في تطور لافت للمشهد السياسي في ليبيا، كشف مصدر مطلع أن بعثة الأمم المتحدة في ليبيا تتحرك عبر مسار "الحوار المهيكل" باتجاه ترتيبات سياسية جديدة قد تُفضي إلى فتح الباب أمام صيغ انتقالية تتجاوز الأجسام الحالية من خلال اعتماد "الخيار الرابع"، وإعادة تشكيل بنية السلطة التشريعية والتنفيذية.
يأتي ذلك بالتزامن مع إطلاق جلسات "الحوار المهيكل" بوصفه أحد المسارات التي تطرحها البعثة ضمن خارطة طريق لتجاوز الانسداد السياسي. غير أن طبيعة هذا الحوار وحدود مخرجاته تظل محل تباين واضح بين الرواية الأممية الرسمية وقراءات محلية أكثر تشككاً في الاتجاهات الكامنة خلفه.
فبينما تصرّ بعثة الأمم المتحدة في ليبيا على أن "الحوار المهيكل" ركيزة ضمن خارطة طريق أُحيلت إلى مجلس الأمن، ترى مصادر أن ما يجري يتجاوز حدود الاستشارة، ويتجه عملياً نحو ترتيبات سياسية تفضي إلى إعادة تشكيل المشهد التشريعي والتنفيذي برمّته، في مسار يعيد إحياء "الخيار الرابع" الذي طُرح سابقاً كحل للأزمة.
ما الجديد في المشهد السياسي الليبي؟
مصدر ليبي مطّلع قال لـ"عربي بوست" إن بعثة الأمم المتحدة في ليبيا تتحرك، عبر مسار "الحوار المهيكل"، باتجاه ترتيبات سياسية جديدة قد تُفضي، وفق تقديره، إلى إعادة تشكيل المشهد المؤسسي القائم، ما في ذلك تجاوز بعض الأجسام الحالية، في إشارة إلى مجلس النواب والمجلس الرئاسي ورئاسة الحكومة، أو إعادة ترتيب العلاقة بينها من خلال صيغ انتقالية مختلفة.
ويرى المصدر الذي تحدث لـ"عربي بوست" شريطة عدم الكشف عن اسمه، أن هذا المسار لا يُقرأ فقط كمنصة تشاور موسّعة، بل كأداة يمكن توظيفها لإنتاج ترتيبات سياسية بديلة، خصوصاً في ظل تعثر المسارات السابقة المرتبطة بالانتخابات والخلافات المستمرة حول الإطار الدستوري والقانوني.
بحسب المصدر، فإن هذا التوجه يحظى بتشجيع أطراف دولية، من بينها أطراف أوروبية، فيما تُدار عملية اختيار المشاركين في "الحوار المهيكل"، وفق المصدر، بما لا يستند بالضرورة إلى معايير ثابتة ومعلنة بالقدر الكافي، بل وفق اعتبارات ترى البعثة أنها متسقة مع تصورها للمسار. ويضيف أن أطرافاً ليبية تُسهم بدورها في ترشيح الأسماء أو التأثير في عملية الاختيار.
الخيار الرابع: "حل الفرصة الأخيرة"
تتعاظم حساسية هذا المسار، بحسب المصدر، لأنه يتقاطع مع النقاشات التي طرحتها اللجنة الاستشارية التابعة لبعثة الأمم المتحدة في ليبيا، ولا سيما ما يُعرف بـ"الخيار الرابع"، الذي يطرح إطاراً مؤسسياً جديداً قائماً على مسار تأسيسي بشروط سياسية مسبقة.
وتُظهر وثيقة اللجنة الاستشارية أن "الخيار الرابع" يُقدَّم بوصفه خارطة طريق نحو مسار تأسيسي شامل، ويُشار إليه باعتباره "حل الفرصة الأخيرة" لمعالجة الانسداد السياسي، عبر تفعيل آلية الحوار بالاستناد إلى المادة (4) من الإعلان الدستوري، وتطبيقاً للمادة (64) من الاتفاق السياسي، إضافة إلى الترتيبات المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي الليبي في جنيف.
جوهر هذا الخيار، وفق الوثيقة، يتمثل في تشكيل لجنة حوار سياسي تُوكل إليها مهمة إنشاء "مجلس تأسيسي"، لكن ذلك مشروط بالتوصل أولاً إلى تسوية سياسية تُفضي إلى خروج متزامن للفاعلين المؤسسيين المتصارعين من المشهد، مع توفير ضمانات تحول دون عرقلة العملية التأسيسية لاحقاً.
