وثائق وخرائط: كيف فرّط لبنان في آلاف الكيلومترات البحرية بتوقيع اتفاق ترسيم الحدود مع قبرص؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/11/27 الساعة 23:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/11/27 الساعة 23:13 بتوقيت غرينتش
ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص/ عربي بوست

خلال توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص، بدا المشهد احتفالياً بالنسبة لأغلب اللبنانيين، خاصةً مع حديث الرئيس العماد جوزيف عون عن "إنجاز استراتيجي" سيفتح أمام لبنان آفاقاً أوسع في مجال الطاقة والربط الكهربائي، وسار الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس على المنوال نفسه واصفاً الاتفاقية بـ"التاريخية". فهل كانت فعلاً الاتفاقية استراتيجية بالنسبة للبنان؟

توصل "عربي بوست" إلى معطيات ووثائق رسمية تكشف عن أمور "غير عادية" تثير الشكوك بشأن حقيقة "المكتسبات" التي ستجنيها لبنان من وراء هذا الاتفاق البحري مع قبرص، واتضح أن هناك استعجالاً مريباً في القرارات، والتفافاً على مجلس النواب، واستشارات قانونية جرى التعامل معها بانتقائية، ودراسات تشير إلى خسارة قد تصل إلى 5000 كلم من حقوق لبنان البحرية.

كما كشفت المعطيات التي حصل عليها الموقع من جهات رسمية عن تعرض لبنان لضغوط خارجية أميركية وأوروبية، ومعها ضغط ناعم من الإمارات، دفعت باتجاه إقفال ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص بسرعة، حتى ولو جاء ذلك على حساب مبدأ الإنصاف وعلى حساب ورقة تفاوضية أساسية مع سوريا وتركيا. فما الذي جرى بالضبط؟

البداية: من يملك حق إبرام المعاهدة؟

النقطة الأولى المثيرة للجدل والتي أثارها منتقدون لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص تمثلت في سؤال: من يملك حق إبرام معاهدة بهذا الحجم؟

الحكومة اللبنانية استندت إلى استشارة صادرة عن هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل خلصت، في القراءة الرسمية، إلى أن مجلس الوزراء يملك صلاحية إبرام الاتفاقية استناداً إلى المادة 65 من الدستور.
بناءً على ذلك، أقرّ مجلس الوزراء مشروع الاتفاق وفوّض وزير الأشغال فايز رسامني التوقيع مع الجانب القبرصي، على أن يحضر رئيس الجمهورية شخصياً حفل التوقيع.

غير أن القراءة الدقيقة لنص الاستشارة التي اطلع "عربي بوست" على نسخة منها، وكما يوضح عدد من الخبراء الدستوريين، تكشف أن الحكومة اللبنانية تعاملت معها بـ"انتقائية متعمّدة".

  • الاستشارة اعتبرت اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص "معاهدة دولية" بالمعنى الدستوري، وأكدت أن التوقيع من اختصاص رئيس الجمهورية.
  • الاستشارة لم تنزع عن مجلس النواب حق الإبرام النهائي، خصوصاً أن الدستور يضع المعاهدات التي تتعلق بمالية الدولة أو تلك التي لا تُفسخ سنوياً في خانة الاتفاقيات التي لا تصبح نافذة إلا بعد موافقة المجلس النيابي (المادة 52).
  • وزارة الخارجية نفسها أبلغت الحكومة خطياً أن الاتفاقية من النوع الذي يستوجب موافقة مجلس النواب قبل الإبرام. ومع ذلك، فضّل مجلس الوزراء التشبّث بالشق الذي يكرّس دوره في الإبرام، وتجاهل الفقرة التي تتحدث عن وجوب المرور بالمجلس النيابي، ما دفع رئيس لجنة الأشغال النيابية سجيع عطية إلى التلويح بوقف "تهريب" المعاهدة.

هذا الالتفاف فتح أيضاً باب الحديث عن مسؤولية ديوان المحاسبة، باعتباره الجهة المخوّلة التدقيق في أي عمل وزاري يترتب عليه ضرر مالي أو ضياع حقوق للدولة، وصولاً إلى ملاحقة الوزراء المعنيين إذا ثبت أن توقيع الاتفاقية قبل إبرامها في مجلس النواب شكّل مخالفة دستورية أفضت إلى خسارة بحرية ذات قيمة اقتصادية للدولة.

