كشفت مصادر خاصة لـ"عربي بوست" أن أحد رجال الأعمال الفلسطينيين البارزين في قطاع غزة، والمقرب من شخصية نافذة في السلطة برام الله، أتم خلال الأسابيع الماضية صفقات استثمارية واسعة لشراء مساحات كبيرة من الأراضي الواقعة في قلب القطاع، في خطوة تتقاطع مع التحضيرات الإسرائيلية-الأمريكية لما يُعرف بـ"اليوم التالي لغزة".
ما الجديد في القصة؟
وفق المعلومات التي حصل عليها "عربي بوست"، فإن عملية الشراء شملت نحو 1830 دونماً (ما يعادل 1.8 كيلومتر مربع)، تمتد من مقبرة السوارحة بمخيم النصيرات حتى بلدة الزوايدة وسط قطاع غزة. وهي منطقة يجري تجهيزها لتتحول إلى مركز لوجستي ضخم ومحطة رئيسية لعمل المنظمات الدولية والإغاثية خلال المرحلة المقبلة.
وتتمتع المنطقة التي يدور الحديث حولها، وفق ما عاينه موقع "عربي بوست"، بموقع استراتيجي مزدوج: فهي تتقاطع مع شارع صلاح الدين الذي يشطر القطاع طولياً. كما تقع على امتداد طريق الرشيد الساحلي.
وتقع المنطقة على امتداد معبر كيسوفيم التجاري الذي أعادت إسرائيل تشغيله لأول مرة منذ إغلاقه عام 2007، وهو ما يعزز فرضية أن المنطقة ستكون منصة رئيسية للتحكم في حركة المساعدات والإغاثة وإدارة الاحتياجات المدنية بعد الحرب.
كما أن هذه المنطقة التي استحوذ عليها رجل الأعمال الفلسطيني هي منطقة زراعية وتضم شاليهات ومنتجعات صغيرة، وبالتالي فالتواجد السكاني فيها قليل، لذلك لم تحدث عمليات بيع الأراضي في المنطقة ضجة شعبية أو إعلامية.
وتشهد المنطقة المعنية تنافساً بين منظمات دولية وإقليمية تسعى للحصول على أكبر قدر من الأراضي، وعلى سبيل المثال تُقيم عملية "الفارس الشهم" التابعة للإمارات في المنطقة مستودعاً ضخماً تدير به عملياتها.
لماذا يهمنا الخبر؟
تشير مصادر "عربي بوست" التي فضّلت عدم ذكر اسمها إلى أن عمليات البيع تمت في ظروف استثنائية قوامها الضغط والتخويف، وأن الهدف الأساسي من وراء عمليات الشراء إعادة هندسة القطاع جغرافياً. كيف ذلك؟
- تلقى ملاك الأراضي إشارات مباشرة أن إسرائيل كانت تخطط لاجتياح وسط القطاع بعد انتهاء هجومها على مدينة غزة.
- هذا السيناريو دفع كثيرين للإسراع في بيع أراضيهم خشية أن تلقى مصير المناطق الشرقية التي جرى قضمها وتدميرها بالكامل على امتداد ما بات يُعرف بـ"الخط الأصفر".
- تقع المنطقة التي يجري الحديث عنها في وسط القطاع وتحديداً في الجهة الغربية منه، وهي منطقة لم يدخلها جيش الاحتلال كما أنها لم تتعرض لعمليات قصف كثيرة بخلاف المناطق الشرقية التي شهدت دماراً واسعاً.
- حافظت المنطقة إلى حد كبير على بنيتها التحتية، فالطرق الإسفلتية، وشبكات المياه والصرف الصحي، والكهرباء والاتصالات، بقيت صالحة للعمل، ما يجعل المنطقة الأكثر ملاءمة لوجستياً لعمل المنظمات الدولية مقارنة بمناطق مثل رفح وخان يونس وغزة.
خلف كواليس شراء أراضي قطاع غزة
وفق مصادر "عربي بوست" فإن من قام بشراء الأراضي هو رجل الأعمال "م . ش"، وهو من الشخصيات المقربة من نائب رئيس السلطة الفلسطينية حسين الشيخ، ويتمتع بشبكة علاقات قوية مع رجال أعمال إسرائيليين انعكست على نشاطه في قطاع غزة.