بحسب وثيقة اللجنة الاستشارية، فإن المسار التأسيسي المقترح لا ينطلق في فراغ، بل يتطلب تسوية سياسية مسبقة تشمل عدداً من العناصر الجوهرية، أبرزها:
- الاتفاق على أساس دستوري مؤقت ينظم المرحلة الانتقالية.
- تشكيل سلطة تنفيذية موحدة بولاية زمنية واضحة ومهام محددة.
- توفير المتطلبات القانونية والفنية اللازمة لتهيئة البلاد لإجراء انتخابات تشريعية.
- تحديد آلية اختيار أعضاء لجنة الحوار التي ستقود هذا المسار.
ويعكس هذا البناء اشتراط قبول سياسي واسع قبل الانتقال إلى مرحلة إعادة التأسيس، في محاولة لتفادي تكرار تجارب سابقة أفرزت أجساماً جديدة دون توافق كاف.
"المجلس التأسيسي": تركيبة واسعة وصلاحيات مؤقتة
وفق تفاصيل "الخيار الرابع"، يلتزم مسار الحوار بتشكيل "المجلس التأسيسي" ضمن إطار زمني محدد سلفاً، على أن يتكوّن من 60 عضواً تتوافر فيهم معايير الكفاءة والنزاهة، مع مراعاة تكامل الاختصاصات والتمثيل العادل لمختلف فئات المجتمع.
ويُناط بالمجلس التأسيسي تولي صلاحيات تشريعية مؤقتة إلى حين انتخاب مجلس تشريعي جديد، إلى جانب اعتماد دستور مؤقت ينظم مرحلة التأسيس قبل الانتقال إلى الدستور الدائم. كما يُكلَّف المجلس بتشكيل سلطة تنفيذية تتمتع بالكفاءة والنزاهة، وتعمل على توفير بيئة آمنة لإجراء انتخابات تشريعية.
وتنص الوثيقة على منع أعضاء المجلس التأسيسي من الترشح للانتخابات اللاحقة، كإجراء يهدف إلى الحد من تضارب المصالح. وتشمل مهام المجلس أيضاً العمل على توحيد مؤسسات الدولة وتفعيلها وفق مبادئ الكفاءة والشفافية والحكم الرشيد، ودفع مشروع المصالحة الوطنية، وإطلاق حوار مجتمعي لمعالجة آثار المراحل الانتقالية السابقة.
كما يُكلَّف المجلس بإعادة تشكيل المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، على أن تمتد ولايته، بحسب المقترح، لأربع سنوات، تنتهي بانتخاب سلطة تشريعية جديدة وفق الإطار الدستوري النافذ.
لماذا يثير "الخيار الرابع" كل هذا الجدل؟
يُفسّر هذا البناء المقترح حساسية "الخيار الرابع"، لأنه لا يقتصر على تعديل قواعد انتخابية أو معالجة خلافات قانونية جزئية، بل يطرح إعادة تأسيس شاملة تُعيد توزيع الأدوار والصلاحيات داخل المنظومة السياسية، على أساس تسوية سياسية تسبق عملية الإنشاء.
ويرى منتقدون أن هذا المسار، رغم طابعه الشامل، ينطوي على مخاطر إعادة إنتاج أزمة شرعية جديدة إذا لم يحظَ بقبول داخلي واسع، فيما يعتبره مؤيدوه فرصة أخيرة لكسر الحلقة المفرغة التي عطّلت الانتقال الديمقراطي في ليبيا منذ الإطاحة بالنظام السابق.
في المقابل، تؤكد بعثة الأمم المتحدة في توصيفها لمسار "الحوار المهيكل" أنه منصة شاملة لطرح وتطوير توصيات ضمن خارطة طريق أوسع، تهدف إلى توسيع المشاركة وإشراك طيف مجتمعي أكبر في نقاشات الحوكمة والاقتصاد والأمن والمصالحة وحقوق الإنسان.
وتشير البعثة إلى أن اختيار المشاركين تم عبر عملية ترشيح من جهات متعددة، شملت بلديات ومؤسسات وأحزاباً، إضافة إلى تلقي طلبات مشاركة فردية، وبالاستناد إلى معايير تتعلق بالكفاءة والقدرة على الحوار وبناء التوافق وتغليب المصلحة العامة.
ويعكس هذا التباين بين الروايتين أن جوهر الخلاف لا يقتصر على وجود معايير مكتوبة من عدمه، بل يمتد إلى كيفية تطبيق هذه المعايير، وإلى طبيعة المسار نفسه: هل سيبقى سقفه عند حدود التوصيات، أم سيُستخدم لتبرير ترتيبات انتقالية أوسع.