التمهيد للاتفاقية… تغيير الفريق لتغيير النتيجة؟

في عام 2022، شكّل رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي لجنة وزارية برئاسة وزير الأشغال آنذاك علي حميّة، المحسوب على حزب الله، ضمّت ممثلين عن الدفاع والخارجية والطاقة وهيئة إدارة قطاع البترول والجيش.

خلصت اللجنة بعد دراسة موسعة إلى أن اتفاق 2007 مع قبرص مجحف بحق لبنان، وأنه تجاهل منهجية الترسيم المنصف ومبدأ التناسب في أطوال الشواطئ، ووفقاً لرئيس لجنة الأشغال البرلمانية سجيع عطية، فقد أشار لـ"عربي بوست" إلى أن اللجنة حينها أوصت صراحةً:

تعديل المرسوم 6433 الذي يحدّد المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان.

  • اعتماد إحداثيات جديدة تأخذ في الاعتبار مبدأ الإنصاف وتناسب أطوال الشواطئ.
  • إعادة التفاوض مع قبرص على ضوء هذه الإحداثيات.
  • تسجيل هذه الإحداثيات لدى الأمم المتحدة، واللجوء إلى التحكيم الدولي في حال فشل المفاوضات.

لكن وفقاً لعطية فقد بقيت هذه التوصيات عملياً في الأدراج، ورفضت الحكومة الحالية مناقشتها.

مع الحكومة الحالية، أُعيد فتح الملف من زاوية مختلفة تماماً. ففي 11 يوليو/تموز 2025، وبعد يومين فقط من زيارة الرئيس جوزيف عون إلى قبرص، تلقت بيروت طلباً قبرصياً رسمياً لتشكيل لجنة تقنية خاصة لإنجاز الترسيم.

استجابت الحكومة فوراً، وشكلت لجنة جديدة برئاسة وزير النقل والأشغال فايز رسامني، ضمّت مديرين عامين غير مختصين، وممثلاً عن قيادة الجيش هو العميد الركن البحري مازن بصبوص، وخبير قانون دولي هو الدكتور نجيب عبد المسيح.

المفارقة أن اللجنة الجديدة استبعدت كل الأسماء التي اشتهرت بمقاربتها النقدية لاتفاق 2007 والمطالِبة بتوسيع حصة لبنان، مثل العميد المتقاعد خليل الجميل ورئيس مصلحة الهيدروغرافيا في الجيش اللبناني المقدم عفيف غيث.

في المقابل، ضمت شخصيات معروفة بتأييدها لمنهجية خط الوسط واعتماد اتفاق 2007 قاعدة للتفاوض. بهذه الطريقة، أُعيد تشكيل الفريق كي تأتي النتيجة منسجمة مع الخيار السياسي المسبق، وهو تثبيت اتفاق 2007 بدل تصحيحه.

-_page-0005
(1/5)
-_page-0004
(2/5)
-_page-0003
(3/5)
-_page-0002
(4/5)
-_page-0001
(5/5)

النتيجة… خسارة كبيرة لبيروت

في الكواليس التقنية، لم تكن المشكلة غياب الدراسات، بل تجاهل ما هو موجود، فالدراسة التي أعدّها مركز الاستشارات القانونية والأبحاث في وزارة الخارجية عام 2014 أظهرت أن لبنان خسر أكثر من 2600 كلم² نتيجة اعتماد خط وسط لا يراعي فرق طول الشواطئ ولا منهجية الترسيم المنصف التي كرّستها أحكام محكمة قانون البحار ومحكمة العدل الدولية.

لاحقاً، قامت مصلحة الهيدروغرافيا في الجيش اللبناني بإعداد دراسة أكثر تقدّماً، استخدمت فيها أحدث طرق القياس والمعالجة والأقمار الاصطناعية، وطبّقت بدقة منهجية الإنصاف وتناسب أطوال السواحل. النتيجة كانت أكثر خطورة: مساحة مفقودة تقدّر بأكثر من 5000 كلم² من المنطقة الاقتصادية الخالصة، أي ما يوازي تقريباً نصف مساحة لبنان البرية.

وبحسب مصدر برلماني لـ"عربي بوست" فإن هذه الدراسات عرضها العميد خليل الجميل أمام لجنة الأشغال والطاقة والمياه النيابية في جلسة موسّعة حضرها رسامني وبصبوص وعبد المسيح وخبراء آخرون. الجميل استند إلى ثمانية أحكام رئيسية صادرة عن محاكم دولية في قضايا مشابهة، اعتمدت منهجية ثلاثية:

  • رسم خط وسط مؤقت
  • تعديله وفق ظروف خاصة (مثل طول الشواطئ وطبيعة الجزر).
  • اختبار التناسب النهائي بين مساحة البحر الممنوحة لكل دولة وطول سواحلها.

