لم يكن البيان الصادر عن الرئاسة المصرية عقب زيارة رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان إلى القاهرة بياناً بروتوكولياً عابراً، بل حمل في طياته تحولاً لافتاً في لهجة القاهرة تجاه الحرب في السودان منذ أبريل/نيسان 2023، وسط تدخل قوى إقليمية ودولية.
للمرة الأولى، تتحدث مصر بوضوح عن "خطوط حمراء" لا يمكن السماح بتجاوزها، وتربط أمنها القومي بشكل مباشر بمسار الصراع السوداني، مع تلويح صريح بتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين. وهو ما اعتبرته مصادر مطلعة لـ"عربي بوست" بمثابة إنذار واضح لأطراف دولية وإقليمية.
هذا التحول فتح الباب أمام تساؤلات متعددة: هل نحن أمام تغيير جذري في المقاربة المصرية للأزمة السودانية؟ ولماذا اختارت القاهرة هذا التوقيت للانتقال من سياسة ضبط النفس إلى خطاب أقرب إلى الردع؟ وإلى من وُجّهت هذه الرسائل فعلياً؟
"الخطوط الحمراء" التي تحدثت عنها مصر
مصدر مصري مطلع قال لـ"عربي بوست"، إن الخطوط الحمراء والحديث عن اتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين، هي رسالة لأطراف تستهدف تقسيم السودان وتعمل على تهيئة الأوضاع العسكرية التي تسمح لقوات الدعم السريع بالتقدم في محاور مختلفة بما يعزز ويكرس لتفتيت الدولة، وهو أمر لا يمكن أن تقبل به مصر باعتباره مهدداً رئيسياً للأمن القومي المصري.
المصدر الذي تحدث لـ"عربي بوست" مفضلاً عدم ذكر اسمه، أشار إلى أن رسالة مصر وصلت إلى هذه الأطراف المعنية بالحرب في السودان، وأن القاهرة لا تستهدف التصعيد لكنها "لن تتوانى في استخدام أساليب ردع دفاعية للحفاظ على أمنها القومي في المقام الأول".
وأوضح المصدر ذاته أن رسائل القاهرة مزجت بين اللغة الخشنة والتأكيد على أهمية المسار السياسي، ما يشير إلى أنها لا تدعم طرفاً على حساب آخر، وإنما تهدف بالأساس إلى التوصل إلى اتفاق ينهي الحرب ويمنع تقسيم البلاد، مع التأكيد على أن هناك العديد من الخيارات التي لم يتم استخدامها بعد، ولكن في حال جرى تجاوز الخطوط الحمراء التي رسمتها فإن ردة الفعل ستكون مختلفة.
يأتي ذلك بعد أن بذلت القاهرة جهوداً حثيثة خلال الثلاث سنوات الماضية للوصول إلى تفاهمات سياسية بين القوى المدنية أو بين المكونات المتحاربة، وترى الوضع الآن خرج عن السيطرة بما سيدفع نحو تقسيم السودان لا محالة، مع وجود لميليشيات غير معترف بها دولياً بالقرب من الحدود.
وشدد المصدر ذاته على أن الأمن القومي المصري يرتبط مباشرة بوحدة الأراضي السودانية، "ومع وجود مؤامرة داخلية مدعومة خارجياً تهدف إلى تقسيم السودان فإن ذلك يستدعي التعامل بلغة خشنة وقد تتطور لما هو أبعد من ذلك حفاظاً على الأمن وبالمثل مقدرات الدولة السودانية".
كما أن مصر تستهدف التأكيد على أن عدم رغبتها الانخراط في الصراعات الداخلية في كثير من الدول العربية خلال السنوات الماضية لا يعني السكوت عن تهديد أمنها بشكل مباشر، وسيكون ذلك بحاجة لتدخلات مختلفة لا تستهدف التدخل في شؤون الغير، لكنها تهدف محددات الأمن بالنسبة للدولة المصرية.
