتهاكاً لاتفاقية جنيف ومبدأ "عدم الإعادة القسرية".
- الضغط الصامت: وضع اللاجئين في حالة انتظار طويلة (Limbo) وحرمانهم من لم الشمل والاستقرار يخلق نوعاً من "الإعادة القسرية غير المباشرة"، حيث يضطر اللاجئ للعودة تحت وطأة اليأس والضغط النفسي والاقتصادي، وليس بناءً على قرار حر.
- تشتت العائلات: قصص إنسانية عديدة (مثل قصة "نورا" و"عمر") تظهر كيف أدى إغلاق الحدود والتعليق البيروقراطي إلى تشتت عائلات بين أوروبا ولبنان وسوريا، حيث يجد البعض نفسه عاجزاً عن التقدم للأمام أو العودة للخلف.

لا ضمانات للعودة
هذه الاجراءات الاوروبية ، دفعت فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، للقول أن سقوط النظام السابق، رغم أهميته السياسية، لا يشكّل بحد ذاته ضمانة للعودة الآمنة. وقال عبد الغني إن هذا السقوط "شرط لازم لكنه غير كافٍ"، موضحًا أن العودة تتطلب بيئة قانونية متكاملة، وعدالة انتقالية فعلية، وضمانات واضحة بعدم التعرّض للاعتقال أو الانتقام.
وحذّر من أن بعض الدول قد تستغل التحول السياسي في سوريا للتنصل من التزاماتها القانونية تجاه اللاجئين، معتبرًا أن أي انفتاح سياسي أو رفع للعقوبات يجب أن يقترن أولًا بحماية العائدين، لا الدفع نحو إعادتهم قبل توافر شروط الأمان.
من جانبه، انتقد المحامي والناشط الحقوقي أنور البني، المقيم في ألمانيا، ما وصفه بـ"السردية الأوروبية المتفائلة" حول تحسّن الوضع الأمني في سوريا، مؤكدًا أن الحديث عن مناطق آمنة لا يستند إلى أسس قانونية أو واقعية.
وأشار البني إلى أن ما وصفها بـ" الميليشيات" لا تزال تفرض نفوذها، وأن مؤسسات الدولة لم يُعاد بناؤها على قواعد قانونية مستقلة، محذرًا من أن العودة في ظل غياب قضاء مستقل وقوانين عادلة تمثل مقامرة بحياة الناس، وليست حلًا إنسانيًا. كما اعتبر أن المصالحات الشكلية أو الترتيبات العشائرية لا يمكن أن تكون بديلًا عن دولة القانون، ولا تشكّل ضمانة لعدم تكرار الانتهاكات.
حالة اللايقين:
يقول ناشط حقوقي سوري مقيم في ألمانيا إن ما تشهده أوروبا اليوم في تعاملها مع ملف اللجوء السوري لا يمكن فصله عن حالة "اللايقين القانوني والإنساني" التي أُدخل فيها عشرات الآلاف من السوريين بشكل متعمد، موضحاً أن منظمات حقوقية عدة، بينها المرصد الأورومتوسطي، وثّقت انتهاكات خطيرة نتجت مباشرة عن سياسات تجميد طلبات اللجوء، حيث تم وضع آلاف السوريين في حالة انتظار مفتوحة بلا سقف زمني، لا هم مرفوضون ليستأنفوا، ولا مقبولون ليستقروا، وهو ما يشكّل – بحسب وصفه – نوعاً من "الضغط الصامت" أو "الإعادة القسرية غير المباشرة". ويؤكد أن هذا التعليق المتعمد يدفع اللاجئ تدريجياً إلى اليأس، ويقوده نفسياً واقتصادياً إلى التفكير في العودة "الطوعية"، لا لأنها آمنة أو مختارة، بل لأنها الخيار الوحيد للهروب من الفراغ القانوني وتدهور ظروف العيش في أوروبا.
ويضيف الناشط أن هذا الواقع لا يقتصر على أرقام وملفات، بل ينعكس في قصص إنسانية مأساوية، مثل حالة "نورا" و"عمر"، وهما سوريان كانا يقيمان في لبنان، ثم سافرا إلى أوروبا أملاً بالحماية، قبل أن تُعلق طلباتهما هناك، وفي الوقت نفسه مُنعا من العودة إلى لبنان، بينما يخشيان العودة إلى سوريا، ليجدا نفسيهما عالقين بين ثلاث دول بلا حماية ولا مستقبل واضح. ويؤكد أن هذه الحالات ليست استثناءً، بل تمثل نموذجاً لما يسميه الحقوقيون "المصيدة القانونية" التي سقط فيها آلاف السوريين نتيجة سياسات أوروبية تفتقر إلى الحس الإنساني.