بحسب هذه المنهجية يؤكد مصدر "عربي بوست" أنه لا يمكن التعامل مع جزيرة مثل قبرص، المحاطة بالمياه والمنفصلة جغرافياً، كما لو أنها دولة ساحلية ذات عمق بري واسع. اعتماد خط وسط حرفي بين جزيرة ودولة كلبنان ذات ساحل قصير، يعطي تلقائياً أفضلية للجزيرة وينتهك مبدأ "النتيجة المنصفة" المنصوص عليه في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.

مع ذلك، تبنت اللجنة الحكومية، وفق المصدر، رأي بصبوص القائل بأن الفارق في أطوال الشواطئ "غير جوهري"، وأن محكمة قانون البحار لن تمنح لبنان مساحة إضافية، بل ذهبت أبعد إلى حد التخويف من أن أي لجوء للتحكيم قد يكلّف لبنان وقتاً ومالاً، وربما يعرّضه لمطالبة قبرص بمساحات إضافية عند نقطة محددة.

بالتوازي، تشير مصادر قضائية لبنانية لـ"عربي بوست" أن هذا المنطق يغيّر المعادلة لصالح قبرص، على اعتبار أن سقف المطالبة القبرصية المحتملة في أي نزاع لا يتجاوز نحو 60 كلم عند مثلث صغير في البلوك 5، في حين أن إمكانية استعادة لبنان بين 2600 و5000 كلم² تستحق، سياسياً وقانونياً واقتصادياً، تحمّل سنوات من الانتظار في مسار تحكيم دولي لا يغيّر شيئاً في واقع أن الشركات أساساً لم تظهر حماسة تُذكر لدورات التراخيص البحرية اللبنانية.

الضغط الخارجي: من نيقوسيا إلى واشنطن وأبوظبي

مصدر برلماني لبناني يعارض الاتفاقية قال لـ"عربي بوست" إن السرعة التي تحرّك بها الملف لا يمكن فصلها عن الضغط الخارجي. ويوضح أنه وبعد تشكيل اللجنة التي يرأسها وزير الأشغال بثلاثة أيام فقط، وصل إلى بيروت مدير المخابرات القبرصية ومستشار الأمن القومي تاسوس تزيونيس، حاملاً عرضاً واضحاً:

الترسيم وفق اتفاق 2007 كما هو، مع تمديد الخط جنوباً من النقطة 1 إلى النقطة 23، وشمالاً من النقطة 6 إلى النقطة 7.

التحذير من أن أي لجوء إلى التحكيم قد يعطّل استثمار أربعة بلوكات لبنانية وهي: (1 و3 و5 و8)، ويؤخر دخول الشركات لسنوات.

ووفقاً للمصدر فإن التهديد مبالغ فيه تقنياً، إذ إن النزاع الفعلي يطال زاوية ضيقة في البلوك 5، لكن الرسالة السياسية كانت حاسمة، قبرص ليست مستعدة لإعادة فتح النقاش من نقطة الصفر، وتراهن على غطاء أميركي – إسرائيلي لدفع لبنان إلى القبول بصيغة 2007.

من جهة أخرى، تشير الصحفية والباحثة في الملف ندى أيوب لـ"عربي بوست" إلى أن الولايات المتحدة تنظر إلى شرق المتوسط كحقل أساسي لإعادة ترتيب مصادر الغاز لأوروبا بعد أزمة الغاز الروسي.

بعد اتفاق الترسيم بين لبنان وإسرائيل خريف عام 2022، كان من الطبيعي أن تنتقل العين الأميركية إلى إنهاء بقية النزاعات البحرية في المنطقة بطريقة تخدم مصالحها ومصالح حلفائها، وفي مقدمتهم إسرائيل وقبرص واليونان، على حساب لبنان وسوريا وتركيا، وتؤكد أن الترسيم اللبناني – القبرصي يأتي في هذا السياق، كحلقة جديدة في سلسلة تسويات ترسم خطوط الغاز على خريطة سياسية وليس فقط جيولوجية.