لماذا تغيرت لهجة القاهرة بشأن الحرب في السودان؟
مصر تعول على أن تعي الأطراف المختلفة الرسالة ولا يتم تجاوز الخطوط الحمراء، يقول المصدر، ويضيف أن القاهرة قادرة على تنفيذ ما تعلن عنه لحماية مؤسسات الدولة السودانية، موضحاً أن الحديث عن اتفاقية الدفاع المشترك جاء للتأكيد على أن هناك تنسيقاً مشتركاً بين البلدين في إطار الشرعية الدولية والاتفاقيات الموقعة بينهما سابقاً.
وشدد على أن السودان يشكل الامتداد الجنوبي لمصر، كما أن وحدة وادي النيل تتطلب تدخلات إذا كان الأمر يتعلق بوحدة السودان، وأن مساعي التقسيم التي تجري على قدم وساق رغم طرح العديد من المبادرات الدولية يشير إلى أن هناك من يصر على عدم الوصول لنقطة النهاية في الصراع بعكس ما يتم الترويج له، وهدفت مصر للتأكيد على أنها تدرك ما يجري من مخططات وأنه على جميع الأطراف الاتجاه إلى حلول حقيقية بدلاً من التسويف القائم الآن.
حذّرت مصر، الخميس، من "خطوط حمراء" بشأن السودان، لا يمكن أن تسمح بتجاوزها أو التهاون بشأنها باعتبار أن ذلك يمس مباشرة الأمن القومي للبلاد، الذي يرتبط ارتباطاً مباشراً بالأمن القومي السوداني، مؤكدة حقها في اتخاذ كافة التدابير التي تكفلها اتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين والإجراءات اللازمة التي يكفلها القانون الدولي، لضمان عدم المساس بهذه الخطوط.
وقالت الرئاسة المصرية في بيان، إن القاهرة تجدد تأكيد دعمها الكامل لرؤية الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخاصة بتحقيق الأمن والاستقرار والسلام في السودان.
وذكر البيان الذي أصدرته الرئاسة بمناسبة زيارة رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان للبلاد، أن مصر "تتابع بقلق بالغ استمرار حالة التصعيد والتوتر الشديد الحالية في السودان، وما نجم عن هذه الحالة من مذابح مروعة وانتهاكات سافرة لأبسط قواعد حقوق الإنسان في حق المدنيين السودانيين، خاصة في الفاشر".
وشددت القاهرة على أن الحفاظ على وحدة السودان وسلامة أراضيه وعدم العبث بمقدراته ومقدرات الشعب السوداني هي أحد أهم هذه "الخطوط الحمراء"، مؤكدة "عدم السماح بانفصال أي جزء من أراضي السودان"، وجددت رفضها القاطع لإنشاء أي كيانات موازية أو الاعتراف بها باعتبار أن ذلك يمس وحدة السودان وسلامة أراضيه.
وفي ختام موقفها، جددت مصر حرصها الكامل على استمرار العمل في إطار الرباعية الدولية، بهدف التوصل إلى هدنة إنسانية، تقود إلى وقف لإطلاق النار، يتضمن إنشاء ملاذات وممرات إنسانية آمنة لتوفير الأمن والحماية للمدنيين السودانيين، وذلك بالتنسيق الكامل مع مؤسسات الدولة السودانية.
رسائل القاهرة إلى "من يهمهم الأمر"
مصدر دبلوماسي مطلع أوضح أن القاهرة أرسلت إشاراتها لمن يهمه الأمر ولكل حادث حديث بعد ذلك في حال جرى تجاوز الخطوط الحمراء، والكرة الآن في ملعب قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي).
وسيكون على حميدتي إثبات جديته في الحفاظ على وحدة السودان وسلامة أراضيه والحفاظ على مؤسسات الدولة السودانية، خاصة أنها ركزت ضرباتها التي وجهتها بالطائرات المسيرة أخيراً نحو البنية التحتية التي دمرت بشكل شبه كامل في السودان، ما يعني أن عملية إعادة الإعمار أضحت صعبة للغاية.