ويرى الناشط الحقوقي أن التجميد الجماعي لطلبات اللجوء دون فحص فردي يتعارض بشكل مباشر مع اتفاقية جنيف ومبدأ "عدم الإعادة القسرية"، خاصة أن وكالات الأمم المتحدة نفسها لا تزال تصنّف سوريا كبلد غير آمن بالكامل للعودة، محذراً من أن شرعنة هذا النهج تفتح الباب أمام تقويض منظومة الحماية الدولية للاجئين برمتها، وليس فقط السوريين.
وفي البعد الديموغرافي والاقتصادي، يشدد الناشط على أن قرارات الترحيل أو سحب الحماية لا يمكن النظر إليها بمعزل عن الواقع الحقيقي للجالية السورية في أوروبا، ولا سيما في ألمانيا، حيث نشأ جيل كامل من السوريين داخل المجتمع الألماني. فوفق البيانات، يشكل القاصرون نحو ثلث السوريين في البلاد، بينما وُلد قرابة 19% منهم داخل ألمانيا نفسها، ما يعني أن الحديث عن ترحيل هؤلاء لا يتعلق بإعادة أشخاص إلى "بلدهم الأصلي"، بل باقتلاع جيل كامل من البيئة الوحيدة التي عرفها، اجتماعياً وثقافياً وتعليمياً.
ويتابع أن السوريين حققوا، رغم كل الصعوبات، تقدماً ملموساً في الاندماج الاقتصادي، خاصة بين الرجال العاملين في قطاعات حيوية مثل النقل والخدمات اللوجستية والبناء، حيث تقترب معدلات توظيفهم من المتوسط الألماني بعد نحو عشر سنوات من الإقامة، في حين لا تزال النساء يعانين فجوة واضحة في فرص العمل، ما يتطلب سياسات دمج لا سياسات طرد. كما يشير إلى أن حصول 83 ألف سوري على الجنسية الألمانية في عام 2024 وحده، وهو رقم قياسي يضعهم في صدارة المجنسين، يعكس عمق اندماجهم واستقرارهم، ويشكّل في الوقت نفسه "درعاً قانونياً" يحميهم من الترحيل، لكنه يفتح جدلاً سياسياً متصاعداً حول ازدواج الجنسية ومستقبل سياسات الهجرة في ألمانيا.
هشاشة في الوضع القانوني
وفي السياق الأوروبي، نبّه خالد الشولي، المحامي ورئيس مؤسسة "العدالة الواحدة" في فرنسا، إلى هشاشة الوضع القانوني لفئات واسعة من السوريين، خصوصًا الحاصلين على الحماية الثانوية، موضحًا أن هذه الفئة تمثّل الحلقة الأضعف في أي مراجعة قانونية جماعية. وأشار إلى وجود نقاشات داخل بعض البرلمانات الأوروبية لتعديل أنظمة الحماية المؤقتة، استنادًا إلى تقارير سياسية تتحدث عن "تحسّن أمني نسبي"، محذّرًا من أن هذه المقاربة تتجاهل كليًا غياب العدالة الانتقالية، وعدم وجود ضمانات حقيقية لحماية الحقوق داخل سوريا.
بدوره، حذّر الحقوقي والمختص بالقانون الجنائي الدولي المعتصم الكيلاني مما وصفه بـ"تريند العودة"، الذي يروّج لفكرة العودة بوصفها خيارًا طبيعيًا أو حتميًا بعد سقوط النظام، من دون أي أسس قانونية صلبة. وأكد الكيلاني أن أي ترحيل أو إعادة قسرية في هذه المرحلة، حتى لو جرى تبريرها بالتغيّر السياسي، يشكّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، خصوصًا في ظل غياب ضمانات المحاكمة العادلة، واستمرار خطر التعذيب أو الانتقام. واعتبر أن العدالة الانتقالية ليست مسألة ثانوية أو مؤجّلة، بل شرطًا جوهريًا لأي استقرار حقيقي أو عودة مستدامة.
وتزايدت المخاوف الحقوقية مع تصريحات المستشار الألماني فريدريش ميرتس، الذي دعا في خريف 2025 إلى فتح قنوات تنسيق مع السلطات السورية الجديدة، لا سيما فيما يتعلق بترحيل المدانين بجرائم جنائية. ورغم محاولة فصل هذه الدعوة عن ملف اللاجئين ككل، رأت منظمات حقوقية وجاليات سورية أن هذه التصريحات تمهّد لتوسيع نطاق الترحيل، وتفتح الباب أمام خلط خطير بين القضايا الجنائية الفردية وحقوق الحماية الدولية، بما قد يقوّض مبدأ عدم الإعادة القسرية، الذي يُعدّ حجر الأساس في قانون اللاجئين الدولي.