ويؤكد مصدر حكومي لبناني لـ"عربي بوست" أن هناك بُعداً آخر للملف، وهو دور إماراتي سري في تشجيع إنجاز الاتفاق. ووفقاً للمصدر، فإن أبوظبي، المنخرطة بقوة في شبكات الطاقة والبنى التحتية شرق المتوسط، تربطها علاقات استراتيجية مع نيقوسيا وأثينا وتل أبيب، وتطمح إلى لعب دور أساسي وممر للطاقة بين المنطقة وأوروبا.

فقد نقل مستشار الأمن الوطني الإماراتي طحنون بن زايد إلى مسؤولين لبنانيين رسالة متكررة بأن تريث لبنان في إقفال الملف "غير مفيد" لصورة لبنان بعد الإتيان بحكم جديد، وأن الترسيم السريع مع قبرص سيعزّز الانطباع بأن لبنان "شريك متعاون" في ترتيبات الاستقرار البحري.

بهذا المعنى، جاء الضغط الإماراتي أقل صخباً من الضغط الأميركي، لكنه خدم الاتجاه نفسه، التعجيل لا التفاوض الصعب.

أين إسرائيل في كل ما جرى؟

على الورق، تبدو قبرص دولة جارة تسعى إلى تعظيم الاستفادة من موقعها المتوسط. لكن في الحسابات الأمنية، الصورة أكثر تعقيداً.
تؤكد أيوب أنه ومنذ عام 2017، فتحت نيقوسيا مجالها الجوي وأراضيها لمناورات إسرائيلية واسعة النطاق تحاكي عمليات هجومية على لبنان. في واحدة من هذه المناورات "مركبات النار" عام 2022، جرى التدريب على ضرب بنى تحتية وقيادات ومواقع تُنسب إلى حزب الله في بيئة جغرافية تشبه الجغرافيا اللبنانية.

هذا المعطى، الذي وثّقته تقارير عسكرية وإعلامية إسرائيلية، يجعل من قبرص شريكاً عملياً في الاستعدادات لأي عدوان مستقبلي على لبنان.

لذا فإن منتقدي اتفاق الترسيم يستخدمون هذا العنصر لإبراز مفارقة إضافية، أن الدولة التي تحتضن تدريبات عسكرية تستهدف لبنان، هي نفسها التي تفاوضه اليوم على حدود ثروته الغازية، في ظل ميزان قوى سياسي وقانوني يميل لصالحها، وبغطاء من واشنطن وعواصم أوروبية.

ثغرة سوريا وتركيا: اتفاق قبرص يعقّد الترسيم شمالاً

من الزاوية الاستراتيجية، لا يُفهم استعجال الترسيم مع قبرص إلا بمقارنته بالركود الكامل على جبهة الترسيم مع سوريا.

فقد اندفع لبنان، تحت ضغط أميركي واضح، وتقاطعات إماراتية – إسرائيلية، لإنجاز اتفاقَي الترسيم مع إسرائيل ثم مع قبرص، لكنه لم يتبع المنطق نفسه مع الجار الشمالي، رغم أن الحدود البحرية اللبنانية – السورية هي المفتاح لاستكمال الخريطة السيادية وتحديد نطاق البلوكات في الشمال.

وفق مصدر "عربي بوست" هناك سببان رئيسيان لهذه المفارقة:

  • استخدام النظام السوري السابق لملف الترسيم كورقة ابتزاز سياسي وأمني، ما عطّل أي مفاوضات جدية لسنوات طويلة، وربط تقدّمها بحسابات أوسع تتعلق بالعلاقات الثنائية والملفات الإقليمية.
  • تجاهل نصائح إقليمية ودولية شدّدت على ضرورة ربط الترسيم مع قبرص بمسار متوازٍ مع سوريا، منعاً لتكرار سيناريو النقطة الثلاثية مع إسرائيل، ولتفادي ترك فراغ قانوني في الشمال يمكن أن يتحول لاحقاً إلى مصدر نزاع جديد.

النتيجة أن بيروت وقّعت اليوم اتفاقاً مع قبرص بمعزل عن دمشق، ما يعني أن أي ترسيم مستقبلي مع سوريا قد يصطدم بحدود مرسّمة سلفاً مع طرف ثالث، في ظل موازين قوى قد تكون أقل ملاءمة للبنان.

والخشية أن يتحول ملف الترسيم مع سوريا، المؤجّل اليوم، إلى أداة ضغط إضافية في يد قوى إقليمية ودولية لاحقاً، تماماً كما استُخدم الترسيم مع إسرائيل كورقة تفاوض أساسية في السنوات الماضية.