وأشار المصدر ذاته إلى أن مصر تحملت على مدار السنوات الماضية ما يحدث في السودان من جرائم واستقبلت ملايين اللاجئين الذين ضغطوا بشكل كبير على الأوضاع المعيشية للمصريين.
كما أن الانفلات الأمني وانتشار السلاح أضحى مهدداً للحدود المصرية مع تضاعف عمليات التجنيد التي تجري على قدم وساق، ومع وجود حدود شاسعة أضحى ذلك بمثابة كابوس للأجهزة المصرية التي تستهدف مواجهة مبكرة قبل أن يصل الخطر للأراضي المصرية.
وأوضح أن البيان بلهجة غير مسبوقة بالنسبة للأزمة في السودان يتفق مع التطورات الأخيرة التي أعلنت فيها قوات الدعم السريع عن وقف إطلاق النار في وقت ضاعفت من عملياتها العسكرية على الأرض، بدءاً من مجازر الفاشر والعمليات في كردفان والضربات الموسعة بالمسيرات على مناطق متفرقة في الشرق والشمال.
وأشار المصدر الدبلوماسي إلى أن الخطر الأكبر بالنسبة لمصر يتمثل في وصول قوات الدعم السريع إلى منطقة المثلث الحدودي، إلى جانب مضاعفة أعداد اللاجئين خلال الأشهر الأخيرة نتيجة العمليات العسكرية.
وذكر المتحدث أن ما يتم تداوله عن أن اتفاقية الدفاع المشترك تم إلغاؤها كلام "غير دقيق"، لأن السودان لم تبلغ مصر رسمياً بإلغاء الاتفاقية لكنها كانت مجمدة، والحديث عن تفعيلها يعد إشارة للمكون العسكري والمدني في السودان، بأنه آن الأوان للوصول بأي طريقة إلى نهاية الصراع.
وأوضح أن الوضع في السودان أصبح لا يتحمله أحد، كما أن الموقف المصري هو أيضاً رسالة للرأي العام المصري والعربي والدولي، ويوضح موقف مصر القائم على وحدة السودان وتأييد السلطة الشرعية.
في مارس/آذار من عام 2021، وقّعت مصر اتفاقية للتعاون العسكري مع السودان، شمل مناورات مشتركة، أبرزها "نسور النيل" و"حماة النيل"، وتغطي مجالات التدريب، وتأمين الحدود، ومواجهة التهديدات المشتركة، ويعد تحديثاً لبعض بنود اتفاق للدفاع المشترك وقّعه البلدان في عام 1976، في مواجهة التهديدات الخارجية.
وجرى إرساء إطار قانوني للتعاون العسكري والأمني يهدف إلى التنسيق في مواجهة أي مخاطر أو تهديدات تمس سيادة أو وحدة أراضي أي من البلدين، مع التأكيد على التشاور المشترك في حال تعرض أحد الطرفين لأخطار خارجية على مدار السنوات.
ما قصة التهديد بتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك؟
مع تصاعد الأزمات في السودان، أكدت القاهرة مراراً أن اتفاقية الدفاع المشترك لا تزال قائمة وفاعلة، وتشكل مرجعية حاكمة لموقفها الداعم لوحدة السودان ومؤسساته، ورفض أي محاولات لتقسيمه أو إنشاء حكومات موازية تهدد استقراره وأمن المنطقة.
وقال مصدر عسكري تحدث شريطة عدم ذكر اسمه، إن الموقف المصري الأخير يشكل تحولاً استراتيجياً في الخطاب السياسي والانتقال من التهدئة الدبلوماسية إلى التهديد للدفاع عن المصالح المصرية.