- برز اسمه في الحرب بصورة لافتة، حيث منحته إسرائيل الحق الحصري لتوريد البضائع والمساعدات من معابرها وإدخالها للقطاع، وهذا الاستثناء لم يحصل عليه أي رجل أعمال في غزة.
- "م . ش" هو واجهة لإتمام عمليات شراء الأراضي، أي أنه لم يقدم على هذه الخطوة لولا أنه قد طُلب منه ذلك إسرائيلياً.
- منذ الحرب وحتى اللحظة، هو من يقوم بعملية بيع التنسيقات الخاصة بإدخال المساعدات للمنظمات الإغاثية، ويقوم بتوريد البضائع للتجار وتوصيلها لهم عبر شاحناته التي تملك الحق في الوصول لمعبر كرم أبو سالم، وهي منطقة تقع في رفح التي يسيطر عليها الجيش، وبالتالي لا يستطيع أي تاجر الوصول لها دون موافقة أمنية مسبقة.
ماذا هناك أيضاً؟
تعاني المنظمات الدولية حالياً في قطاع غزة من أزمة مالية حادة نتيجة الارتفاع الكبير في تكاليف التخزين، إذ إن استئجار مستودع مساحته دونم واحد (1000 متر مربع) في المناطق الغربية يصل إلى 50 ألف دولار شهرياً، بينما تنخفض التكلفة شرق القطاع إلى نحو 15 ألف دولار.
إذ إن قرب المستودعات الشرقية من الخط الأصفر وخطر تجدد العمليات العسكرية يجعلها خياراً غير آمن، ما يزيد الضغط على المنظمات ويجعل خيار "الوسط اللوجستي" أكثر جاذبية. وأصبحت منطقة الزوايدة مقصداً لطبقة جديدة من رأس المال المحلي والدولي.
رئيس تحرير صحيفة "الاقتصادية" محمد أبو جياب كشف لـ"عربي بوست" أن "عدداً كبيراً من رجال الأعمال والمسؤولين عن قطاعات الإغاثة والتجارة انتقلوا مؤخراً للإقامة أو الاستثمار في المنطقة، في حركة تبدو منسقة وغير عشوائية".
وأشار إلى أن المستثمرين لا يتحركون دون معلومات، وشراء الأراضي تم في فترة قصيرة وبـ"إغراءات مالية كبيرة" دفعت الملاك للتنازل عنها. كما أن جهات دولية باتت الآن تتنافس على الاستحواذ على مزيد من الأراضي باعتبار المنطقة ستكون مركز السيطرة والإدارة في غزة خلال المرحلة القادمة.
يؤكد أبو جياب أن المشروع الذي تتم هندسته بصمت قد يعيد تعريف الجغرافيا الإدارية والاقتصادية للقطاع. فبدلاً من تركز الخدمات في مدينة غزة أو رفح، قد تنشأ في وسط القطاع عاصمة لوجستية جديدة تُدار من خلالها: عمليات توزيع المساعدات، نشاط المنظمات الدولية الكبرى (الأونروا، اليونيسيف، أنيرا، الهلال الأحمر، IHH وغيرها)، وربما لاحقاً البنية الأولية لأي إدارة مدنية مرشحة لما بعد الحرب.
ما بين السطور
لا يمكن فصل هذا التحرك الاقتصادي-العقاري في قطاع غزة عن التحولات السياسية المرتبطة بـ"اليوم التالي". فثمة توافق دولي على أن غزة باتت تدخل فعلياً مرحلة "الوصاية الدولية الناعمة"، التي تدمج بين إشراف دولي وإدارة لوجستية تتحكم فيها إسرائيل. أحد مظاهر ذلك:
- السعي لإبعاد حركة حماس عن المشهدين السياسي والإغاثي في قطاع غزة، وإعادة هندسة منظومة المساعدات لتصبح خاضعة لغرفة تحكم دولية وإسرائيلية تشبه نموذج النقاط الأمريكية (GHF) الذي فُرض خلال الحرب.
- تصريحات إسرائيلية أخيرة تشترط الإبقاء على "مؤسسة غزة الإنسانية" وعدم تفكيكها، في إشارة إلى رغبة تل أبيب في استمرار نموذج إداري يضمن لها التحكم في تدفق المساعدات لكن بصورة أقل صدامية مقارنة بفترة الحرب، التي شهدت انتقادات دولية حادة بسبب استهداف المدنيين وطوابير الانتظار.