ويبقى الموقف التركي حاضراً في الخلفية، إذ إن أنقرة تعترض أصلاً على الصيغ التي تعتمدها قبرص واليونان في شرق المتوسط، وتعتبر أن لها حقوقاً بحرية أوسع مما تعترف به الاتفاقيات القائمة.

الحكومات اللبنانية المتعاقبة كانت حذرة تقليدياً من الذهاب إلى ترسيم نهائي مع قبرص دون أخذ الموقف التركي في الحسبان، من هنا يؤكد المصدر الحكومي أن حكومتي الرئيسين نجيب ميقاتي وسعد الحريري قدّمتا تعهدات لأنقرة بأن أي ترسيم بحري لن يحصل دون التشاور مع الأتراك.

من هنا يشير مصدر "عربي بوست" إلى أن الاتفاق الحالي يتجاهل هذه الحساسية، ما يجعله عرضة لتداعيات محتملة في حال تصاعد التوتر التركي – القبرصي أو تغيّرت التوازنات الإقليمية.

خطأ استراتيجي آخر: تجارب التنقيب

إلى جانب ملف الترسيم مع قبرص، ارتكبت الحكومة اللبنانية، وفق توصيف خبراء، خطأً استراتيجياً آخر في إدارة ملف التنقيب نفسه، تحديداً في البلوك 8 جنوباً.

الصحفية المتخصصة في الملف، ندى أيوب، أوضحت أنه وبدل قبول عرض شركة TGS النروجية – الأميركية بإجراء مسح ثلاثي الأبعاد مجاني لأكثر من 1200 كلم في البلوك 8، مع التزام بمعالجة البيانات والتسويق لها عالمياً بما يوسّع قاعدة الشركات المهتمة، اختارت الحكومة الاستجابة لطلب شركة "توتال" بإجراء مسح لثلاث سنوات قبل أن تقرر ما إذا كانت ستبدأ الحفر أم لا.

فعلياً، مُنحت الشركة الفرنسية هامشاً زمنياً طويلاً يؤخر أي استكشاف فعلي، من دون مقابل واضح، في حين تم تجاهل عرض ذي قيمة معلوماتية وتجارية عالية من شركة TGS.
بهذا المعنى، يتقاطع التفريط في المساحات البحرية شمالاً (مع قبرص) مع "التساهل" في شروط الاستثمار جنوباً (مع إسرائيل)، بما يعزز الانطباع بأن إدارة ملف الغاز اللبناني تجري وفق أولويات الشركات الكبرى والضغوط السياسية الخارجية أكثر مما تجري وفق استراتيجية وطنية متكاملة.

الخلاصة… الاتفاقية ملف مفتوح لا ينتهي بالتوقيع

بهذه الصورة، لا يمكن قراءة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص كخط تقني على خريطة فقط. هي نتيجة مسار سياسي وقانوني متشابك يختلط فيه:

استعجال حكومي موضع شك.

تجاوز محتمل لصلاحيات مجلس النواب.

استبعاد منهجي لخبراء ودراسات تمنح لبنان مساحة أوسع.

ضغوط قبرصية – أميركية – أوروبية، واهتمام إماراتي غير مفهوم الأهداف.

فراغ مستمر على جبهة الترسيم مع سوريا وتركيا.

قرارات نفطية مريبة في الجنوب تغذي الشكوك حول الطريقة التي تُدار بها ثروة الغاز اللبنانية.

الأكيد أن ما بعد التوقيع لن يكون محطة هادئة، فالاتفاقية باتت تحت مجهر مجلس النواب، وديوان المحاسبة، والرأي العام، وأي طعن دستوري أو تحرك قضائي أو سياسي يمكن أن يعيد فتح النقاش من جديد. والأسئلة الجوهرية تبقى نفسها: هل تصرّف لبنان كدولة تدافع عن كامل حقوقها البحرية، أم كطرف ضعيف سارع إلى توقيع تسوية على قياس التوازنات الإقليمية؟

وهل يكون هذا الترسيم محطة نهائية، أم مجرد فصل في مسار طويل سيُضطر فيه لبنان عاجلاً أو آجلاً إلى إعادة طرح ملف حدوده البحرية من جديد، مع قبرص وسوريا معاً، ولكن هذه المرة بمنهجية مختلفة وبكلفة سياسية أعلى؟

تحميل المزيد