وأشار إلى أن الموقف المصري وضع نقاطاً محددة، المساس بها سيشكل تغيراً في آليات تعامل القاهرة مع الأزمة السودانية، وأن هدفه مساندة الدولة السودانية وأجهزتها في هذه المرحلة الدقيقة التي تحرز فيها قوات الدعم السريع تقدماً ليس بسبب كفاءتها ولكن بسبب تدخل دول إقليمية بقوة في الصراع لدعمها عسكرياً بأحدث الطائرات المسيرة، وهو ما يشكل قلقاً للقاهرة.
ومع وضع خطوط حمراء، فإن القيادة السياسية في مصر ربطت بين الأمنين المصري والسوداني وأنها لن تقبل بوجود جيش سوداني ضعيف على حدودها لأنه مكلف بحماية مؤسسات الدولة، يوضح المصدر العسكري لـ"عربي بوست".
كما أنها تؤكد على ضرورة عدم الاعتراف بأي كيانات موازية وربطت كل هذه الخطوط بتهديد الأمن القومي المصري، ما يعني أن لمصر الحق في اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير وفقاً للقانون الدولي، وبخاصة المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة الذي يتيح للدول الدفاع عن نفسها إذا ما تعرضت للخطر.
وأوضح أن مصر ألمحت إلى تفعيل الدفاع المشترك والحديث هنا عن الاتفاق العسكري الموقع بين البلدين في عام 2021 والذي تم تعديله في نوفمبر/تشرين الثاني 2025 ليشمل تبادل المعلومات والتدريب المشترك، وفي الوقت ذاته فإن البيان المصري يأتي في إطار الخطة الأميركية التي تدعمها مصر، وبالتالي فإن موقف القاهرة هو مزيج من الدبلوماسية والتهديد الدفاعي.
كما أنه خطاب ردع لبعض القوى الإقليمية التي تدعم قوات الدعم السريع على حساب الاستقرار السوداني، وكذلك فإن الموقف المصري رسالة ضغط على الرباعية الدولية لاتخاذ إجراءات فاعلة نحو تنفيذ وقف إطلاق النار.
وشدد المصدر العسكري على أن جميع السيناريوهات مطروحة لحماية الأمن القومي المصري طالما أنه جرى الربط بين ما يحدث في السودان وبين الأخطار التي تحاصر الدولة المصرية، خاصة وأن القاهرة تتابع عن كثب توافد السلاح الصيني بكثافة إلى قوات الدعم السريع من جانب أطراف أخرى تقوم بشرائه وإمداده بها.
المصدر العسكري أوضح لـ"عربي بوست" أن ذلك يشكل خطراً حقيقياً وتستهدف أن يكون ذلك حافزاً لتدخل أميركي يمكن أن يوقف تمدد هذه الأسلحة، لافتاً إلى أن مصر هدفت لإحداث توازن على الأرض يقود لإنهاء الحرب.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قال ترامب إنه سيعمل على إنهاء الحرب في السودان بعد أن طلب منه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان التدخل لحل الصراع، واندلعت الحرب بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في أبريل/نيسان 2023 قبيل انتقال مخطط له إلى الحكم المدني، ما أدّى إلى أكبر أزمة نزوح في العالم.
وفي 12 سبتمبر/أيلول الماضي، دعت "الرباعية" التي تضم مصر والسعودية والإمارات والولايات المتحدة، إلى هدنة إنسانية أولية مدتها 3 أشهر في السودان، لتمكين دخول المساعدات الإنسانية العاجلة إلى جميع المناطق تمهيداً لوقف دائم لإطلاق النار.
وتشهد ولايات إقليم كردفان الثلاث (شمال وغرب وجنوب)، اشتباكات ضارية بين الجيش السوداني و"قوات الدعم السريع" منذ أسابيع، أدت إلى نزوح عشرات الآلاف في الآونة الأخيرة.
ومن أصل 18 ولاية في البلاد، تسيطر قوات "الدعم السريع" على ولايات دارفور الخمس غرباً، باستثناء أجزاء من شمال دارفور التي لا تزال تحت سيطرة الجيش، الذي يفرض نفوذه على معظم الولايات الـ13 المتبقية، بما فيها العاصمة الخرطوم.